مقالات وآراء

الفلسفة المدرحيّة.. فلسفة أصيلة تقدّم الترياق لخلاص الأمة والعالم (3/3)

أنطون سعاده دعا شعراء سورية وأدباءها للاطلاع على كنوز التراث السوريّ الروحيّة لتوليد أدب جديد

 

} د. ادمون ملحم

سعاده رفض الاتكاليّةَ والقدريّةَ والتخاذلَ والاستسلامَ وقالَ باتجاه جديد في التفكير يحيدُ عن الحدس والتخمين ويعتمد على موهبةِ العقلِ المُبدعِ والشرعِ الأعلى والأساسيِّ، العقلِ الإرادي الفاعل في الوجود الذي يتأمّلُ ويُدركُ ويُميّزُ الخيرَ عنْ الشرِّ ويخطّطُ للمستقبلِ ويعيّنُ الأهدافَ ولا يرضَى عن الصراعِ في سبيلِ الحياةِ الحرّةِ الكريمةِ بديلاً. هذا التفكير الجديد لا يعكس اتجاهاً نظرياً بل تفكيراً عملياً، أخلاقياً، ساعياً إلى تغيير الواقع وتحقيق وجود أفضل، تفكيراً يعكس نفسيةً صراعيّةً جديدةً محبَّةً للعمل والإنتاج وتواقةٌ إلى الحرية ولا تقبل بغير العز والانتصار موقعاً لها في الحياة. يقول سعاده:

 الحزب القومي الاجتماعي هو كما قلت تعبير عن إرادة حياة لا يمكن أن يصدّها شيء في الوجود، وهو في جهاده وعمله يعلن حقيقة سامية في هذا الوجود هي الحياة؟ وما هي الحياة؟ الحياة عزّ وشرف! الحياة ليست سيارات، الحياة ليست مقتنيات!! الحياة الإنسانية هي قيمة عظيمة في نفس الإنسان!! هي تعبير عن إنسانيّته السامية العظمى! وما هو الإنسان إذا كان مجرّداً من قوة الحياة وجمال الحياة ذليلاً مستعبداً يُساق بالعصى فاقداً الإرادة؟ ما هو المجتمع الإنساني إذا كان مجرد قطيع من البشر كأنه قطيع من الحيوانات مجرّد من ذاتيته وحقيقته ووعيه وإرادته الفاعلة.(74)

 والحق نقول، إن هذه النفسيةُ الصراعيةُ الواثقةُ من نفسها والمعتمدة على ذاتها لتحقيق أهدافها هي عينها النفسية السورية الحقيقية التي عبَّرَ عنها سعاده بفلسفته الجديدة وهي نفسية «مسيطرة طالبة التفوق وإخضاع المادة لأغراضها وذاتيتها»(75)، نفسية «أمةٍ ممتازة بمواهبها، متفوّقة بمقدرتها، وغنية بخصائصها ــ أمة لا ترضى القبر مكاناً لها تحت الشمس».(76)

وهذه الفلسفة الجديدة المعبِّرة عن فاعلية الأمة في الوجود، وعن القوة الكامنة في ذاتها التي «تنمو وتتحرّك وتفعل وتنشئ»: هي «قوة السواعد الحرة، قوة القلوب، قوة الشعور، قوة الإحساس المرهف، قوة الأدمغة، قوة التفكير والتوليد والإبداع والتصور..»، هذه الفلسفة تُحتِّمُ علينا، نحن السوريين، أن ننتصر على الخمول والكسل والاتكالية ونعود إلى الإيمان بذاتنا، بنفسيتنا الجميلة وخصائصها، وبقدرتنا على الخلق والإبداع. يقول سعاده: «إننا نعتقد أنّ الدماغ السوري ليس أقلّ مقدرة وذكاء من أي دماغ في العالم. وهذا الدماغ السوري هو نفسه يعرف ويقدر أن يخطط للمجتمع السوري الخطط والقواعد التي يكون بها صلاحه وعزه».(77)

إنَّ سعاده الفيلسوفَ لم يكن غيبياً مهتماً في أمور الماورائيات ومستفسراً عن منشأ الإنسان ومصيره بعد الموت، بل كان مهتماً بقضايا الوجود الإنساني وتحسينه ورافضاً التعرّض للدين وعقائده التي تقوم على أغراض بحتة وهي إحلال الاعتقاد بالله الواحد وعمل الخير وممارسة القيم الدينية من أجل راحة النفوس وخلودها بعد الموت في الحياة الأبدية. والوجود، بالنسبة لسعاده لا يمكن افتراضه او تصوره من دون المعرفة الإنسانية. فهو يبقى فاقد القيمة ولا يعني شيئاً لحياة الإنسان ولأغراضه. «المعرفة هي التي تعطي الوجود قيمة»(78) وتحوّله إلى حقيقة. فلكي يكون حقيقة، يجب أن يصير معرفة بكل تفاصيله وفروعه. وبكون الوجود هو أمر واقع، فسعاده لم يحاول إثبات وجوده، بل انطلق منه كواقع وحاول فهم حقائقه وأحواله ومشاكله من أجل تحسينه. وفي شروحاته عن القيم الإنسانيّة العليا التي تشكِّلُ موضوعاً من موضوعات الفلسفة المدرحيّة يعتبر سعاده أن تحقيق هذه القيم وكل أماني النفسية السورية في بناء عالم أجمل لا يتم في عالم الغيب أو عالم الخيال بل في عالم الوجود لأن هذه القيم هي قيم اجتماعية متأصلة في الوجود الإنساني المجتمعي، و«لا يمكن أن يكون لها وجود وفعل إلا في المجتمع فمتجه القيم كلها هو المجتمعهو مصدرها وهو غايتها»(79)، فهي تنمو بنموّ المجتمع وتسمو بارتقائه النفسيالثقافي. وفي شرحه عن الحق، كقيمة إنسانية، يقول: «الحق انتصار على الباطل في معركة إنسانية وليس في معركة غيبية أو إلهية تجري وراء هذا العالم ولا يشترك فيها الإنسانالمجتمع الإنساني(80). سعاده، إذاً، بكل ما قاله، لم يأتِنَا بالخوارقِ والمُعجزاتِ ولم يأتِنَا بتكهنات غيبية وبتعاليمَ فيها أباطيلُ ومبالغاتٌ، بل أتانَا فيلسوفاً مخططاً، ومعلِّماً هادياً، ومصلحاً حكيماً، وعالماً اجتماعياً كاشفاً عن حقيقة وجودنا القومي ومؤمنًا بالحقائقِ الراهنةِ التي هي نحنُ، ومؤسساً لنهوضنا القوميّ ومضيئاً طريق الحياة الراقية، الجميلة، لأمتنا ولعالمها العربي وللإنسانية كلها. جاءَنَا بالفلسفة القوميّةِ الاجتماعيةِ المناقبيّةِ، القائلة بالعقل الإرادي الواعيعقل الإنسانالمجتمع، الحرّو«بحقيقة إنسانيّة، كليّة، أساسية هي الحقيقة الاجتماعية: الجماعة، المجتمع المتحد».(81) ودعَانَا لنشقَّ طريقَ الحرّيّةِ والحياةِ لأمَّتِنّا العظيمةِ الجديرةِ بالخلودِ والمجدِ، وللإيمانِ الُمطلقِ بنفوسنا العظيمة، التي تختزن أجمل القيم، و«بحقيقتِنا الجميلةِ الخيّرة القوية والمحبة»(82)، مؤكداً لنا أنَّ «في النفسِ السوريّةِ كل علم وكل فن وكل فلسفة في العالم».(83)

فلسفة غائيّة

والمدرحية هي فلسفة هادفة ملتزمة بقضايا الحياة والأمة وغايتها إنقاذ حياتِنَا القوميّةِ وحياة الإنسانية جمعاء لأنها تسعى:

أولاً، لإصلاح المجتمع السوري المفكك والواهن والغارق في مستنقعات التخلف والتعصب والتقوقع والانعزال بإحداث نهضة مجتمعية خلاّقة تجعل من هذا المجتمع مجتمعاً قومياً موحداً وراقياً له نفسية جديدة وهوية واضحة وقضية قومية مستقلة؛ مجتمعاً يتساوى أبناؤه في ملكيتهم للوطن وثرواته وينصهرون في وحدة قومية جامعة نتيجة اشتراكهم في وحدة الحياة والمصالح والمصير. وهذه النهضة الخلاّقة، الساعية لوحدة قومية تثبت فيها الأمة في معترك الحياة والتفوق، تعتمد نظاماً اقتصادياًاجتماعياً جديداً أساسه الحق والعدل، نظاماً يزيل معوقات التفاعل الاجتماعي ويحافظ على وحدة المجتمع وسلامته وحقوقه ويقوّي مناعته ويحصِّنها بعوامل الانسجام والالتحام و«الاتحاد المتين والتعاون القومي الصحيح» ويسير به في طريق النمو والإنتاج والتقدم ملبياً حاجاته ومصالحه ومحققاً مطامحه في الوصول إلى الحياة الحرة، الجميلة. لذلك يقول سعاده: «إنّ في سورية اليوم نهضة عظيمة تعيد إلى الأمة حيويتها لتعود إلى الإنتاج والعطاء. كما كانت تنتج وتعطي في الماضي».(84) وباختصار، إن إصلاح المجتمع السوري والنهوض به لا يتمان إلا، كما يقول سعاده، «بالاتصال بنظرة إلى الحياة والكون والفن جديدة تجسّم لنا مثلنا العليا وتسمو بها وتصوّر لنا أمانينا في فكرة فلسفية شاملة تتناول مجتمعنا كله وقضاياه الكبرى المادية ــــ الروحية من اجتماعية واقتصادية ونفسية وسياسية وفنية».(85)

وثانياً، «لإعادةِ النبوغِ السوريِّ إلى عملِهِ في إصلاحِ المجتمعِ الإنسانيِّ وترقيته»(86) وإنقاذه منْ تخبُّطِهِ ومشاكله وحروبه المدمِّرة وفي الوصول إلى حياة أجود في عالم إنساني أجمل تسوده أجمل وأسمى القيم الإنسانية والأخلاقية العليا. يقول سعاده:

هوذا صراع عنيف هائل يستولي اليوم على العالم كله تقريباً، شاطراً إياه إلى شطرين لكل شطر مصالحه العميقة في هذا الصراع ولكل جبهة من المصالح نظريات ومبادئ تتستر وراءها وتعلن أنها تحارب من أجلها. إننا نشهد الآن صراعاً عنيفاً في حرب عالمية هائلة لم يسبق لها نظير بين نظرية الشيوعية أو الاشتراكية القائمة على الأساس الماركسي الذي يفسّر الحياة، ويريد إقامة نظام جديد في العالم كله، بالمبادئ المادية، ونظرية الفاشستيين والاشتراكيين القوميين القائمة على الأساس المزينياني والنيشوي الذي يفسر الحياة ويريد إقامة نظام جديد في العالم كله بالمبادئ الروحية. إنّ سورية لا تقف تجاه هذا الصراع الهائل واجمة واجفة. إنّ النهضة السورية القوميّة الاجتماعية تعلن أن ليس بالمبدأ المادي وحده يُفَسَّر التاريخ والحياة تفسيراً صحيحاً، ويُشاد نظام عام ثابت في العالم، وأنه ليس بالمبدأ الروحيّ وحده يحدث ذلك.

والفلسفة المدرحيّة بما تقدّمه من نظراتً حضارية جديدة يمكن اعتبارها فلسفة الحياة الجديدة الفاضلة والمصارعة في سبيل الأفضل والأسمى والأجمل لأنها تطمح بترقية حياة السوريين وبتنزيه حياة البشرية وتطهيرها من عيوبها وآفاتها وإنقاذها من ويلاتها وجموحها وأعدائها والارتقاء بها لتصبح هذه الحياة كريمة وفاضلة ونامية وخالية من مشاكل الفقر والجوع والظلم والاستبداد والعنصرية والكراهية والحروب البشعة ومليئة بالجمال والخير والبحبوحة والعدل والحرية والسلام.. حياةٌ جميلةٌ سامية يسعدُ فيها الإنسان ويحيا بعز وهناء وكرامة مندفعاً بقيم مجتمعه العليا ليُجسِّدَ إنسانيته الخيِّرة ويحقق ذاته وإمكانياته وليفجِّرَ عبقريته في مواجهة معوقات الحياة وفي تحقيق الإنجازات الإبداعيّة والبطولات المعرفية والانتصارات العلمية على طريق التقدم والارتقاء. لذلك أوضح سعاده «أن الغرض من إقامة نظام جديد لحياتنا هو لجعل الحياة أرقى وأفضل وأجمل»(87)، «فالحياة وجمالها وخيرها وحسنها هو الغاية الأخيرة» (88) التي نسعى إليها.

هذه الرؤية الكامنة في الفلسفة المدرحيّة والتّواقة لحياة راقية ولعالم إنساني جديد فيه كل أسباب التقدم والعدل والحرية والخير والجمال تعكسُ سمو النفسية السورية الجميلة ومثلها العليا وقدرتها على الإبداع الفكري ومواجهة قوى الشر والباطل والظلم، وهذا ما أكده سعاده في كلمة له في القوميين الاجتماعيين، إذ قال: «إنّ فينا جوهر الأمة، وجوهر الأمة هو الخلق والإبداع والتفوق».(89) إن فلسفة النهوض القومي، المدرحية، ستعود بسورية الناهضة إلى أصالتها وجوهرها، إلى دورها الطبيعي الحضاري، أمة ثقافية، خلّاقة، ومعطاءة، تتفاعل مع الثقافات الإنسانيّة وتبني معها صروح الحضارة بمواهب أبنائها وتفوقهم وبما حصلوا عليه من علوم ومعارف وبما أنجزوه من اكتشافات وإبداعات.. أمة مشِّعة بفكرها، متألقة بقيمها وفضائلها، وشاعرة بمسؤولياتها الإنسانيّة.. أمة تدافع عن الحق والعدل والحرية وتهدي الأمم المسلوبة إرادتها والمغلوب على أمرها من قبل قوى الشر والظلم والاستغلال التي ألغت إرادة الشعوب ومواهبها وحوّلتها إلى شعوب مظلومة ومقهورة تعاني من أنظمة القهر والاستبداد والفساد والإذلال.. فلسورية دور بطولي وحضاري وهو ان تكون معلّمة وهادية للأمم تحمل إليها القيم السامية والمناقب الجديدة ورسالة التوعية والإشعاع الفكري والروحي، وتقودها على طريق الصراع والتحرر والتقدم والسلام.. وكما أكد سعاده في محاضرة له ألقاها في جمعية العروة الوثقى سنة 1932 حيث قال: «إن في الحياة السورية مثالاً أعلى هو العمل للخير العام في ظل السلام والحرية».(90)

الأساس العلميّ للمدرحيّة:

فلسفةُ المدرحية، كما أشرنا أعلاه، تشرح الارتقاء الإنساني الحاصل نتيجة تفاعلِ العوامل الماديةالروحية في مجرى الزمن داخل القطر الواحد أي ضمن البيئة الجغرافيةالطبيعية. وقد وضع سعاده كتابه العلمي: «نشوء الأمم» ليشرح مسار تطور الاجتماع البشري القديم قدم الإنسانية مبتدئاً من الاجتماع الأوليّ الوحشيّ، القائم على رابطة الدّم، ومنتهياً بالاجتماع الراقياجتماع الشعوب التي أخذت بأسباب الحضارة وأنشأت الثقافة.

ويمكن اعتبار «نشوء الأمم»، أساساً علمياً متيناً لعلم اجتماع الأمة، أو علم الاجتماع القومي، لأنه، كما يشير سعاده، كتاب «جامع مستوفٍ الوجهة العامّة من نشوء الأمم بجميع مظاهرها وعواملها الأساسيّة».(91) وفي مقدمة الكتاب، يؤكد سعاده على المنحى أو الأساس العلمي للكتاب، إذ يقول: «ولما كانت حاجة النهضة القومية إلى هذا الأساس العلمي ماسّةً رأيت أن أدفع المخطوطة الوحيدة إلى المطبعة وهي في حالتها الأصليّة، كما خرجت من السّجن».(92) ويضيف: «إنّ نشوء الأمم كتاب اجتماعيّ علميّ بحت تجنّبت فيه التّأويلات والاستنتاجات النّظريّة وسائر فروع الفلسفة، ما وجدت إلى ذلك سبيلاً(93) من هذا المنطلق، يمكن فهم كتاب «نشوء الأمم» على أنه شرح علمي وافٍ لكيفية نشوء الأمة ولتعريفها ومحلها في سياق التطور الإنساني. وفي هذا الشرح الضروري لضبط مفاهيم الأمة المشوّشة، والمصطبغة بمدلولات دينية وعنصرية، ولإيضاحها وتحديدها تحديداً واضحاً بالمعنى الاجتماعي العلمي العصري، استند سعاده على أحدث الحقائق الفنيّة والعلمية، حقائق الحياة والاجتماع، التي توصل إليها علماء الاجتماع والإنتروبولوجيا والإثنولوجيا والجغرافيا البشرية والبيولوجيا والجيولوجيا والكيمياء في زمانه، والّتي تنير داخليّةً المظاهر الاجتماعيّة.(94) كما اعتمد في بحثه مناهج علمية وصولاً إلى الحقائق التي توصل إليها. ومن هذه المناهج:

منهج التسلسل التحليليّهذا المنهج «يقوم على تقسيم أو تجزئة الظواهر أو المشكلات البحثية إلى العناصر الأولية التي تُكَوِّنها؛ لتسهيل عملية الدراسة، وبلوغ الأسباب التي أدَّت إلى نُشوئها. وفي تعقبه للظواهر منذ نشأتها، يحاول هذا المنهج تحليل الوقائع الماضية وتفسيرها من أجل الوقوف على عوامل تغيّر الظواهر وتطورها من حال إلى حال وصولاً إلى صورتها الحالية. وهذا ما فعله سعاده في «نشوء الأمم»، إذ اعتمد في بحثه منهجاً تحليلياً تاريخياً، استردادياً، متسلسلاً، وواضحاً، لظاهرة الاجتماع الإنساني وتطوره وظروفه وحقائقه، عائداً إلى البدايات حيت كانت الأرض وليس عليها حياة. وتناول بالتحليل ايضاً ظاهرة نشوء الدولة، كمظهر سياسي من مظاهر الاجتماع البشري، فتعقّب هذه الظاهرة منذ نشأتها، وحاول تحديد التغيرات والتطورات وصولاً إلى الدولة الديمقراطية القومية. وحلّلَ، أيضاً، ظاهرة الأمة، كواقع اجتماعي طبيعي، وحدّدَ تعريفها. كما ناقش سعاده ظاهرة القوميةالظاهرة النفسية الاجتماعيةالتي وصفها بعصبية الأمة، وقال: هي «يقظة الأمّة وتنبّهها لوحدة حياتها ولشخصيّتها ومميّزاتها ولوحدة مصيرها».(95) كما عرّفها بكلام آخر، مؤكداً على طبيعتها الروحيةالشعورية، فقال: «إنّها الوجدان العميق الحيّ الفاهم الخير العامّ، المولّد محبّة الوطن والتّعاون الدّاخليّ..».(96) و«هي الرّوحيّة الواحدة أو الشّعور الواحد المنبثق من الأمّة، من وحدة الحياة في مجرى الزّمان».(97)

منهج الاستقراءاعتمد سعاده منهج الاستقراء ليقرّر أن الأمة، كل أمة، ليست سلالة واحدة، بل هي مزيج من السلالات. فبعد ان لاحظ أن الأفراد في سورية وكذلك في مصر والبرازيل والأرجنتين وأميركانية، لا يتشابهون في صفاتهم الفيزيائيّة: كلون البشرة ومساحة الجمجمة وحجمها وأوصاف الوجه والأنف والعينين وغيرها من الصفات، استنتج، عندئذ، أنّ الأمة، من الوجهة السّلاليّة أو من وجهة الأصل، لا تتكوّن من سلالة واحدة بل هي مركّب أو مزيج معيّن من السلالات والشعوب تماماً «كالمركّبات الكيماويّة الّتي يتميّز كلّ مركّب منها بعناصره وبنسبة بعضها إلى البعض الآخر».(98) وبالتالي فإن «كل الأمم الموجودة هي خليط من سلالات المفلطحي الرؤوس والمعتدلي الرؤوس والمستطيلي الرؤوس، ومن عدة أقوام تاريخية».(99) وهذا ما دفعه ليعلن في المبدأ الأساسي الرابع من مبادئ حزبه، الذي يتبع منهج التسلسل التحليلي، أن الأمة السورية هي وحدة الشعب السوري وهي النتيجة «الحاصلة من تاريخ طويل يشمل جميع الشعوب التي نزلت هذه البلاد وقطنتها واحتكت فيها بعضها ببعض واتصلت وتمازجت»(100) وصارت شعباً واحداً.

منهج المقارنةاستخدم سعاده المنهج المقارن في دراسته للظواهر المذكورة أعلاه ليبرز أوجه التشابه والاختلاف في أشكال هذه الظواهر وأطوارها. وباعتماده على هذا المنهج، استطاع سعاده معرفة تطور هذه الظواهر ومقارنة متغيراتها فقدّم التفسيرات الواضحة والتحليلات الفكرية والمعرفية بلوغاً للمفاهيم الواضحة والحقائق ذات البراهين المنطقية. والأمثلة عن جوانب المقارنة في «نشوء الأمم» نجدها في الفصول التالية:

أولاً، في الفصل الثاني، حيث يعرض سعاده لمسألة السلائل البشرية، والفوارق بينها، ولانتشار عقائد السّلالة عند جميع الأمم الحيّة ويقارن بين مختلف هذه العقائد القائمة على الوهم والعصبية الجنونية، مبيّناً كيف تشبّثت بعض الجماعات بنقاوة سلالاتها وادّعت «أنّ سلالتها أفضل السّلالات وأكرمها عنصراً».(101)

ثانياً، في الفصل الرابع، حيث يناقش خصائص الاجتماع البشري ويقارن من ناحية بين الاجتماع الإنساني وعالم الحشرات والحيوانات مظهراً الفوارق بينهما، ومن ناحية ثانية، بين نوعين رئيسيّين من الاجتماع البشري: الاجتماع الابتدائيّ ورابطته الاقتصاديّة الاجتماعيّة هي رابطة الدّم، والاجتماع الراقي ورابطته الاقتصاديّة الاجتماعيّة مستمدّةً من حاجات الجماعة الحيويّة للارتقاء والتّقدّم بصرف النّظر عن الدّم ونوع السّلالة.(102)

ثالثاُ، في الفصل الخامس، حيث يقارن سعاده بين المجتمع البدويّ أو المتوحش وخصائصه والمجتمع العمراني أو المتمدّن، وخصائصه. كما يقارن بين الثقافة الأوليّة ومزاياها والثقافة العمرانية ومزاياها.

رابعاً، في الفصل السادس، حيث يركّز سعاده على نشوء الدولة وتطورها ويعتبرها شأناً ثقافياً، لا بل «أجدر الشّؤون والمظاهر الثّقافيّة تمثيلاً للحياة العقليّة الّتي هي من خصائص الاجتماع الإنسانيّ».(103) ويقارن سعاده بين أشكال الدولة «الدّيمقراطيّة (Democracy) والأوطقراطيّة (Autocracy) والأرستوقراطيّة (Aristocracyووظائفها. كما يتناول أطوار الدولة ومرتباتها مقارناً بين: الدولة التاريخية والدولة الاستبداديّة والدولة المدنيّة والإمبراطوريّة البحريّة والدولة الإقطاعيّة والدولة الدّينيّة والدّولة الدّيمقراطيّة القوميّة.

خامساً، في الفصل السابع، حيث يعرض سعاده لمصالح المتحد ويقارن بين المصالح المتشابهة أو الشّكليّة والمصلحة العامّة أو المشتركة، كما يقارن بين مختلف مصالح المتحد الراقي كالمصالح الحيوية والنفسية (العقليّة) والمصالح الفنية والمصالح الخصوصية والمصالح الاجتماعية. ويقارن أيضاً بين متحد القرية ومتحد المدينة ومتحد القطر وخصائص كل منها.

 

هوامش

(74) ملحق رقم 9، خطاب الزعيم في اللاذقية، 26/11/1948.

(75) أنطون سعاده، المحاضرات العشر، ص 106.

(76) أنطون سعاده، المحاضرات العشر، ص 30.

(77) ملحق رقم 4، خطاب الزعيم في ددهالكورة 17/10/1948، صدى الشمال ـ صوت الجيل الجديد، بيروت، العدد 7، 8/7/1958

(78) أنطون سعاده، المحاضرات العشر، ص 70.

(79) نظرة سعاده إلى الإنسان، النظام الجديد، بيروت، المجلد 1، العدد 2، 1/4/1948.

(80) تعاليم وشروح في العقيدة المجموع والمجتمع بقلم الزعيم،  النشرة الرسمية للحركة القومية الاجتماعية، بيروت، المجلد 1، العدد2، 1/12/1947

(81)  تعاليم وشروح في العقيدة المجموع والمجتمع بقلم الزعيم،  النشرة الرسمية للحركة القومية الاجتماعية، بيروت، المجلد 1، العدد2، 1/12/1947

(82) أنطون سعاده، المحاضرات العشر، ص 22.

(83) أنطون سعاده، المحاضرات العشر، ص 108.

(84)  المذهب القومي الاجتماعي (من خطاب الزعيم في الاجتماعي القومي في نادي «شرف ووطن» في بوينُس آيرس في ديسمبر/ كانون الأول سنة 1939).

(85) سعاده، الآثار الكاملة 1 أدب، الصراع الفكري في الأدب السوري، من الظلمة إلى النور، ص 45..

(86) سعاده في أول آذار، ص 58.

(87) أنطون سعاده، المحاضرات العشر، ص 73.

(88) المرجع ذاته.

(89) سعاده، ملحق رقم 5 كلمة الزعيم في القوميين الاجتماعيين، منشورة في صدى الشمالصوت الجيل الجديد، بيروت، العدد 85.  

(90) أنطون سعاده، الآثار الكاملةالجزء الأول، مرحلة ما قبل التاسيس، بيروت، 1975، ص 238.

(91) سعاده، نشوء الأمم، المقدمة، ص 15-16.

(92) المرجع ذاته، ص 15.

(93) المرجع ذاته.

(94)المرجع ذاته، المقدمة، ص 15.

(95) المرجع ذاته، ص 167.

(96) المرجع ذاته.

(97) المرجع ذاته.

(98) المرجع ذاته، ص 157.

(99) أنطون سعاده، المحاضرات العشر، ص

(100) المرجع ذاته.

(101) سعاده، نشوء الأمم، ص 29.

(102) المرجع ذاته، ص 58.

(103) المرجع ذاته، ص 90.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى