أولى

مفاوضات ساخنة في زمن سقطت فيه الأقنعة…

} علي حسن عبدو*

لم نعُد نشعر بأنفسنا، أو نعرف من نحن.

لم نعُد نقرأ تاريخنا، ونفهم حاضرنا علّنا نُدرك مستقبلنا.

لم نعُد نقتنع؛ هُم الصادقون وأصحاب الشّرعيّة ونحن الدخلاء غير الشّرعيين في المنطقة.

وكأنّ التاريخ والجغرافيا والاقتصاد والسياسة يتقاذفوننا كلّ في جهة وشتات لا عودة بعده.

هم لم يتركوا موطئ قدم لمقاوم شريف في دولنا نتيجة الاتّفاقيّات الأمنيّة المشبوهة والتطبيع المُتدحرج.

ألم نعُد نخجل من سذاجتنا.

بالأمس القريب أعلن الرئيس الفلسطيني انسحاب بلاده من اتفاقيّةأوسلوالتي غيّرت وجه المنطقة نتيجة حفلة الدجل والانبطاحيّة في الأنموذج الذي قدّمته، والتي لم تعِها حكوماتنا وبعض شعوبنا إلّا بعد أن فقدنا ما فقدنا، واليوم بدأنا مرحلة جديدة بالاستعاضة عنأوسلوالقتيلة، وكأنّهم قاموا بحملة تنويم مغناطيسي ضدّنا بتجميد قرار الضمّ لحين استيقاظنا متناسين ما حصل ويحصل.

لقد استرسل الرئيس الأميركي دونالد ترامبعرّاب الصفقاتكما العادة بتفنيد محاسن الاتّفاق بين الإمارات العربية المتحدة والكيان الصهيوني، مُعلناً أنّه سيؤدّي إلى فتح العلاقات المباشرة بين اثنين من أكثر المجتمعات ديناميكيّة في الشرق الأوسط، والاقتصادات المُتقدّمة، وإلى تغيير المنطقة من خلال تحفيز النمو الاقتصادي وتعزيز الابتكار التكنولوجي، وإقامة علاقات أوثق بين الناس، كما ادّعى أنّهبالعمل معاً ستُساهم هذه الجهود في إنقاذ حياة المسلمين واليهود والمسيحيين في جميع أنحاء المنطقة”.

لقد استثمر ترامب في التوقيت المناسب له وبالسرعة المطلوبة، وضمّ الإمارات إلى جانبإسرائيللإطلاق أجندة استراتيجيّة للشرق الأوسط بهدف توسيع التعاون الدبلوماسي والتجاري والأمني، واستذكر وشكر دعم الإمارات العربيّة لرؤيته للسّلام، ودعا تلك الأطراف إلى مواصلة جهودها للتّوصّل إلى حلّ عادل وشامل ودائم للصّراع العربي الإسرائيلي الذي أنهكتهإسرائيلوبدعم دائم من الإدارات الأميركيّة المُتعاقبة.

والأهمّ أنّه أعطى تعليماته لجميع المسلمين الذين يأتون بشروط سلامه لزيارة المسجد الأقصى والصلاة فيه، في حين يجب أن تظلّ الأماكن المُقدّسة الأخرى في القدس مفتوحة للمُصلّين المُسالمين حسب مفهومه من جميع الأديان.

إنّه لغريبٌ أمر هذا العالم، خصوصاً عندما تبلغ الوقاحة أوجَها.

إنّه اتّفاق المزيد من الاستفزاز، والمزيد من الخسارة لمن أراد الخسارة واستسلم من دون إرادة.

إنّه اتّفاق السلام من وجهة نظرهم، واتّفاق الخنوع والاستسلام واللاسلام من وجهة نظرنا.

إذ فجأة أحبّ الكيان الصهيوني المسلمين، ونفض عن نفسه غُبار التعصّب الديني، وتناسى نشأته على أنقاض التاريخ المُزوّر والعقيدة المشبوهة والدّيانة المُزيّفة والثقافة المُبتكِرة لكافة أنواع التطرّف.

فها هو ترامب يعِد ببناء الاستراتيجيّات التي تجعلنا بُلداناً ضعيفة من دون سلاح، لكي يستطيع بسلامه سرقة الطاقات والمُقدّرات ويتحكّم بالمال والعباد من دون عناء، وصولاً إلى طمس الهويّة والتاريخ والجغرافيا.

كلّ ذلك يجعلنا نتساءل أيّة استراتيجيّات ستُبنى عن طريق تعميق فجوة القوّة غير المُتكافئة أصلاً، فهل العدالة اللامتكافئة والتي قبِلها الفلسطينيّون على مضض طُبّقت منذ أوسلو وتوابعها!

اليوم وعلى ما يبدو ستُطبّقأوسلوبجميع بنودها في غير جهة من هذا العالم عن طريق فرض عدالتهم السلسة ودبلوماسيّتهم الشفّافة التي لم نستطع حلّ رموزها رغم سلاستها وشفافيّتها، فتفوّقت ببضع دنانير وبعض براميل نفطيّة، حيث أنّ تباشير ترامب واضحة ولا تحتمل التّأويل.

هو خاطبنا آمراً، ستُصلّون كما نُريد، وتعبدون إلهاً من تمر نُنصّبه لكم ونُجبِركم على أكله ساعة جوعكم، ستعبدونه في دورٍ تحت حُكمنا ورعايتنا وسُلطاننا.

كم أنت براغماتيّ في تحريك بوصلتك يافخامةالرئيس ترامب.

كم ستعكس خبرتك في عالم الاستثمار والمال زلازل في إدارة اللعبة القذرة.

لقد بدأ بالإعلان عن الاتّفاقيّات المُنتظَرة المتعدّدة بين الإمارات العربية المتّحدة والكيان الصهيوني، ومهّد لما سيليها عندما تكُرّ السبحة، فها هم باتّفاقيّاتهم سرقوا أبراجنا تمهيداً لإضاءتها بعلم الكيان الصهيوني المحتلّ الظالم بدلاً من إضاءتها برايات الحق المُشبعة بدماء شهداء فلسطين ولبنان وسورية والعراق وكلّ نقطة دم طاهر من أبناء هذه الأمّة، وها بعضُنا وفي هذا التوقيت القاتل الذي يعمل خلاله الشُّرفاء لاستعادة العواصم العربية المسلوبة يعمل لتسليم ما تبقّى من عواصمنا.

ها هم زرعوا وتلقّف البعض فسادهم على أنقاض فلسطين الجريحة ولبنان المُتألّم وسورية المُنهكة والعراق الأبيّ وباقي دولنا العصيّة.

فبالأمس انتقم من بيروت المقاومة لأنّها طردت عبر مرفأها القوّات الأميركيّة وأذلّت القوّات الفرنسيّة عام 1983 وغيرهم من قوات الاحتلال وعلى رأسهمالإسرائيليفي الجنوب، فتحمّلت بيروت ضربة موجعة ستكون لها تداعيات كبيرة وخطيرة بقدر حجم الاستهداف والدمار الذي خلّفه، وكما العادة؛ كانتإسرائيلالسبّاقة في الاستفزاز بحيث قامت بالرقص على أشلاء الشهداء وآلام الجرحى وأنين أُمّهات المفقودين بإضاءة العلم اللبناني في فلسطين المُحتلّة، وبسرعة تلقّت هديّة ردّ الجميل عبر غرس رايات كيانها الغاصب في أرض قاحلة وسط صحراء عطشى سوى منكرامةالنفط.

إنّ تداعيات هذا التفجير وكذلك تداعيات مثل هذه الاتّفاقيّات والتي بدأت تظهر ملامحها عبر محاولة تدويل لبنان بوابة المقاومين وفاتحة الانتصارات ستكون خطيرة على مُريديه، ولعلّها ستكون خيراً على محور المقاومة في زمن أُزيلت فيه الأقنعة وتوضّحت الرؤى وتكشّفت الحقائق، فسرعان ما ستُدرك الإمارات فداحة الخطأ الذي سيُسجّله التاريخ نقطة سوداء في قاموسها ويضعها تحت أنقاض ستهدمها بيدها، ورُكام ستحرقهإسرائيلبنفطها كما أحرقت أوسلو بعد أن قتلتها، وسلبت بتوقيعها ما سلبت.

كم أخشى عليك أيّها اللبنان لشدّة صبرك

كم أخشى عليكِ يا فلسطين لطيب تحمّلك كلّ تلك الآلام.

كم أخشى على الإمارات من هول وطمع ووحشيّة ولا إنسانيّة هذا الكيان.

وكم أخشى على الأُمّة كلّ الأُمّة من عدوّ الخارج وشيطان الداخل.

ولكن الخلاصة مزيداً من الصبر، فنحن لم نكن يوماً دُخلاء غير شرعيين، ولن نُصبح يوماً مُستعرِبين، فنحن الشرفاء ونحن الأصالة التي نالت وسام الانتصارات بالحق، وسنُكمل تلك الانتصارات بقوّة الحق.

نحن من نُجيد السباحة في بحرنا المُتوسّط، ونعشق أمواجه العاتية ونعرف كيف نصنع البطولات بكلّ معانيها.

نحن من نتفانى ونتألّق في اللعب بالنار التي تقومون بإشعالها.

وأمّا لمن أضاع البوصلة فنرى بأنّكم أصبحتم تفصيلاً ستندثرون وتتلاشون مع اندثار وتلاشي من خضعتم له.

ستكون مفاوضات ساخنة تُلامس عتبة الثمانينات بخطورتها وأكثر على ما يبدو، وسنكون خلالها أكثر وعياً وصبراً واستعداداً في زمن سقطت فيه الأقنعة

*باحث في العلاقات الدوليّة والدبلوماسيّة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى