مقالات وآراء

القوميّة الاجتماعيّة جوهر الفلسفات الصالحة القادرة على النهوض بنا إلى حياة جديدة

ليس بينكم من يُعفى من الجهاد وليس بينكم من يُتاح له القعود في معركة الحياة والتفرّج في حرب ستقرر مصير الأمة!

توجّه العالم الاجتماعي والفيلسوف أنطون سعاده إلى الأفراد النابهين أولاً لينتشلهم وينقذهم من عالم الجاهلية المظلم، ومن بؤر الخصوصية الأنانية، والمذهبية الفئوية، والمليّة التكفيرية المكفّرة بعضها بعضاً، ويحرّرهم من أمراض التقليد والتقاليد البالية والخرافات المضللة ونفسيّة الذل والخنوع لجهالات القرون البائدة وإرادات الأعداء الطامعين.

فينمو ويرتقي إنساناً جديداً كإنسانمجتمع وليس كإنسانفرد. إنسانأمة واعية سيدة على نفسها ووطنها وليس كإنسانجيل آني ينتهي بمروره، بل إنسانأمة تسعى الى الفوز بمحلها في سياق التطور وعلاقتها بالأمم الأخرى وبالاتجاه الانساني العام.

النظرة الى الحياة والكون والفن ليست محصورة بنا وحدنا، بل إن لكل مجتمع نظرته الى الحياة والكون والفن. والإنسان الجديد ليس وقفاً علينا وحدنا أيضاً، بل إن لكل مجتمع من المجتمعات إنسانه الجديد إذا وعى ذاته وأراد توليده يمكن أن يولد بحسب نظرته الأساسية الأصلية الخاصة.

ليس كل جديد جيِّداً، وليس كل حديث صالحاً، كما ليس كل قديم رديئاً وليس كل ماضٍ طالحاً، بل إن الجيِّد يستمر جيِّداً مهما تغيّرت الظروف، والصالح يبقى صالحاً مهما مرَّ عليه الزمان. وكذلك الرديء يستمرّ رديئاً مهما تجدّد، والطالح يبقى طالحاً مهما طرأ عليه من التحديث والعصرنة.

 

 

} الرفيق يوسف المسمار*

فهم حقيقة الحياة

قال أنطون سعاده في مؤلفه «نشوء الأمم»: «في الدرس تفهّم صحيح لحقائق الحياة الاجتماعيّة ومجاريها. ولا تخلو أمة من الدروس الاجتماعية العلمية إلا وتقع في فوضى العقائد وبلبلة الأفكار». وأضاف على القول المتقدّم في مقدّمته أنه: «منذ ألّف ابن خلدون مقدمة تاريخه المشهور ووضع أساس علم الاجتماع، لم يخرج في اللغة العربية مؤلف ثانٍ في هذا العلم فظلت أمم العالم العربي جامدة من الوجهة الاجتماعية».

والأمة السورية هي إحدى أمم العالم العربي التي ظلت حتى هذا التاريخ جامدة من الوجهة الاجتماعية وظلَّ مفكروها كسائر مفكري العالم العربي يتخبّطون في قضايا أمتهم تخبطاً يُبعدهم كثيراً عن فهم حقائق الاجتماع الإنساني التي تساعد على جلاء الغوامض في فهم واقع الأمم وحقيقة تطورها، وعوامل رقيّها، واستيعاب معنى القوميات وبخاصة فهم واقع الأمة السورية، ومعنى القومية السورية، وماهية مفهوم القومية الاجتماعية التي هي كما نفهمها فلسفة المستقبل لجميع الأمم في العالم الساعية الى طور انساني جديد متقدم.

فاذا كان هذا هو حال مفكري الأمة السورية ومفكري الأمم العربية، فكيف يكون حال المواطنين العاديين الذين تضاربت نفسياتهم، وتنافرت تقاليدهم المستمدة من الأنظمة القبائلية والملية والمذهبية الآتية من مخلفات عصور الانحطاط والمفروضة عليهم من الإرادات الغريبة والتي حوّلتهم الى فئات وطوائف وكيانات ومجموعات فئوية وجماعات تأتمر بأوامر دول المطامع المهيمنة على موارد وخيرات الشعوب وجعلتها بعيدة كل البعد عن الروحيّة العامة والنفسية العامة والذاتية العامة والعقلية العامة؟

أنطون سعاده توجّه إلى النابهين في الأمة

إن حالة التخلّف والميعان والفوضى، وغياب المنظمات الوطنية والقومية والاجتماعية والسياسية والتربوية والتعليمية الصالحة في الأمة جعلت العالم الاجتماعي والفيلسوف أنطون سعاده يتوجّه إلى الأفراد النابهين أولاً لينتشلهم وينقذهم من عالم الجاهلية المظلم، ومن بؤر الخصوصية الأنانية، والمذهبية الفئوية، والمليّة التكفيرية المكفّرة بعضها بعضاً، ويحرّرهم من أمراض التقليد والتقاليد البالية والخرافات المضللة ونفسيّة الذل والخنوع لجهالات القرون البائدة وإرادات الأعداء الطامعين.

وهذا ما قاله في هذا الشأن: «بعد أن وضعت مبادئ القضية القومية التي هي مصدر جلاء الأفكار، ووحدة العقيدة والاتجاه وأوقفت الاختلاطات السياسية الدينية في المسائل القومية من الوجهة النظرية شرعتُ في إيجاد الوسائل العملية لتحقيق القضية القومية. ولم تكن المهمة هيّنة في جو موبوء كجو الحالة المناقبية والأخلاقية السيئة التي أشرت إليها. ولكني وضعت قاعدة أساسية أتمشى عليها وهي البحث عن العناصر الجديدة السليمة وتعليمها المبادئ الجديدة وإفهامها قضية الأمة وتكوين حزب منها ينشأ بمعزل عن الاختلاطات المذكورة آنفاً نشأة صحيحة قوية بمعنوياتها، حميدة بمناقبها، سليمة بروحها، صالحة لحمل أعباء القضية وقد توصّلت بعد جهد إلى لمس قابلية ثلاثة أشخاص من الشوير إثنان منهم كانا طالبين في الجامعة الأميركانية».

هَمُّ أنطون سعاده بعث نهضة الأمة

وبتحرير وبتنوير وتعليم أبناء الأمة النابهين، حميدي المناقب، سليمي الروح وتحريرهم من عقائد النفسية الفردية الجزئية الخصوصية ونقلهم ورفعهم الى رحاب النفسية العامة عبر مختبر حركة النهضة السورية القومية الاجتماعية، حيث وصف النهضة بكلام واضح بليغ في كتاب المحاضرات العشر قائلاً: «إن النهضة هي الخروج من التفسّخ والتضارب والشك الى الوضوح والجلاء والثقة واليقين والإيمان والعمل بإرادة واضحة وعزيمة صادقة. هذا هو معنى النهضة لنا»، معتبراً يقيناً أن حركة هذه النهضة هي وحدها الرحم الحقيقي لولادة الانسان الجديد الذي يحضن مولود الإنسان الصالح الجديد، ويبني الإنسان الصالح الجديد، فينمو ويرتقي إنساناً جديداً كإنسانمجتمع وليس كإنسانفرد. إنسانأمة واعية سيدة على نفسها ووطنها وليس كإنسانجيل آني ينتهي بمروره، بل إنسانأمة تسعى الى الفوز بمحلها في سياق التطور وعلاقتها بالأمم الأخرى وبالاتجاه الانساني العام. فتكون ولادة هذا الإنسان الجديد ولادة عامة تُخرجه من شرنقة المحدودية الأنانية المنغلقة على ذاتها، والفئوية المغلقة الخائفة على نفسها من نفسها ومما يُحيط بها، لأنها في خروجها النهضوي انفتاح على اجتماعيّة عامة في اندفاعة إبداعية هادفة الى خلق عالم إنساني جديد مركّب يشمل الأمم جميعها التي يجمعها هذا الكوكب الذي تعيش عليه.

صعوبة توليد الإنسان الجديد

ولأن سعاده كان يفهم جيداً صعوبة توليد الانسان الجديد، والعناية به، وبنائه البناء السليم ورعاية نموّه وتقويته مادة وروحاً فقد قال: «إن طريقنا طويلة وشاقة ولا يصمد عليها إلا الأحياء وطالبو الحياة».

واستيعابنا وفهمنا لهذا القول السديد والاستراتيجي بعيد النظر ندرك أن الطريقة الطويلة والشاقة هي الطريقة الأقصر والأسلم والأصح والوحيدة لتوليد الإنسان الجديد وإعداده وبنائه وإتمام نموّه وترقيته لتولي مهمة تغيير وجهة التاريخ وتحقيق انتصار الأمة الذي لو أرادت الأمة أن تفرّ منه بعد ولادة الانسان الجديد فيها لما وجدت الى الفرار سبيلاً.

لكن يجب التنبه الى ان لفظة «الانسان الجديد» هي مصطلح مبهم اذا لم يتوضح معناه بشكل صريح، فإنه يقودنا الى بلبلة وتخبط يؤديان الى التيه والشكوك والتفاسير المتناقضة والتأويلات المتضاربة.

الوضوح قاعدة الحقيقة

ولتلافي التخبّط قال سعاده: «كل لا وضوح لا يمكن أن يكون أساساً لإيمان صحيح، وكل لا وضوح لا يمكن أن يكون قاعدة لأي حقيقة من جمال أو حق أو خير، فالوضوحمعرفة الأمور والأشياء معرفة صحيحة، هو قاعدة لا بد من اتباعها في أي قضية للفكر الإنساني والحياة الإنسانية». وقال أيضاً: «نحن لنا نظرة الى الحياة والكون والفن». وعلى ضوء الوضوح والجلاء وعلى أساس هذه النظرة تكون ولادة «الإنسان الجديد»، ونموّ الانسان الجديد ورقيّه وانتصاره في سير الحياة .

ضرورة النظرة الى الحياة والكون والفن

النظرة الى الحياة والكون والفن ليست محصورة بنا وحدنا، بل إن لكل مجتمع نظرته الى الحياة والكون والفن. والإنسان الجديد ليس وقفاً علينا وحدنا أيضاً، بل إن لكل مجتمع من المجتمعات إنسانه الجديد إذا وعى ذاته وأراد توليده يمكن أن يولد بحسب نظرته الأساسية الأصلية الخاصة. وليست كل النظرات الى الحياة والكون والفن هي واحدة لجميع الشعوب والأمم، كما أن ليس الإنسان الجديد هو نفسه بالنسبة لجميع المتحدّات الإنسانية. فالمتحدات الإنسانيّة متمايزة بدرجات رقيها وثقافاتها واستعداداتها وإمكانياتها ومواهبها، ولكنها في المطاف الأخير يمكنها أن تتلاقى على الحدود الدنيا فتتناغم وتتعارف وتتفاهم وتتعاون على كل ما يؤمن مصالحها ويرضي طموحاتها ويهيئ ظروف وشروط تلاقيها في مركّب الإنسانية العامة الذي يتوفر فيه الوفاق العام والنفع العام والوئام الإنساني العام وينتفي كل ما من شأنه أن يبعث على التنافر والضرر والعداوة وحروب الدمار .

وعلى هذا الاساس ينبغي أن نفهم جوهر نظرتنا الى الحياة والكون والفن لنتمكّن من فهم جوهر إنسان أمتنا الجديد أو الانسان السوري الحضاري التمدني الجديد الذي نسعى الى تكوينه وبنائه والعناية به ليكون نموذجاً يحتذى به، ومثالاً تتشبه به وبرقيه المناقبي الأخلاقي وبإنجازاته الماديةالروحية جميع الأمم الطامحة بعالم ليس فيه أحقاد وكراهيات ومطامع وعداوات.

ليس كل جديدٍ جيّداً وليس كل قديم رديئاً

ليس كل جديد جيِّداً، وليس كل حديث صالحاً، كما ليس كل قديم رديئاً وليس كل ماضٍ طالحاً، بل إن الجيِّد يستمر جيِّداً مهما تغيّرت الظروف، والصالح يبقى صالحاً مهما مرَّ عليه الزمان. وكذلك الرديء يستمرّ رديئاً مهما تجدّد، والطالح يبقى طالحاً مهما طرأ عليه من التحديث والعصرنة.

ونظرات الأمم الى الحياة والكون والفن متعدّدة ومختلفة، ومتشابهة ومتناقضة. منها الجيِّد ومنها الرديء. منها البدائي ومنها الراقي. ومنها المتخلف ومنها المتطور.

وكذلك الانسان الجديد عند المجتمعات: إنسانمجتمع جديد جيِّد ٌ وإنسانمجتمع جديد رديء. إنسانمجتمع حديث متخلف وإنسانمجتمع حديث راقٍ.

وجديد الرداءة غير جديد الصلاح. والتخلف الحديث العصري غير التقدم الحديث العصري، وهيهات أن تتساوى الرداءة مع الجودة مهما كانت الرداءة جديدة ومتجددة وحديثة وعصرية.

الجودة تستمر جودة مهما تراكم عليها من الغبار والنفايات، ومهما مرّ عليها من االقرون والعصور،  ومهما شُوّهت صورتها بالدعاية والتضليل . والرداءة تبقى رداءة مهما زُّيّنت بالورود والزهور وبديع الألوان، ورائحتها تستمر رديئة عفنة مهما رُشّ عليها من العطور ومزجت بالروائح الطيبة. فالرائحة الكريهة المؤذية تبقى مؤذية وكريهة مهما مرّ عليها من الوقت ومهما رُوّجت الدعاية لها أنها غير كريهة.

النظرة الجديدة الى الحياة

إن نظرتنا الى الحياة والكون والفن تعني بحسب المفهوم القومي الاجتماعي الذي أرساه سعاده هو أن نفهم الحياة فهماً أعمق أي أن نتعمّق في فهم حقيقة الحياة لنزيل عن بصائرنا الضباب وعنها الشوائب، ولنجعلها أحسن، ولنرفع من مستواها وننشرها امام وجه الشمس فتصبح أبهى صورة، وأكمل وجوداً وجودة، وأكثر فرحاً وهناء، وأرقى معنى وقيمة.

النظرة الجديدة الى الكون

أما نظرتنا المدرحيّة الواعية الى الكون فتعني بمفهوم الفلسفة القومية الاجتماعية أن نكون الجانب السلبي من الكون الماثل أمامنا أي أن لا نكون الجهة المستسلمة الخانعة الخائفة المنفعلة أمام غوامض الكون وأسراره وألغازه ونواميسه وخفاياه ومجاهيله، بل علينا أن نكون الجهة الفاعلة الشجاعة المصارعة الرائدة في البطولة وكشف أسرار الكون وألغازه وخفاياه، ومعرفة نواميسه وتطويع عوامله والتفاعل مع مستجداته، وريادة مساراته بثقة وثبات وقناعة وإيمان بأننا نحن أسياد أنفسنا وقُرّاء كل ما نصادفه على صفحات الكون الظاهرة المنظورة وغير الظاهرة المنظورة. المعروفة المفهومة والمجهولة المحيّرة التي لم تتسنّ لنا معرفتها والوقوف على فهمها وإدراك الغاية من وجودها.

وهذا ما ندعو غيرنا من أمم العالم أن يتشبه بنا في سلبيتنا ولا يجبن أو يخاف من اكتشاف وكشف كل ما يمكن اكتشافه وكشف النقاب عنه مهما تراكمت الحجب واستعصى علينا كشفه .

وبتفعيل هذه السلبية نشق طريقاً جديداً أمام أبناء أمتنا وأمام الأمم الأخرى لم تكن موجودة قبلاً تماماً كما افتتح وشق سعاده أمام أمتنا بفلسفته المدرحية القومية الاجتماعية المادية الروحية طريق الحياة الجديدة الجيّدة الحديثة العصرية التي قاعدتها ونقطة انطلاقها فلسفة التفاعل الموحّد للقوى الإنسانيّة.

النظرة الجديدة إلى الفن

وبعد تفهّمنا العميق للحياة ومعناها وتحسين مستواها كما يليق بنفوسنا الحسنة العظيمة أن تستوعبها وتفهمها وترتقي بها وبعد حيازتنا على معرفة ما نستطيع معرفته واكتشافه بعقولنا المنفتحة على غوامض الكون وقوانينه ومخبآته تقوم مواهبنا بقدرة وفعالية تصوراتنا بافتتاح مسيرة خطط ابتكاراتنا وإبداعاتنا التي تتخطى أبعاد المألوف من الصالحات، وآفاق المأمول من الإبداعات لما فيه خير الإنسانية على كوكب الأرض الذي نجهل مصيره ولا نعرف الآن لمن سيكون بعدنا في مستقبل العصور.

وهذه الابتكارات والإبداعات لا تقتصر على ميدان واحد من ميادين الحياة ومجاريها ومراقيها بل تشمل كل ما يخطر في بال الانسان الجديد. إنسانالمجتمع من أفكار وخواطر وتصوّرات، وكل ما يمكن أن يثيره ويتصوره خيال الإنسانالمجتمع الجديد من رؤى لتطوير كل فن من الفنون ملاحظةً ومراقبة، وتوقعاً وانتظاراً، وقراءةً وكتابةً، وإصغاءً وحركةً، ونطقاً وخطابةً، وتمثيلاً وتصرّفاً، وتطويراً وتوليداً، واختراعاً وتحسيناً، ورسماً ونحتاً، وغناءً وأنغاماً، ورقصاً ورياضة، وكل ما يطلق قوانا الروحية والمادية، والعملية والتأملية الى الأجدّ والأحدث والأعلى والأسمى.

فالسماء في مفهوم نظرتنا الجديدة ليست ولا يمكن أن تكون المطاف الأخير والحد النهائي والسد القاهر لقدرة الإنسان وطاقته على التجاوز، بل إن السماء الماثلة أمامنا ليست سوى باب لسماء أسمى، وسموات أبعد سمواً بحيث كلما أشرفنا على سماء استيقظت مواهبنا، وانطلقت عبقريّاتنا، وانتعشت عزائمنا، وازداد نشاطنا، واشتد صراعنا لإبداع ما لم يكن يخطر على بال بشر.

القوميّة الاجتماعيّة فلسفة التسامي العظيم

من وحي النظرة الشاملة الجديدة الى الحياة والكون والفن، وفلسفتها القومية الاجتماعية المادية الروحية، ومفهومها لأدب الحياة الخالد كتبتُ شعراً يحث الإنسان على عدم الاكتفاء بالصالح المألوف والمنظور، ويدعوه الى التطلع والسعي الدائم الى ما لا يُرى بالبصر بل يُلمس بالبصيرة ويُحسّ بالروح لتنطلق النفس الانسانية بلا حدود، قلت فيه:

                     لا تَـنْظـرنَّ إلى السـماءِ كأنَّهـا

                                             كلُّ المطافِ ونيْـلُـها كلُّ المـُـنى

                     إنَّ السماءَ لو افتكرْتَ وجـدتها

                                             باباً يطلُّ منَ الوجودِ على السنا

                     فانظـُرْ بعينينِ البصيرةِ تكتَـشفْ

                                             بالعقلِ تمتزجُ الهـدايةُ بالـغـِنى

                     إنَّ السماءَ إلى السُـموِّ بـدايةٌ

                                             ومعَ السُـموّ فـلا زوالَ ولا فـنا

                     فاللهُ ما خلقَ الحياةَ لتـنتهي

                                             خَلَقَ الحياةَ ليرتقي معنى الدُنى

                     فإذا ارتقى الإنسانُ في تفكيرِهِ

                                             من كلِّ أســرارِ الـحياةِ تَمَـكَّـنـا

                     يا أيها الناسُ افهموا، لكمُ الألوهةُ

                                             لـمْ تشـأْ إلاَّ الســعادةَ والهَـنـا

                     فاذا سمـوتُـمْ كُنْتُمُ الخَلْـقَ الـذي

                                             يُرضي الالهَ ولا يحيدُ عن السنا

                     كـلُّ السُمُـوِّ بـوُسعنا شـاءَ الإلـهُ

                                             فـهـلْ يكونُ سُمُوُّنا نـوراً لنـا؟

الانسان الجديد هو الإنسان القوميّ الاجتماعيّ

وعن هذه النظرة الشاملة الى الحياة والكون والفن التي كشفها سعاده يولد انساننا السوري الجديد. الإنسان الجديد الجيِّد. الانسان السوري القومي الاجتماعي الجديد الحديث العصري. إنسان الخير العام، والحق العام، والجمال العام، والمعرفة العامة، والحكمة العامة، والفضيلة العامة، والإنسانية العاقلة العامة التي لا يأتيها الباطل لا من داخلها ولا من خارجها. ولا من تحتها ولا من فوقها ولا من جوانبها، لأن طريقها لا يكون إلا الى فوق . الى الأعلى . الى الأسمى . الى حيث لا يوجد الا الصلاح والرقيّ والتسامي وسعادة الانسانية.

وبهذا المعنى فإن إنساننا السوري الجديد هو: «نحن» أي أنتَ وأنتِ وهوَ وهيَ وأنا، وغيركَ وغيركِ وغيره وغيرها وغيري. والإنسان الجديد هو أيضاً نحن السوريين وسائر الأمم. وحيث وجد الانسان على الأرض في كل بيئة متخلفة او متقدمة.

هذه هي عقيدتنا السورية القومية الاجتماعية التي وحّدت الواعين المؤمنين بها، وكفلت توحيد اتجاهنا في الحياة وقد تكفّل نظامنا المادي الروحي الجديد توحيد عملنا وجهودنا في اتجاه خير أمتنا ورقينا واتجاه خير ورقيّ الأمم.

اتجاه تحقيق مصلحة أمتنا التي هي مصلحة جميع السوريين في جيلهم الحالي والأجيال الآتية والتي هي فوق كل مصلحة جزئيّة في داخل مجتمعنا، وفوق كل مصلحة عدوانية زاحفة الينا من خارج المجتمع، والتي هي أيضاً وأيضاً لمصلحة جميع الأمم في توليد الإنسانالعالمي الجديد المركّب من تفاعل الأمم الناهضة القوية الراقية فيما بينها. فإذا لم نكن أمة ناهضة قوية راقية لن يكون لنا شأن في توليد عالم ناهض راقٍ، بل سيكون أي عالم يمكن أن ينشأ عرضة للانهيار والتآكل لأنه يحوي بذور تآكله وانهياره في داخله.

إنسان العقيدة القوميّة الاجتماعيّة

والإنسان القومي الاجتماعي الجديد هو إنسان العقيدة القومية الاجتماعية الماديةالروحية (المدرحيّة). والعقيدة كما يفهمها ذوو العقول السليمة فكرة وإرادة. أي فكرة تمّت القناعة بصحتها، وإرادة تعمل على تحقيق تلك الفكرة الصحيحة.

وبهذا نفهم معنى قول سعاده «إن الحزب السوريّ القوميّ الاجتماعيّ فكرة وحركة تـتـناولان حياة الأمة بأسرها»، أي فكرة متحركة وحركة مفكرة. ولا معنى لفكرة جامدة، كما لا قيمة لحركة تخلو من الفكر.

والفكرة القومية الاجتماعية هي تصّور الإنسان السوري لخطة رقيِّه، وحالة سعادته، ورقيّ سائر الأمم وسعادتها فضلاً عن رقيّه وسعادته.

ولذلك تمّت قناعته بصوابها وآمن بها عقيدة ً فيها خلاصه من واقعِ لم يعد يتحمّله، وتنطوي في الوقت ذاته على المصير السعيد الذي يريده. وخلاص العالم أيضاً من واقعٍ مزرٍ يهدّد مصير الإنسانية بالدمار والفناء.

أما الإرادة فهي إرادة الإنسان السوري الواعي حقيقته ووجوده في هذا الكون وفي مواجهته، والعارف دوره ورسالته في الوجود، والمؤمن عن وعي ومعرفة وقناعة بالفكرة، والعامل على تحقيقها بكل إمكانيّاته مهما تتطلّب تحقيقها من جهود وتضحيات وصبر.

العقائد الإنسانيّة نوعان

العقائد نوعان؛ وبالتالي فان الإرادة أيضاً نوعان لأن النظرة الى الحياة الانسانية نوعان. نظرة جزئية تؤدي الى عقيدة جزئية وإرادة جزئية فردية خصوصية. ونظرة شمولية تؤدي الى عقيدة شاملة وإرادة عامة اجتماعية إنسانية. وفي كلتا الحالتين فإن الفكرة من حيث هي فكرة ليست إلا عقيدة جامدة صامتة خرساء ولا تصبح متحركة ناطقة فاعلة إلا بعد بروزها في إرادة الإنسانالفرد أو إرادة الإنسانالمجتمع .

وفي هذا يقول سعاده: «كان ظهور شخصية الفرد حادثاً عظيماً في ارتقاء النفسيّة البشريّة وتطور الاجتماع الإنساني. أما ظهور شخصية الجماعة فأعظم حوادث التطور البشري شأناً وأبعدها نتيجة وأكثرها دقة ولطافة وأشدها تعقداً، إذ إن هذه الشخصية مركّباجتماعياقتصادينفساني يتطلب من الفرد أن يضيف الى شعوره بشخصيته شعوره بشخصية جماعته، أمته، وأن يزيد على إحساسه بحاجاته إحساسه بحاجات مجتمعه، وأن يجمع الى فهمه نفسه فهمه نفسية متّحده الاجتماعي، وأن يربط مصالحه بمصالح قومه، وأن يشعر مع ابن مجتمعه ويهتمّ به ويود خيره، كما يودّ الخير لنفسه».

فإذا كانت نظرة الفرد الى الحياة ضيقة جزئية تقزّمت فيه وانتهت بانتهائه. أما إذا كانت نظرة الفرد إلى الحياة منفتحة على الإنسانالمجتمع فتشمل نظرته المجتمع بكامله وتستمرّ باستمرار وتعاقب أجياله، وباستمرار النظرة الى الحياة بشمولها في الأجيال، تتعولم النظرة بنسبة همجيّتها أو انغلاقها، أو بقدر إنسانيتها وانفتاحها على الاجتماع الإنساني العام. وعند هذا الحد يبرز أمامنا نوعان من العقائد:

عقائد شريرة منغلقة تشد الناس وتجرجرهم الى بدائية رجعية غرائزية قاتلة لنفسها ولغيرها.

وعقائد خيّرة منفتحة توقظ الغافلين من الناس وتهديهم وتدفعهم الى طريق عقلية مُحيية ومُنعشة لنفسها ولغيرها من المجتمعات ليتكوّن من هذا الإحياء والإنعاش طور جديد أو مرحلة جديدة من مراحل رقيّ الانسانية.

ولكن هذا الطور الراقي من أطوار الرقيّ الإنساني يستحيل أن يحصل من دون المرور بطور رقيّ المجتمع. أي مجتمعالأمة. وبغير عقيدة وحدة الأمة الناهضة القومية الاجتماعية السيدة على نفسها ووطنها، والمصارعة من أجل أرقى مطالبها وأسمى مُـثـُلها العليا. فتكون هذه العقيدة المنعشة الخيِّرة قاعدة انطلاق لنهضة أمة قوية حرة نظامية مسؤولة عن تحقيق رقيِّ وتوطيد معالم رقيِّ غيرها من الأمم .

العقائد الجزئيّة والعقائد الكليّة الشاملة

كل عقيدة سواء كانت جزئية أو شاملة هي «فكرة وحركة» ولكن ليست فائدة الفكرة الجزئية هي فائدة الفكرة الشاملة نفسها، ولا نتاج الحركة الجزئية هو نتاج الحركة الشاملة نفسها. أي ان نفع العقيدة الجزئية ليس هو نفع العقيدة الشاملة نفسه. العقائد الجزئية في جزئيتها تكمن بذور تآكلها الداخلي، ومبررات تدميرها الخارجي، وأكسجين احتراقها، فهي معدية وبهذه المسؤولية تتضح رسالة الأمم الراقية وتفترق عن فساد تخلف الشعوب الهمجية وشرورها.

عقيدة النهضة هي عقيدة الإنسان الناهض

وهذه النهضة يستحيل حصولها بالضعف المنظم، أو الحرية الفوضوية، أو الاستهتار بالواجب، أو النظام المحافظ على التقاليد العفنة والمخزّن للعادات الرديئة، بل إن الإهمال والتخلي عن أية قاعدة من قواعد نهضة الأمة كاستبدال القوة بالضعف، والحرية بالتنازل عنها، والخلط بين النظام والتنظيم، وعدم التمييز بينهما والوقوع في الفوضى، والاستهتار بمسؤولية القيام بالواجب واستبداله بالتخاذل يجعل من أية نهضة مستحيلة التحقيق.

وإذا كانت العقيدة والنظام من الثوابت وقواعد البناء الاجتماعي السليم، فإن الفكر والتنظيم ليسا كذلك، بل إنهما خاضعان لناموس دينامية النموّ، وقانون تألق الإبداع، والا وقعنا في مهوار عقائد الانغلاق التي تقود الى الخمول والجمود والتفكك والانقراض. وهذا مناقض بشكل مطلق لعقيدة النهضة القومية الاجتماعية روحاً وفكراً وابداعاً ونمواً وتألقاً.

وعقيدة نهضة الانسان الجديد القومية الاجتماعية بناء كامل من الأساس الى الجدران الى السقف. فاذا فقدنا عنصراً من هذه العناصر فمن المحال أن يكتمل البناء.

أساس البناء شيء، وجدرانه شيء آخر. وكذلك يجب أن نفهم أن سقف البناء هو غير الأساس والجدران. لأن الأساس يرتكز على الأرض الثابتة، والقواعد المتينة. أما الجدران فمجالها امكانية التمدد والارتفاع في الفضاء. وأما السقف فليست له حدود في مفهوم نهضة كنهضتنا، فهو الإبداع المتفوّق الذي يسعى الى بلوغ سماء تكون قاعدة انطلاق الى سماوات أبعد. ولهذا قال سعاده إن شعار مدرسة نهضتنا هو:

«كلما صعدنا قمة تراءات لنا قمم أخرى وعلينا أن نصعدها». وأوضح لنا: «أن كل مبدأ صحيح يجب أن يكون لخدمة حياة الأمة» وأرشدنا لكي لا نكون من:

«الشعوب الغبية التي تفعل برجالاتها ما يفعله الأطفال بألعابهم يُحطمونها ثم يبكون طالبين غيرها؟». وميَّز بين مَن يعمل لإرضاء نزواته وشهواته الخصوصيّة او الفئويّة بعقليّة رجعيّة جاهليّة استئثارية تكفيرية وبين مَن يعمل لأمته بعقلية راقية ويريد الخير والرقي لجميع أبناء الأمة وأجيالها وأيضاً الخير والرقي لسائر الأمم.

يستوقفنا تعليق أنطون سعاده في كتابه «الإسلام في رسالتيه» مذكراً بقول المفكر السوري المحمدي عبد الرحمن الكواكبي الموجه الى السوريين بالدرجة الأولى «دعونا ندبّر حياتنا الدنيا ونجعل الأديان تحكم في الأخرى فقط. دعونا نجتمع على كلمة سواء ألا وهي: فلتحي الأمة. فليحي الوطن. فلنحي طلقاء أعزاء»، حيث قال في تقييمه لكلام الكواكبي:

«هذا كلام رجل من المحمديين عرف معنى الإسلام الصحيح وقال قولاً جعله في طلائع العهد القوميّ وإن كان الناس اتبعوا من هو (الكواكبي) أحق بالتقدم عليه. ولكن النهضة السورية القومية الاجتماعية جاءت تنفض غبار الأوهام عن أذهان الناس ليميزوا بين قول الحق وقول الباطل. فرحم الله السيد الفراتي الكواكبي بما قال وفيه زبدة تفكير راسخ وتأمل ناضج «دعونا ندبّر حياتنا الدنيا ونجعل الأديان تحكم في الأخرى فقط». فهذا قول تتبناه الحركة السورية القومية الاجتماعية بحرفيته وتخلد ذكرى الإمام الكواكبي الذي نظر في مقتضيات الدين والدنيا، فقال هذا القول الفصل».

لا غبار على القول إن الدواء الشافي لأمراضنا لا يكون إلا بالمبادئ السورية القومية الاجتماعية، ولا اعتراض على ذلك. فالمبادئ القومية الاجتماعية تعني حياة الأمة كلها. وحياة الامة هي حياة كاملة مادة ًوروحاً. وجوداً وجوهراً. باطناً وظاهراً. وكما يمكن أن يأتي خطر التآكل من الداخل، فيمكن أن يأتي أيضاً خطر الدمار من الخارج. والأمم المنكوبة بأخطار الداخل والخارج لا تحفظها من السقوط إلا حركة نهضة قومية تقاتل على جميع الجبهات، وتستنفر وتحرّك جميع طاقات الأمة وتوجّهها في جميع الاتجاهات التي يمكن أن يتسرّب منها الخطر، ولا أحد من أبناء الأمة يحق له أن يتقاعد أو يتقاعس أو يتذرع بأية حجة. كما لا يحق لقادة نهضة الأمة أن يمنعوا أحداً من الاشتراك في معركة مصير يترتب عليها فناء مجتمع بكامله.

ما قيمة المبادئ الجميلة المثالية اذا بقيت على رفوف المكتبات ومن دون تحقيق؟ وأية فائدة من علوم لا تنفع، وما الجدوى من فلسفات لا تدفع الأمة الى النهوض، وماذا ينفع منطق لا يقود الا الى السفسطة، وأية قيمة لفنون لا تؤدي إلا الى الاسترخاء والتثاؤب؟

وأي نفع من أدب كان نثراً كان أو شعراً لا يفجر طاقات أبناء الأمة ويحررهم من مخدرات الاستسلام ويوقظ نفوسهم فينتفضون على واقعهم المريض ببطولات تضع حداً للخراب النفسي والعدوان الخارجي؟

وهل يجوز أو يحق لنا أن نهمل قول سعاده الذي ناشد به السوريين جميع السوريين وليس الحزبيين فقط، حين قال:

«فيا أيها السوريون المقيمون والمهاجرون ارحموا أنفسكم وعيالكم وذريتكم يرحمكم الله. انبذوا الذين يريدون بكم شقاقاً، والتفوا حول الذين يريدون بكم وفاقاً، واتركوا قضايا الأخرى للأخرى، وتعالوا الى كلمة سواء تجمع شملنا وتعيد الينا وطننا وأهلنا وعزنا وكرامتنا وحقوقنا ومصالحنا».

أيها السوريون، ليس بينكم من يُعفى من الجهاد! وليس بينكم من يُتاح له القعود في معركة الحياة، والتفرّج في حرب ستقرر مصير الأمة!

هذه بعض خصائص وسمات القومية الاجتماعية التي هي فلسفة التفاعل الموحّد لقوى الانسانية الحاضنة والشاملة والمحيطة بجوهر جميع الحركات الصالحة والتي تطلق جميع القوى في حركة الحضارة لخلق عالم ٍ صالحٍ جديد، وحياة انسانية راقية، ومُثُل عليا متسامية في وجه فلسفات التنافر المفتت القوى التي تدفع الانسانية الى الخراب وعتم المقابر وسكونها الرهيب .

* مفكر وشاعر قومي مقيم في البرازيل..

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى