ثقافة وفنون

أول وآخر الكلام: 38 عاماً على مجزرة صبرا وشاتيلا*

 

هنادي لوباني**

دخل أبي في الموت حياً، وهام في لحظات قدسيّة. غابت ذاته عن وعيها، وتعطّلت اللغة، واختطف نفسه، وتداخل فيه الضدّان: الحياة والموت. هل كانا يتغالبان في فيضان نزيف دماغه؟ هل كان يصارع الموت وينكره ويرفضه، أم استقبله كما الحياة؟ ألهذا آثر الصمت حيال ذاك المشهد السرّ الذي كان يقبع في أعماق وجوده؟ هل كانت تلك اللحظات عصيّة على الكلمة حتى بلغة الإشارة؟ هل تلبّسه ذاك الذي لا تفسير له سوى أنه لا يُفسَّر؟ هل غاص في أغواره فازداد عمقاً وغموضاً؟ أم أنه كان مفتوناً بالذهاب بالوجود إلى أقصاه بغية اختبار حدوده؟ هل أغراه جمال الوصل بين الأرضيّ والسماويّ؟ كيف كان ساكناً وهو يحيا احتمال موته؟ وما تلك النظرة المطمئنة التي اعتلته وهو أمام ذاك المحال المستحيل وحده لا يشاركه تلك اللحظات أحد؟

يصعب عليّ أن أتقبّل موت أبي. أن أتصوّر العالم من دونه. كنت أحيا على وقع أن الموت سيقف عاجزاً أمامه. وكان هذا الإحساس من الشدّة بحيث نسبت له ميزة البقاء. أعرف أن كل نفسٍ ذائقة الموت وأن الموت حق، ولكنه أبي؛ ليس كمثله نفس! ولستُ أنا بهذا الكم من حرارة الإيمان، فنسيت وظننته باق. كان قد وعدني أن يوقظني من غيبوبة الحياة ما بين الاغتراب والانتماء، الوجود واللاوجود. كان قد وعدني ألا أنزلق من بين يديه في ممرات الشتات. كان قد وعدني أن يلملمني لنكمل رحلتنا إلى هناك، إلى البياضة وجبل الضوء وحقل الدخان الذي هُجّر منه جدّي. كان يردّد بصوت عالٍ كلمات هارون هاشم رشيد: «سنرجع يوماً إلى حيّنا/ ونغرق في دافئات المنى/ سنرجع مهما يمرّ الزمان/ وتنأى المسافات ما بيننا». وكان يلكزني في كتفي مداعباً، فأكمل بلحن رحباني بمقام العجم: «سنرجع خبّرني العندليب/ غداة التقينا على منحنى/ بأن البلابل لما تزل/ه ناك تعيش بأشعارنا/ وما زال بين تلال الحنين/ وناس الحنين، مكان لنا».

ولكننا لم نرجع إلى حيّنا. طال مكوثنا. رفوف الحمام ما انكفأت تعود ونحن ما زلنا هنا! كم أنا حزينة ووحيدة. ما زلتُ أشعر بألم كل وخزة من إبر الأمصال في ذراع أبي النحيلة بعروقها المتغضّنة النافرة. وما زال قلبي يعتصر وجعاً لذاكرة بقع الدم المتخثر على جلده الأبيض الرقيق. وما زالت تنتابني قشعريرة لصدى كل طنّة ورنّة من تلك الأجهزة الطبيّة بصوتها النشاز. وما زلت أمشي من دون أبي هاذية، ومقهورة من عجزي عن رشوة الزمن ليمنحنا المزيد من الوقت معاً. أنظر إلى السماء فلا أدري إن كان لي أن ألعنها أو أن أسترحم ربٍّ حانٍ بالعباد أن يلطف بي؟ ومَن هو هذا الرب الذي جعل من الموت لطفاً بالعباد؟

في صباح 20 أيلول 1982، سألت أبي هذا السؤال باكية؟ استيقظنا يومها على فجيعة مجزرة صبرا وشاتيلا. قالت أمي: «يا رب لطفك». يا رب لطفك؟! والجثث مبعثرة بشوارع المخيّم بلا رؤوس، ورؤوس بلا أعين، ورؤوس أخرى مهشّمة! يا رب لطفك؟! وأطفال رضّع غرقى في دمائهم! يا رب لطفك؟! وحوامل ببطون مبقورة وصبايا اغتصبن قبل ذبحهن! يا رب لطفك؟! وشباب وشيوخ ذبحوا بسلاح أبيض ودون خسارة رصاصة واحدة! يا رب لطفك؟! من هو هذا الرب؟ وأين كان هذا الرب؟ هل منعته الآليّات «الإسرائيليّة» كما منعت الصحافيين ووكالات الأنباء ولثلاثة أيام متواصلة من معرفة أن مجزرة من أبشع المجازر في تاريخ البشريّة كانت تُرتكب بحق شعب أعزل؟ أم أنه كالعالم حجبت عنه الرؤيا من نار الشمس المتوهّجة نهاراً ونيران القنابل المضيئة ليلاً؟! أم أن الجرافات التي دخلت لجرف المخيّم وهدم المنازل على الأحياء والأموات أخفت عن لطفه قرابة 3500 ضحية من أبناء شعبنا والمئات من أبناء الشعب اللبنانيّ؟

أتخايل أبي وهو يتأتئ: «تأ تأ تأ»، وينظر إليّ ويقول: «نحن شعب لا يموت. نموت لنحيا ولا نحيا إلا بالموت». لم أفهم وقتها مقولته تلك. مسحت دموعي ومشيت باتجاهه صامتة. كان في صوته من الثقة ومن العناد ومن الصبر، وفي حضنه من الدفء والحنان والأمان ما جعلني أمسك على قلبي فأحوّله من ريشة معلقة في شجرة تقلبها الريح ظهراً لبطن، إلى ريشة أمسكت بها يدي بتحكّم بالغ، وخططت بها على صدره وبتكرار يريح: نحن شعب لا يموت. ولكننا نموت. ونموت. في كل يوم نموت. فرداً وجماعة نموت. حتى الكلمات والشعارات ماتت من فرط ابتذالها. وماتت أشياء كثيرة فينا ما كان لها أن تموت، حتى ضاقت بنا الحياة وضاق بنا الموت من فرط هواننا على أنفسنا وعلى غيرنا. وها هو شعبنا في هذه اللحظات ما بين الحياة والموت.

أمسكت بيد أبي، وداعبت البلابل على أنامله كأغصان الزيتون علّها تغرّد نشيد الحياة والحنين. ولما خفت من هول زفير الموت، ضممت أصابعه عليها وأخفيتها في وكر كف الذاكرة وقصصت عليه عساي أدرأ شهوة الموت، ويتم سحب الروح، وتاريخ الوجع فينا بالحكاية. قصصتُ على أبي رواية تاييس لأناتول فرانس. كانت تاييس راقصة في الإسكندرية سئمت حياة اللهو والمجون والرذيلة، فقررت أن تسمع نصيحة الراهب بافنوس بأن تمنح جمالها الفائق للحب الرباني وجسدها لحياة التعبّد في الدير. وبعد أن أخذها إلى الدير، هام الراهب لسنوات باحثاً عن الراحة النفسيّة، بلا جدوى. تعصف بروحه أزمات حادّة. هو الذي اعتقد أن إنقاذ تاييس من براثن اللهو والرذيلة سينقذ روحه القلقة، يصل إلى قناعة بضعفه كإنسان له رغبات وأهواء، وأن أيّ سعي لكبت هذه الحقيقة سيزيده قلقاً. وعندما يصل إلى مسامعه أن تاييس على وشك الموت، تنفجر عواطفه دفعة واحدة: «هي التي سجدت يوماً عند قدميه تقول: أنتَ آخرتي، يسجد هو الآن عند قدميها ويقول: أنتِ دنياي». تاييس نسيت أنها شاخت وتيبّست مفاصلها ولم تعد قادرة لا على الرقص ولا على الصلاة. وبافنوس ملّ الزهد داخل أسوار القهر فصار يعيش الرذيلة في الليل ويضرب على ظهره بالنهار استغفاراً.

وهكذا بتنا نحن.. في خضم سبعين وبضع من عمر نكبتنا، ما حيينا في الحياة حياة ولا متنا موتاً في الموت. في اليوم نموت مئة موتة ونحيا مئة حياة. نستشرف مسرح الحياة من منصة الموت، تماماً كما استشرفها أبي يوم ولادته! كانت جدّتي تردّد: «رفعت مش إبن موت». هكذا تنبّأ الشيخ بالثوب الأبيض الذي جاءها في المنام وهي حامل، ووضع ولداً على حجرها، وقال: «أسميه رفعت». ولما جاءها المخاض بالشهر السابع وهي في الحقل، ولدته وتوأمه، وربطت وقطعت الحبل السريّ وحدَها، وعادت إلى البيت. لم يصدق أحدٌ أن أبي سوف يحيا! كان نحيلاً كشتلة بلا أوراق ترتعش في مواجهة الريح والمطر. نظر جدّي إليه، ورفض أن يُعطيَه اسماً. ونظر لثانيه وكان جميلاً وسميناً، فطبع قبلة على جبينه وأسماه عوض على اسم أبيه. لم تبكِ جدّتي من قسوة اللحظة، بل نظرت إلى أبي فيما كان جسده يرتعش باضطراب ظاهر، وعيناه ذاهلتان لا تستقرّان على مكان، فيهما حزن وخوف وهلع، وذراعاه مشرّعتان في الأفق في انفعال وتوتر وصخب وغرابة. كانت عيناها تطفحان بالحبّ. ضحكت له مثل عصفور يغرّد، حملته وقبّلته وضمته إلى ثديها، وهمست له وحده: «أسميتك رفعت». وانتشر في روح أبي شلال ضياء ونور. وداهمه شوق عارم لأن يبقى في حضنها ولأن يعيش لأجلها. كانت أمي تقول مجازاً: «ما انقطع الحبل السريّ». ومات ثانيه، ودخل أبي في الحياة مع موت أخيه. وكان الموت ثانيه أيام النكبة حين حتّم الصهيونيّ موته من على مسرح التاريخ. فعانده، وأحيا ذاته مع شعبه من رحم فلسطين الأمّ من جديد. وهكذا بعد كل نكبة، وكل نكسة، وكل مجزرة، وكل تطبيع.

فانهض يا أبي.. انهض في شعبك. ولنكن أبناء أمك وأبناء فلسطينك. والله سنرجع. سنرجع يوماً. قد لا أعرف الطريق إلى بيتك بعد أن سكنه يهوديّ غيرك وأجيال منه غيرنا، فالطريق في زمن الما بعدك بات أكثر ظلمة وحلكة ووعورة ومعبداً بمسامير وأشواك الاحتلال وغدر أكثر الأعراب.

أغمض عينيّ كي لا أغرق في ظلمة التطبيع والتوقيع وأوجاع الخيانة، لا أصدق ما أراه. تترنّح بي أسفار ابراهام، تود لو تقذفني خارج زمني وتوئدني عن وجودي.

يغلي دمي، فتركض لغتك في عروق روحي، ويتدفق من ثنايا جسدي كل ما أعطيتني منك، ويزهر كل ما علّمتني وكل ما شيّدته من العبث حباً وعشقاً، تمرداً وبلابل تغرّد بلا عش يؤويها. أنت أنا. زرعتني، فأنبتك مريمية وصباراً وزيتوناً ونوار لوز وليمون. حمّلتني، فحمّلتك. دع يدك في يدي، لا تتركني. لا تخرج مني ولا تذهب عني. أنا أنت. وسأمشي وسأدق كل أبواب المستحيل، وسأحلق وسأعرج للسبع سموات، وسأسري وسأواصل المشوار. وسأقطع هذا الطريق الطويل الطويل لآخري كما قطعته لآخرك. مثقلة بأنين الضحايا بيننا ونعيق قاتلينا وضحكهم وصخب سكرهم، سأعتلي كل موجة هاربة.. إلى هناك. وسأذهب إلى موتي المشتهى بشجن هذا اليقين في داخلي: نحن شعب لا يموت.

 

*مقطع من رواية قيد النشر.

** هنادي لوباني، باحثة وكاتبة فلسطينية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى