ثقافة وفنون

كسراً…!

} زياد كاج*

«كسراً، أم فكشاً، أم فكاكاً؟» كانت تلك عبارة أبي الساخرة معلّقاً على دخول أخي رياض عتبة البيت وهو يعرج ويئنّ من الألم. من عادة أبي أن يجلس في زاويته المفضلة المشرفة على باب البيت ـ المشرّع في معظم الأوقات ـ وعلى الواجهة الزجاجية لغرفة الجلوس وخلفها حديقة الجيران تزينها شجرة قشطة معمّرة. تعليق أبي وبرودته لم يعنيا أنه غير مهتم. بل  هي الحرب الأهلية المستعرة كانت قد فرضت وعياً مختلفاً عمّا نحن فيه اليوم. فوسط القذائف العشوائية وانفجارات السيارات المفخخة واشتباكات المسلّحين بين الناس في الشوارع ومشاهد القتلى والجرحى والدمار الهائلبدت إصابة أخي مضحكة.

سبب آخر لتعليق أبي الذي أعتقد أنه أضحك أخي رغم ألمه هو أن رياض، المهووس بكرة القدم وفريق «النجمة» النبيذي والنجم البرازيلي «بيليه» صاحب الرقم 10 الأسطوري، كان يتعرّض للكثير من الإصابات وحتى لبعض الأمراض النادرة مما ميّزه ورفع من منسوب القلق عليه لدى أمي أكثر مني ومن شقيقتي الوسطى. فهو البكر وكبير العائلة، وبسببه صارت نللي «أم رياض» وصار محمود «أبو رياض».

كيف حصلت الحادثة مع أخي؟

كان يوجد في حيّنا في شارع الصنوبرة «بورة» (أرض واسعة) ترابية مقابل ثانوية الروضة المعروفة في ذلك الزمن. اهتمّ أخي وأصدقاؤه من شلّة الحي بتلك القطعة من الأرض المغطاة بالتراب الأحمر وحوّلوها الى ملعب لكرة القدم. حدود الملعب رسموها بأحجار من الحجم الصغير. أما المرمى فثبتوا حدوده بأحجار من الحجم الكبير. والكرة كانت مصنوعة من جلد عتيق متآكل؛ أحياناً كانوا يحشونها بأشياء طرية كقطع القماش البالية التي يسرقونها من بيوت الأهل. والطامة الكبرى تكون عندما يسددها أحدهم خطأ خلال مباراة حامية على سيارة «أبو محجوب» (هذا لقبه لأنه لم يُرزق بذكور) فيحجب عنهم الكرة في دكانه. وسائل استرجاعها كانت متعددة؛ إحداها إرسالي الى الدكان لشراء أوقية حلاوة. يدخل أحد الشباب فيستعيد الكرة وأبو محجوب غارق في عمله في دكانه شبه المعتم.

أما قدم أخي رياض التي عالجها مجبّر عربي على أنغام صراخه فتبقى بيت القصيد.

معظم سكّان الحي كانوا من الطبقات الميسورة التي أخذت تكتسب عادات جديدة: منها اقتناء الكلاب المنزلية. أبناء رأس بيروت من هواة صيد الطيور في البقاع اعتادوا اقتناء كلاب الصيد. أما هؤلاء فصاروا يُخرجون كلابهم المدللة لقضاء حاجة الطبيعة في الملعب الأحمر. ومعروف أن براز الكلب يستجلب براز كلب آخر. هكذا، تحوّل البراز المتكاثر في الملعب الترابي الى كارثة تهدد «أمنهم الكروي» أكثر من أبو محجوب و»حلاوته»! فكانوا يتناوبون  قبل المباراة على جمع البراز المتحوّل بعد الظهر الى ما يشبه الكرات الحجرية.

لا يعرف علماء النفس ولا علماء الاجتماع ولا حتى رجال الدين من كل الملل والعلل من أين تأتي الأفكار الشيطانيّة لدى بعض الشباب والمراهقين! فبدل تركيب مقلب لأصحاب الكلاب «الكلاس» أو لأبو محجوب ـ حاجب الكرة المتهالكة، قرر أحدهم وعن حسن نية أن يطال «المقلب» أخي المسالم! وبكل بساطة لأنه الآدمي والأكثر اندفاعاً بينهم وردة فعله اللاعنفية مضمونة.

حضروا قبل موعد المباراة بساعة. نظّفوا براز كلاب الحي. حشوا الطابة بالتراب والأحجار الصغيرة ووضعوها في وسط الملعب، وغادروا ضاحكين شامتين. حضر أخي مرتدياً الشورت وحذاء كرة القدم الرخيص (كان يُصنع من القماش الأسود والغلل في أسفله من كوتشوك). كان حذاء أولاد الفقراء وأولاد محدودي الدخل. قام بجولته في أنحاء الملعب النظيف. وضع الكيس الورقي جانباً وركّز نظره على الطابة. ركض بسرعة نحوها وركلها بكل قوته.

بصعوبة وصل الى باب بيتنا متألماً لاعناً أصحاب الكلاب وأبو محجوب وسيارته الرمادية التي لا يقودها الا أيام الآحاد.

نحن أولاد أم رياض وأبو رياض كنا من جيل الصدفة والبركة  و»يا ربي تيغي بعينو». حتى اليوم، لا أفهم كيف تمكّنا من العبور سالمين، ولو جسدياً، من محدلة الحرب! هل هي بركة أمي؟ هل هي سخرية أبي وأخذه الأمور ببساطة. أم الاثنتان معاً.

أمراض وسقطات أخي كانت الأخطر. شاب متحمّس في بدايات الحرب ويحب عمل الخير. صاحبة شخصية بيروتية مؤمنة تميل إلى العطاء والتضحية. قيل له إن أحد الشباب المصابين بشظية قذيفة بحاجة ماسة للدم في مستشفى المقاصد. كنّا في بدايات النصف الثاني من السبعينيات. هرع أخي مع رفاقه للتبرع لشاب لا يعرفه. لكن المسؤول في المختبر استعمل إبرة غير معقمة. كان مفعولها عليه أخطر بكثير من «الطابة المحشوة». لازم الفراش لأيام، ارتفعت حرارته وراح يجول على معظم صيدليات رأس بيروت. فقد الكثير من وزنه وصار لون بشرته شاحباً. لا يأكل ولا يشرب. مكروب لعين دخل جسده الرياضي.

بفضل طبيب الفقراء الدكتور رياض طبارة المعروف في منطقة عائشة بكار ورأس بيروت والمحيط كُتب لرياض عمر جديد. حملوه حملاً الى عيادته. وصف له مضاد حيوي للمكروبات. أيام ونحن ننتظر. في أحد الأيام، قام وتوجه الى الحمام، وقف أمام المرآة. فتح فمه وأخرج من تحت لسانه قطعة صلبة بحجم البحصة خرجت من اللثة. خاف فأخافنا. لكنه تعافى وطلب الطعام وعاد رويداً الى حياته الطبيعية.

حمل أخي من تلك التجارب وغيرها الكره الشديد لزيارة الطبيب والمستشفيات. أما تعليقات أبي الساخرة والمحببة فبقيت ترافقني في ذاكرتي كحبات المسبحة المباركة: «كسراً.. أم فكشاً.. أم فكاكا؟». و»يُحيي العظام وهي رميم» حين يفوز في دقّ طاولة على جارنا أبو علي. ويردّد من أبيات الشاعر البيروتي عمر الزعني «يا ريتني حصان ببيت سرسق.. يا ريتني حصان.. باكل بندق باكل فستق.. يا ريتني حصان…».

أبو رياض كره الحرب الأهلية وأحب أصدقاءه من كل الطوائف والمازة وكأس الويسكي مساء وسباق الخيل. كان قارئاً نهماً لجريدة «النهار» كل صباح. يتابع على الشاشة الصغيرة عالم الحيوان ويطرب لصوت أم كلثوم الذي كان يعيده الى حب حقيقي قديم.. ويتحمس ويكثر التدخين لتصريحات الرئيس نبيه بري قبل انتفاضة السادس من شباط أيام الصراع المرير مع الرئيس أمين الجميل الذي حلق فوق دمشق بالهليكوبتر أكثر من تحليقات الجيش اللبناني فوق حرائق مرفأ بيروت المتكرّرة.

 

*روائي لبناني.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى