الوطن

أَثَرُ سَلْخ لبنان الصغير
عن شامِه الكبير

} السيد سامي خضرا

منذ قرنٍ من الزمن ابتُكِرت مصطلحات جديدة لم تكن مألوفة بيننا، كالحديث عن الصيغة الفريدة والعيش المشترك والتعايش بين الطوائف والنموذج الفريد والتَّنوُّع العتيدوبطريقة فيها الكثير من التَّصنُّع والمُبالغة!

وقد بيَّنا ذلك في جُملة مقالات.

فأصبح كلّ مَن يريد أن يتكلم عن لبنان الحديث، لا بُدَّ له من أن يتحدث عن هذه المفردات الممجوجة، ويُصاحبُ ذلك تغافلٌ مقصود عن حقائق تاريخية واكَبت سَلْخ لبنان عن شامِه الكبير.

واليوم وفي حفلة الصَّخَب الجديدة الحالية، نرى الترويج بلا خجل للمستعمِر «غورو» الذي يُسمَّى بالمناسبة أحد شوارع لبنان الكبرى بإسمه، على خلاف الدُول التي تحترم سيادتها وتضحيات شعوبها!

لكن:

هل فعلاً أنّ ما يُسمَّى بلبنان الكبير هو خيارُ هذا الشعب في سَلْخِه عن أمه الحقيقية وأُمَّته الشاميَّة التاريخية واستبداله بأمّ «حنون» لم تُعرف في تاريخها إلا مُخضَّبة بالدموع والدماء والنهب؟!

 فالمسلمون الشاميون بمجموعهم كانُوا مُعارضين لهذا السَّلخ الجديد لأسبابٍ كثيرة عقائدية وتاريخية واجتماعية واقتصادية، حيث لا يمكن أن يتنازلوا عن العُمق العربي الإسلامي لصالح إدارة استعمارية غربية بمؤسسات تنصيرية تبشيرية تُشكِّل مُستعمَرة للغرب في قلب العالم الإسلامي.

بل إنَّ بعض المسلمين رفض الانصياع وتَمثَّل ذلك برفض حمل الهوية اللبنانية بل تجنَّبُوا الوظائف الرسمية في دولة لبنان الكبير.

كذلك كثيرٌ من المسيحيين خاصةً الأورثوذكس والكاثوليك فقد كانوا مُعارضين لهذا الكيان الهجين ذي الخلفيات العنصرية لأسباب وخَلفيات كثيرة.

فلا يكفي أن يتَّفق البطريرك الحويِّك مع المُستعمِر الغازي «غورو» ليسلُبُوا مناطق شاسعة من سهول بلاد الشام وحواضر عكار والبقاع والجنوب (اسمه الجديد) والساحل اللبناني ويَضُمُّوهُ إلى مستعمرتهم في توليفة أرادوها بعيداً عن أصحاب الأرض!

لذا كان من الواضح أنّ تحرُّك «غورو» والحويِّك ما هو إلاَّ تركيبة من الصعب أن تَستمر، لأنها عملية تجميع لمشروع غير قابل للحياة!

فالأكثرية السَّاحقة من المسلمين كما أكثرية المسيحيين كانت تعترض على سَلْخِهم عن تاريخهم وجغرافيَّتهم حيثُ وُلِدوا وترَعْرعُوا وصنَع أجدادُهم التاريخ فزُرعوا في أرضهم بعد وفاتهم حتى شاعَت أقاويل وأمثلة تُعبِّر عن هذا الاعتراض كقول بعض المسيحيين «التركي ولا بكركي» و «رب ثلاثين ولا جزِّين».

 حتى أنّ مدينة زحلة التي تُسمَّى حتى اليوم بعاصمة «الكَثْلكَة» في الشرق كانت مُعترِضة على هذا السَّلْخ المُهين والمولود الهَجين.

حتى سُمِعَ الصوتُ مُدَوِّياً من مؤتمر وادي الحجير في 24/4/1920 الذي أعلن المواجهة مع الفرنسيين لصالح الانتماء والهويّة والتاريخ.

 إلى درجة أنّ أول رئيس وزراء لإسرائيل «بن غوريون» اجتمع مع الحويِّك لمحاولة تَسليك هذ المشروع الدخيل وكانت النتيجة كما نرى!

إضافة لهذا ظهرت معارضة فرنسية داخلية تخشى من تفلُّت الأمور من يدها حتى أنّ «غورو» نفسه وبعد سنة فقط من الإعلان الجديد شعر بصعوبة الاستمرار، ففتَّشَ عن تخريجةٍ فيدراليَّةٍ مع سورية إلا أنه وُوجِهَ بمعارضةٍ من صغار النفوس وأصحاب المصالح.

ومن الجرائم التي ارتُكِبت آنذاك بعد تقسيم بلاد الشام وتَسْمِيَة جزء منها بلبنان الكبير أن نُسب اللقيط إلى المسيحيين حصراً مقابل المسلمين في خطوة عشواء!

وبقيت هذه الإرهاصات عقوداً وتمثَّلت بمحاولات شتَّى لسَلْخ مناطق تارة، أو ضمِّها تارة أخرى تمهيداً لإعلان لبنان المسيحي النقي من المسلمين!

 حتى أنّ الكثير مِمَن دَوَّن تلك الحَقبة تحدَّث عن خلافات ومعارك ومجازر بين المسيحيين أنفسهم شهدنا بعض فصولها في السبعينات والثمانينات بعيداً عن خُرافات الفَرادة والتعايش وأساطير التفوُّق النوعي!

لذلك وبكلّ بساطة نرى أنّ لبنان لم يَستقرّ منذ ذلك الإعلان النَّحس فاندلعت الحروب والخلافات في الأربعينات والخمسينات والسبعينات وما زالت مُستمرةً حتى الآن صُعوداً وهُبوطاً بحسب البورصة السياسية، وما زال الوضع يتدهور طائفياً ومذهبياً.

لِذا لا ترى في لبنان شعباً مُنسجماً يقف على تاريخ وهوية واحدة بل شعوباً مُتعدِّدة لا تُميِّز الصديق من العدو!

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى