أخيرة

السيف الدمشقي: من وطيس الوغى إلى أروقة المتاحف

} جومانة محمود الصالح*

ـ إنّ الحديث عن السلاح بشكلٍ عام وعن السيف بشكلٍ خاص يقترن بالقوة والفروسية التي تعدّ أحد الأنشطة الرياضية التي اعتاد العرب على ممارستها وتعليمها لأطفالهم منذ الصغر، ولقد أولى العرب اهتماماً خاصاً بالأسلحة المستخدمة في الفروسية آنذاك لا سيما السيف، وافتخروا به ونظموا فيه أبياتاً من الشعر العربي الجميل فها هو المتنبي يشدو قائلاً: «الخيل والليل والبيداء تعرفني والسيف والرمح والقرطاس والقلم». وأبو تمام حين قال في فتح عمورية: «السيف أصدق إنباء من الكتب في حده الحد بين الجد واللعب»، لذا نجد العديد من أسماء السيوف التي احتوتها المعاجم اللغوية العربية مثل: الحُسام، المُهند، البتار، الصارم، القرضاب.

اشتهرت مدن بلاد الشام بصناعة المعادن نظراً لوجود المصادر المحلية في جبال لبنان، ودوما، والشوير، ومشارف حوران والقلمون، لكن امتازت مدينة دمشق بصناعة السيوف وإتقانها أكثر من بقية مدن بلاد الشام بسبب جودة المعدن الذي كان يُصنع منه السيف وصلابته وحدّته التي أذهلت فرسان ذلك العصر، لذا حظي السيف الدمشقي بصيت ذائع في أنحاء العالم فعمد الأوروبيون إلى إرسال الجواسيس والمستشرقين لمعرفة سرّ السيف الدمشقي وكيفية صناعته، لكن كل محاولاتهم باءت بالفشل الذريع.

كان السيف الدمشقي خفيف الوزن على نقيض السيوف المعروفة بثقلها وعرضها التي لا يستطيع حملها إلا الفرسان الأشداء، وكثيراً ما خُدع الأعداء برشاقة السيف الدمشقي وخفته فقللوا من شأنه وتهاونوا في ضرباته، لكنهم أدركوا فداحة خطأهم حينما شق دروعهم الحديدية الثقيلة ليصل إلى صدورهم، وقد ذكر الفيلسوف الكندي في رسالته في السيوف والحديد: «عُرفت السيوف الدمشقية بجودتها منذ القدم، وامتازت أنصالها بالقطع الجيد إذ كانت على سقايتها الأصلية، والسيوف الدمشقية أقطع السيوف حيث يتراوح أثمانها بين خمسة عشر وعشرين درهماً»، لذا عُدّ السيف الدمشقيّ من أندر التحف وأنفس الهدايا التي يقدمها الملوك والسلاطين، إذ اتصف مقبض السيف بأنه مصنوع من الخشب ومغلف بالجلد أما النصل فهو مستقيم ذو حدين، والغمد من الخشب مغطى بجلد أسود تزيّنه زخارف بارزة وحلقة التعليق معدنية من الفضة.

} أسطورة السيف الدمشقي التاريخيّة:

تقول الأسطورة التاريخيّة: «إن الإله حدد (إله الحرب لدى السوريين) كان يرسِل إلى الدمشقيّين برقاً يضرب جبال قاسيون فيترك في ترابه آثاراً كيميائية وهي عبارة عن (نترات الحديد)، فيخرج السيوفيّون (صناع السيوف) ليستخرجوا هذه النترات من التراب ويصنعوا منها السيف الدمشقي، وتجبل هذه النترات بمزيج لا يعرفه سوى شيخ الكار والمؤتمنون على سر صناعة السيوف فيخلطون العناصر السرية مع نترات الحديد حتى تتشكل عجينة يُشكَل منها السيف وتوضع في الأتون (الفرن) ثم يُدقّ الحديد حتى يتخذ الشكل المطلوب، ويجلخ ثم يلمع ثم تُنقش عليه مناجاة للإله حدد كالصلاة التي تقول: «حدد لم يخسر حربه كل من حمل سيفك». وأخرى تقول: «إله الحرب أعنّا ليفتك سيفك بالأعداء»، أما بعد انتشار الإسلام اهتم الصناع بتزويق سيوفهم بكتابات عربية ذات طابع زخرفي، حيث انفرد الخط العربي بخصائص جمالية لم تنتشر لدى الخطوط الأخرى فقد بدت الخطوط غريبة الشكل غير واضحة مما تصعب قراءتها، وطُوّع الخط العربي ليلائم طريقة الصنع ونوع المادة المصنوع منها ووظيفة المنتج من حيث القتال، الصيد، إلخ.

} النقوش والزخرفة:

ـ تدعى الزخرفة على نصول السيوف بالتكفيت الذي طالما وجد مجالاً واسعاً في زخرفة السيوف، قبل الإسلام كانت الزخارف عبارة عن كلمات أو أمثال أو صلاة للإله حدد أو أبيات شعريّة، لكن بعد انتشار الإسلام نقشت على نصول السيوف بعض الآيات القرآنية مثل «وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس» أو «نصر من الله وفتح مبين» أو «إنه من سليمان وأنه بسم الله الرحمن الرحيم أن لا تعلو عليّ وأتوني مسلمين»، إضافةً إلى أبيات من الشعر العربي كشعر المتنبي وأبو تمام التي سبق ذكرهما في مقدمة البحث. وتجب الإشارة هنا إلى أن صانع السيوف كان ينقش اسمه على نصل السيف وتاريخ صناعة السيف إلى جانب اسم صاحب السيف، وإذا كان ملك أو خليفة أو وزير فينقش اسمه محاطاً بعبارات التبجيل والاحترام، وبسبب شهرة مدينة دمشق بجودة التكفيت فقد أطلق الأوروبيون على التكفيت الخاص بالسيف الدمشقي «Damaskeeing «.

} من أشهر السيوف الإسلامية:

ـ سيف ذو الفقار: وهو سيف النبي الكريم محمد الذي غنمه في غزوة بدر وسمّي بذلك نظراً لوجود حزوز في وسطه يبلغ عددها ثمانية عشرة، تشبه فقرات الظهر، ثم انتقل السيف إلى ابن عمه علي بن أبي طالب، ثم إلى ابنيه الحسن والحسين، حالياً موجود في متحف «توب كابي» في استانبول بتركيا حيث استولى عليه العثمانيون عند دخولهم إلى الوطن العربي عام 1516م.

ـ السيف البتار: وهو سيف النبي محمد، وسمي بسيف الأنبياء لوجود أسماء بعض الأنبياء عليه مثل: يوشع، زكريا، يحيى، داوود، سليمان، موسى، عيسى عليهم السلام، وأيضاً استولى عليه العثمانيون ووضع في متحف «توب كابي».

} سرّ صناعة السيف الدمشقي:

ـ تميّزت السيوف الدمشقية بخصائص متعددة لم تتوافر في غيرها من السيوف منها: الوشي المتموج الذي كان يزين سطحها أو ما يسمّى الفرند أو الجوهر، والنصل المرهف بالغ الحدة، لكونه مصنوعاً من قطعة واحدة لا لحام فيها، إضافةً إلى قيام صناع دمشق بعمل شطبات أو قنوات على طول صفحة السيف كي يزيدون من خفة نصالهم ولمنحه ميزة جديدة بدخول الهواء من خلال هذه الشطبات إلى باطن الجروح مما يساهم بتعفنها وتسمم الجسم المصاب، وفي بداية القرن العشرين استمرّت جهود العلماء ومن أبرزهم الكولونيل بلاييف لمعرفة سر السيف الدمشقي، وبعد أن أخذ عيّنة من نصل سيف دمشقي وجد أنه يحتوي على نسب من الكربون.

يتميّز الفولاذ بخصائص ميكانيكيّة فهو أقسى أنواع المعادن، ومن المعروف أن الفولاذ كلما زادت قسوته زادت قابلية انكساره، لكن الفولاذ الدمشقي كان على نقيض ذلك إذ جمع بين القسوة والمتانة؛ وهو ما يعبر عنه بالمصطلح العلمي (المتانة الصدميّة)، وسيخطر سؤال على ذهن القارئ كيف ذلك؟ وما سبب الاختلاف؟

العملية الجوهرية هي الابتعاد عن الحرارة العالية، حيث كان الصناع يسخنون نصل السيف ببطء على درجة حرارة تقدر بـ 300 درجة مئوية ثم تتبعها 40 أو 50 دورة تطريق لنصل السيف، لذا لم يصنع الصناع الدمشقيون سيوفهم على درجة حرارة عالية، رغم أن الفولاذ يتحمل حرارة تتجاوز الألف درجة مئوية، وهنا يكمن سر الصناعة حيث تكون الألياف الكربونية عند درجة الـ300 شرائط معروفة علمياً بـ (كربيد الحديد Fe3C ) وكلما سخناها وبردناها بشكل متتال ستتوزع بشكل أفضل على النصل وستمنح السيوف القسوة والمتانة في الوقت نفسه.

} تكنولوجيا النانو في السيف الدمشقي:

ـ شهدت مدينة دمشق أقدم تطبيق معروف لتكنولوجيا النانو، لكن جدير بالذكر أن أجدادنا لم يعلموا بها ولم يدركوا أنهم يدخلونها ضمن صناعاتهم، فما فعلوه كان انطلاقاً من ارتباط الإنسان بالطبيعة.

قد ذكرنا سابقاً وجود الكربون في عينات السيوف الدمشقية فمن أين أتى الكربون؟؟

 كان كل محارب يرغب في تصنيع سيفه الخاص به يأتي ببقايا من تراث أجداده أو رفات محارب شديد ممن بارزه، أو حيوان بّري يخافه الناس كأنياب الأسد وعظام الدب، ويتم إضافة هذه المواد العضوية الغنية بالكربون إلى الفولاذ كي تضفي طابعاً روحانياً على سيف المحارب. هذه المواد العضوية تنصهر في غياب الأوكسجين وتتحلل إلى كربون نقي يتجمع على أشكال أنابيب كربونية نانونية ( Carbon Nano Tubes). هذا هو السر الذي أثار العلماء لدرجة شكّل هاجساً لهم، فقد قام العالمان الإنكليزيان (جيمس ستيوارت ومايكل فاراداي) بتجارب على السيف الدمشقي للكشف عن سره الأعظم عام 1823م، إضافةً إلى قيام العالم الفرنسي كلويه عام 1825م والإيطالي كريفيللي عام 1821 بتجارب على السيف الدمشقي.

لكن السؤال الذي يطرح نفسه: أين دمشق من هذا كله بعدما حملت أقوى السيوف اسمها؟؟؟

} غياب السيف الدمشقي:

ـ لا بد من القول إن دمشق حافظت على صناعة السيوف إلى أن غزاها تيمورلنك عام 1400م حيث قام بنهب المدينة واصطحاب مهرة الصناع وسباكي الفولاذ إلى سمرقند، وعند دخول الجيش العثماني إلى بلاد الشام عام 1516م ارتكب السلطان سليم الأول عقب استيلائه على دمشق فعلة تيمورلنك، ولعل السبب الرئيسي في غياب هذه الصناعة هو ندرة استخدام السلاح الأبيض بعد اختراع الأسلحة النارية، حيث أصبحت السيوف الدمشقية كقطع نفيسة معلقة على الجدران للزينة فقط، ناهيك عن محاولة الأوروبيين منافسة البضاعة السورية عن طريق طرح الفولاذ الأوروبي رخيص الثمن. فاقتصرت صناعة السيوف على فن التكفيت فقط.

} تخليد السيف الدمشقي:

ـ خلدت مدينة دمشق سيفها البتار الذي رفعته في وجه الطامعين على مدى العصور كنصب تذكاري في ساحة الأمويين بالقرب من دار الأوبرا، وهو أحد معالم دمشق المعمارية، حيث أقيم النصب في أوائل السبعينيات كرمز لصناعة السيوف الدمشقية التقليدية، وكإرث معماري يحمل تاريخ دمشق الحضاري. أيضاً سميت إحدى ساحات جرمانا قرب دمشق بساحة السيوف على الرغم من أن اسمها «ساحة الشهداء» حيث تتعلق في وسطها خمسة سيوف دمشقية معدنية أصلية كدليل على ارتباط السوري بتراثه الأصيل.

} بعض المصطلحات:

ـ الصلب: هو الفولاذ، وكلمة فولاذ فارسية وأصلها بولاذ.

ـ النصل: حديدة السيف من دون المقبض.

ـ فرند: الجوهر أو الوشي وهو الخطوط المتداخلة على صفيحة النصل وهي كلمة فارسية أصلها برند.

ـ الأتون: الفرن أو الكور.

ـ السيوفيون: صناع السيوف.

 

*باحثة فلسطينية سورية في التاريخ.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى