مقالات وآراء

الفكر ُالسوريّ أبدع رفعة القيادة الإنسانيّة المعبرة عن عظمة الإنسان المجتمع.. والديمقراطيّة التعبيريّة الواعية هي الأساس

فلاسفة الإغريق المعتبَرين آباء الحكمة والفلسفة لم يكونوا سوى طلبة علم لأساتذة سوريين

* العقل السروي ارتقى بالمجتمع وطوّره، وبرقي المجتمع ارتقى أبناؤه، وبرقيّ ابناء المجتمع تحرروا من التخلف لأن الحرية رقيّ والتخلف عبودية. وإذا كان بإمكان أبناء المجتمع الراقي الاحرار أن يمارسوا ديمقراطية الرقيّ والحرية، فإن ابناء المجتمع المتخلف العبيد للتخلف لا يستطيعون أن يمارسوا الا ديمقرطية التخلف والعبودية والفوضى والطغيان.

* وُلدت الديمقراطية في سورية منذ آلاف السنين قبل أن تكون اليونان قد وُجدت، وكان ذلك عندما انتخب السوريون ملكاتهم وملوكهم انتخاباً، فكانت ملكات سورية أولى نساء العالم اللواتي تحمّلن مسؤولية ادارة شؤون الدولة، وتبعات قيادة المجتمع للكفاءات التي كنّ يتمتعن بها من حكمةٍ، وبعد نظر، وأمانة، ونبوغ. وأثبتن أنهن كنَّ معبِّرات عن الإرادة العامة بشكل عبقري تجلى في قيادة الملكة أليسار في بناء إمبراطورية قرطاجة وإعطائها المثال القدوة في بناء الدولة ورسم مسار نموّها وتطورها. والملكة زنوبيا التي كانت مثال العبقرية والنبوغ في قيادة المجتمع في حالتي السلم والحرب ومواجهة أعتى الإمبراطوريات في عهدها، ووقفة العز التي وقفتها مختارة ومفضلة الموت بالعز على الحياة بالذل.

 

 

 

يوسف المسمار*

الديمقراطية والدكتاتورية كلمتان شائعتان ورائجتان عند الناس. والسمة الغالبة تدعو إلى الديمقراطية وترفض الدكتاتورية. وعند السؤال عن ميزات الديمقراطية تتلعثم الألسنة، وتتعدد الأجوبة بحسب المستويات العمرية والثقافية والأنانية والفئوية والطائفية والقبلية والعشائرية والغرائزية والنزواتية والانتفاعية.

الديمقراطية والدكتاتورية اصطلاحان قديمان يعودان الى عهد اليونان وقد اقتبسهما طلبة العلم اليونانيون من أمثال سقراط وأفلاطون وأرسطو عن الثقافة السورية عندما أتوا الى سورية والتحقوا بمدارس المعرفة والحكمة والعلم في مدنها، وتعلموا وتدرّبوا على أيدي معلّميهم ومدرّبيهم المتنورين المستنيرين السوريين الذين كانوا قد بلغوا شأناً عظيماً في ميادين الرقيّ والتمدن بعد أن اخترعوا حروف الكتابة والقراءة، وأرقام الحساب والأعداد، ورموز الهندسة والبناء، والنوتات الموسيقيّة، والمقاييس الفلكية، وبعد أن مكّنهم ذلك الاختراع العظيم لحروف الهجاء من تدوين وتخزين المعارف والعلوم والفنون وتطويرها بما يتلاءم مع حاجة الحياة في تلك الحقبة من الزمن حتى اشتهر القول الذي نطق به مثقف سوري في تلك العهود الغابرة أماط عنه اللثام أحد المكتشفات: «أنا أكتب وأقرأ لأنني سوريّ».

ليس كل مَنْ تعلّم لغة أحسّ بها مثل أهلها

ومن البديهي والمنطقي والعقلي أن الطالب الأجنبي عندما يذهب الى بلد آخر طلباً للعلم ولم يكن متمكناً بشكل جيّد من اللغة الجديدة، فإن أول ما يحتاج اليه هو دراسة وتعلّم اللغة التي هي المفتاح الذي لا غنى عنه ولا بد منه للدخول الى عالم اللغة الجديدة والاطلاع على ما تحتويه من معلومات ومفاهيم.

حتى أن الذين يتكلمون اللغة من أبناء المجتمع ويفهمون بشكل سهل ومباشر ما تعنيه كلماتها لا يستطيعون استعياب مغازيها ومعانيها العميقة الحقيقية إن لم يكونوا على مستوى معيّن من النضوج والفهم. ولا تزال هذه الحقيقة ثابتة حتى أيامنا هذه، ويستحيل على أي طالب علم أن يقف على حقيقة ثقافة من الثقافات الا اذا تعلم لغتها أو ترجمت بشكل جيّد علومها وآدابها الى اللغة التي يحسنها ويجيدها.

طلبة اليونان لم يفهموا روحَ مصطلحاتنا

وهكذا يجب ان نفهم حال جميع طلاب العلم الذين قصدوا بلاد الهلال الخصيب لهدف الحصول على المعارف والعلوم، وبخاصة الطلبة الإغريق المذكورين أعلاه والمعتبرين عالمياً اليوم آباء للفكر والفلسفة وهم لم يكونوا أكثر من طلاب علم ومعرفة، وفلسفاتهم وأفكارهم لم تكن الا ما دوّنوه في دفاتر مفكراتهم عن أساتذتهم السوريين في صيدا وصور وجبيل وبيروت وأوغاريت وسومر وبابل ونينوى وتدمر وبعلبك، ليراجعوا ما دوّنوه على أوراقهم الخصوصية فيما بعد من نظريات ومفاهيم وأفكار وعلوم، ومن ثم ليصيغوها بلغتهم وبالشكل الذي قدّر لهم أن يستوعبوها وأن يفهموها بينما لم يكن زملاؤهم السوريّون بحاجة الى تدوين مثل تلك العلوم التي كانت تشرح لهم بلغتهم الأم التي كانت أول لغة للمعرفة الحضارية تُكتب بحروف راقية، وتُقرأ وتُخزّن فيها المعارف والعلوم والفنون.

ولا يُخفى على اللبيب البصير أن لكل أمة نفسيتها الخاصة وعقليتها المتميزة الناتجة عن تفاعلها مع بيئتها، وتفاعل أبنائها في ما بينهم، واكتمال أهليتها أو عدم اكتمالها، وظروف علاقاتها بجيرانها، والحوادث الطبعية التي تعرّضت لها، والأحداث التاريخيّة التي مرّت عليها بحيث أصبحت تتميّز بخصائص وصفات تنفرد بها عن غيرها. وحتى يومنا هذا يمكننا ملاحظة أنه لا يمكن للمترجم مهما كان ملمّاً بأصول اللغات أن ينقل بأمانة كلية مطلقة روحية ونفسية وعقلية أمة من الأمم الى لغة أمة أخرى، والى أبناء تلك الأمة. وحتى في الأمة الواحدة واللغة الواحدة توجد هناك صعوبات في تفسير أفكار مفكر أو شاعر أو أديب أو الوقوف على المغازي العميقة والبعيدة التي هدف اليها المفكر او الشاعر او الأديب.

طلبة اليونان قصّروا في فهم مبادئنا

فاليونانيّون مثلاً الذين تعلموا الحساب في بابل لم يستطيعوا أن يفهموا علم الحساب والعدد الا من درجة العدد أو الرقم واحد (1) بينما علم الحساب الحقيقي عند البابليين كان يعتبر الصفر (0) هو النقطة التي تقع ما بين الأقل والأكثر، ولذلك فهو في الحقيقة قيمة وله قيمة حقيقية تقع ما بين اتجاهين: اتجاه الى الزيادة والكثرة وآخر الى التناقص والقلة.

وبناء على ما قدّمناه يمكننا استخلاص نتيجة أن الكثير من الكلمات او الأفكار عندما ترجمت لم تعط ترجمتها المعنى الحقيقي المقصود في لغة الأصل، وانما كانت محاولة تقريب المفهوم الى الحدّ الممكن المعقول. ومن هذه الكلمات كلمة الدكتاتورية وكلمة الديمقراطية اليونانيتان بحيث يتوجب علينا العودة الى الأصل السوري والمعنى الحقيقي الذي رمزت اليه هذه الكلمات.

مراجعة التاريخ وفهم تاريخنا واجبان

العودة الى الأصل ومعرفة التاريخ الحقيقي يساعد كثيراً على فهم الأشياء فهماً سليماً وفي هذا يقول العالم الاجتماعي السوري انطون سعاده: «من أتعس حالات هذه الأمة أنها تجهل تاريخها. ولو عرفت تاريخها معرفة جيّدة صحيحة لاكتشفت فيه نفساً متفوّقة قادرة على التغلّب على كل ما يعترض طريقها الى الفلاح».

ولمعرفة التاريخ معرفة صحيحة لا بدّ من رقيّ ثقافي، وغنى فكري، وانفتاح عقلي، والتخلص نهائياً من عهود الجهالة والتخلّف التي أدت الى عدم معرفة تاريخنا معرفة جيِّدة صحيحة، ولا بد أيضاً من استقلال فكرنا وإرادتنا لنتخلص من الفقر الفكري والمعرفي والعلمي الرهيب الذي يكاد يودي بكل أمل بالنهوض والسير الى الأمام.

الفقر العقلي قمة الفقر

وهذا هو الفقر الحقيقي الذي يعصف بحياتنا ويجعلنا كأمة على حافة الهلاك. وكم كان حكيماً وبليغاً الأمام علي بن أبي طالب حين قال: «لا غنى كالعقل ولا فقر كالجهل». نعم ان الغنى الحقيقي هو في العقل الحر المحرِّر، وإن الفقر الحقيقي هو في الجهل الطاغي المستَعبد المدمّر. فاذا سقم العقل، تعطل الفكر. واذا اندحر الجهل، يصبح كل فعل ضياء. وكلما انفتح العقل على الوجود والحياة والكون، ازداد خصباً وثراءً وإبداعاً، وكلما انغلق العقل وانقبض صدئ وازداد رداءة وعفونة. ولأن العقل الانساني تفتح أول ما تفتح في سورية، فقد سميت سورية بهذا الاسم أي بلاد النور والمعرفة أي وطن العقل الناضج الخصيب.

وطبيعي أن للعقل الناضج مفاهيمه وإبداعاته التي تعبر عن النضوج الفكري وتدل على التقدم والرقي الثقافي. وأولى علامات النضوج والرقيّ البارزة بروزاً ساطعاً من دون ريبة أو شك كانت تلك العلامات التي تدل على نشوء الشرائع في سورية استجابة لحاجة الحياة المتطورة لتنظيم العلاقات بين أبناء مجتمع الهلال السوري الخصيب والعلاقة بين الإنسان السوري وبيئته، وبينه وبين ما عليها من حيوان ونبات وجماد، وعلاقة هذا المجتمع بغيره من المجتمعات الى جانب الشرائع الروحية التي اهتمت بتنظيم العلاقة بين الإنسان وبين القدرة التي يرى الانسان أنها أوجدت الخلق، أي الإله الخالق ورسله من الآلهةالملائكة.

المفاهيم نتاج المجتمعات

الأفكار والمفاهيم الراقية هي بنت المجتمعات الراقية، والأفكار والمفاهيم المتخلفة هي نتاج الجماعات المتخلفة. وحين تتبنى المجتمعات الراقية مفاهيم وأفكاراً متخلفة وتعمل بها تنحط وتتخلف. وكذلك عندما تعبث الجماعات المتخلفة بأرقى المفاهيم والأفكار، فلا يزيدها ذلك الا بعداً عن التقدّم ومزيداً من الانحطاط والتقهقر.

المجتمعات الحضارية الراقية هي المجتمعات التي اكتملت أهليتها وحصل نضوجها فتطورت وخرجت من عهود شرائع الغاب وفوضى شرائع الغاب الى فجر قانون الحقوق والواجبات، وتوصلت إلى نظام أحكام المحبة والعدالة التي تنشر وتعمّم الرحمة بين الناس أفراداً وشعوباً رسالات وتعاليم يًكتسب بها رضى الأفراد والشعوب، فتنتقل بها الإنسانية من مجد الى مجد، ومن حَسَنٍ الى أحسن.

الفهم الخاطئ للمصطلحات يقود إلى الخطأ

ان مصطلحَي الدكتاتورية والديمقراطية اليونانيين هما ترجمة خاطئة لمبدأين سوريين يعودان الى ضحى تألق الحضارة السورية في التاريخ الذي ابتعد كثيراً عن ليل الجاهلية الطويل وظلماته الخانقة، وكذلك مصطلح الأرستقراطية. فالدكتاتورية والديمقراطية والأرستقراطية من حيث هي كلمات مركبة من حروف لا تعني شيئاً مفيداً الا اذا توضح معناها بالتعريف والتعيين والتحديد، فتفهم كل كلمة منها كما ينبغي أن تفهم. ان اصطلاح كلمة «الدكتاتورية» اليوناني كما هو سائد اليوم هو حكم الفرد المطلق، واصطلاح كلمة «الديمقراطية» هو حكم الشعب أو حكم العامة، واصطلاح حكم الأرستقراطية هو حكم النخبة أو الأقلية، والحكم السليم في الحضارة السورية ليس حكم الفرد ولا حكم الأقلية ولا حكم العامة، بل حكم الأمة لتحقيق قضيتها العظمى في وجودها وحياتها ومصيرها وصراعها في سبيل أسمى مثلها العليا، وليس ما استوعبه الطلبة الاغريق من كلمات الديكتاتورية الفردية والارستقراطية الأقلية والديمقراطية الفوضوية وبنوا على هذه الاصطلاحات المبهمة أفكارهم ومفاهيمهم، مع أن مصطلحات هذه الكلمات في مفهوم المجتمع السوري الراقي تشير الى حالتين نظاميتين أو يمكن القول إنهما تدلان على نظام حياتي واحد ذي بنيتين أو درجتين لا تستقيم حياة المجتمع باطراد الرقيّ الا باعتماد هاتين البنيتين أو الدرجتين.

نظام التربية الحياتيّة السليمة على درجتين

الدرجة الأولى التي هي التشدد العادل في الإرشاد أو ما يمكن تسميته بدكتاتورية التوعية والعناية والرعاية والتربية والتدريب حتى التمكن من الوصول إلى الدرجة الثانية التي هي النضوج المعبِّر عن اكتمال الشخصية العاقلة في الفرد المؤهلة ذاتياً للتمييز بين المنفعة الخاصة الآنية التي تقتصر على الجزء، والمصلحة العامة التي تعود بالفائدة والنفع على جميع أبناء جيله، وتمتد في الزمان لتطال الأجيال التي تلي، فيحس باستمراره في المجتمع ويمارس خياره بحريّة ودون إكراه. لا خوفاً من سلطان جائر، ولا طمعاً بمغنم عابر، بل يمارس خياره ويكثّف جهاده ويستخدم كل قواه وطاقاته استجابة لمطالب الحياة الكبرى في التقدّم، واعتماداً على اكتمال أهليته واستعداده لممارسة كل خيار وعمل ضروريين للنهوض بالحياة ورفع مستواها الى أبعد حد ممكن.

وهذا النضوج هو الذي يمكن الأفراد في المجتمع الراقي من ممارسة حقوقهم على أفضل وجه ممكن في اختيار النظام الأمثل لحياتهم العامة ورقيِّها. وهذا ما يمكن تسميته «بالديمقراطية التعبيرية المعبّرة عن الإرادة العامة» التي تتناول حياة المجتمع بأكمله في جيله الحاضر ممتدّة ومستمرة في الزمان، وواضعة أفضل الأسس والخطط لتحسين حياة الأجيال الآتية.

النضوج العقلي أساس مبادئ الحكم السليم

الديمقراطية التعبيرية هي تعبير عن إرادة الذات العامة المدركة الفاهمة المستوعبة مبادئ النهوض، ووسائل تحقيق الرقيّ، ومطامح الإنسان المثلى. وهذه الديمقراطية هي من ابداع الفكر السوري الذي ظهر منذ آلاف السنين في سورية كما يقول العالم الفيلسوف أنطون سعاده: «لقد ظهرت الديمقراطية لأول مرة في التاريخ بواسطة انتخاب الملوك في الدول السورية، وأخذ الناس في الماضي المبادئ الصالحة عن السوريين وحضارتهم». ويضيف على القول المتقدمأما الديمقراطية التي يفتخر بها العالم الآن فهي من صنع سوريّ أيضاً لأن أول فكرة ديمقراطية تعطي الشعب حقه في ابداء الرأي في سائر شؤونه ظهرت في سورية. وبلا شك هي الغرسة الأولى في هذا الباب التي أعطت الثمر الكثير للعالم كله ولا يزال البشر الى الآن يجاهدون في إيصال هذه الفكرة «حقوق الانسان» الى حد الكمال».

لكن النفسيات المريضة والعاجزة عن فهم واستيعاب المضمون الحقيقي التي تعبث هذه الأيام بمفهوم الديمقراطية وتشويهه ومسخه ليصبح سفسطة فردية أنانية فوضوية قد أساء كثيراً لمعنى الديمقراطية التي كانت وجهتها الأساسية الصالح العام، والإرادة العامة، وبناء دولةالمجتمع وتطويرها وترقيتها لتصون حقوق جميع أبنائه من دون استثناء أحد، وتعمل على وصل ماضي الشعب المجيد بحاضره الأمجد الذي يمكن أن يكون أساساً صالحاً لمستقبل أكثر جودة وأكثر صلاحاً، فتحوّلت الى اتجاهات لا تُحصى تتمركز مطامعها في الحصول على المنافع الأنانية او الفئوية أو التجارية الخصوصية الضيّقة الحقيرة وتحقيق النزوات الشهواتيّة للذين يغشون ويخدعون العامة بديمقراطية تمثيلية شكلية غشاشة. ولذلك يضيف سعاده ما يلي:

«إن الديمقراطية الحالية قد استغنت بالشكل عن الأساس، فتحولت الى نوع من الفوضى لدرجة أن الشعب ذاته أخذ يئن من شلل الأشكال التي أخذت على نفسها «تمثيل» الارادة العامة، وصار ينتظر انقلاباً جديداً. وهذا الانقلاب الجديد هو ما تجيء به الفلسفة السورية القومية الاجتماعية القائلة بالعودة الى الأساس، والتعويل على «التعبير عن الارادة العامة» بدلاً من «تمثيل الارادة العامة» الذي هو شكل ظاهريّ جامد».

وهذا لا يمكن حصوله الا بيقظة روحية للأمة، ونهضة عقلية رشيدة تشمل جميع نواحي حياتها، وفلسفة قومية اجتماعية جامعة، وعقيدة بطولية واعية تغيِّر الواقع المأساوي، والحالة الزرية التي تعيشها أمتنا.

الديمقراطية التعبيرية الواعية تنبع من وعي الأفراد الذين بلغوا النضج والرشد، ويتمتعون بمناقبية عالية، واحساس قومي مجتمعي راقيين وأصبحوا مؤهلين وقادرين على الممارسة الصالحة. وبهذا تتناغم شخصية الفرد الواعي مع شخصية الجماعة الواعية وتنتج عن ذلك ظاهرة الوجدان القومي الاجتماعي أي ظاهرة شخصية الأمة القومية الاجتماعية.

الدرجة الأولى تركز على التشدد في العناية والرعاية، ويمكن وصفها بالعناية الفائقة. ومن المعلوم أن العناية الفائقة بالمريض تصل به الى السلامة، وكذلك العناية الفائقة بتربية الطفل أو الطفلة ورعايتهما وتدريبهما وتمرينهما جسداً وروحاً ومعرفة وعلماً وفناً تخلق من كل منهما عضواً سليماً فاعلاً في المجتمع ومواطناً صالحاً منتجاً يستطيع أن يصل بنجاح الى درجة أعلى في نظام الحياة المندفعة نحو الأفضل.

وفي هذا نلاحظ أن مرحلة الاستبداد العادل أو العناية الفائقة هي مرحلة مؤقتة وليست لها صفة الديمومة بينما مرحلة الحرية الناضجة أو الديمقراطية هي مرحلة دائمة وتتكفل بتطوير نفسها بنفسها وترتقي من حالة سليمة الى حالة أسلم.

الخلط بين الديمقراطية والبرلمانيةوالاستبداد والطغيان

يقول أنطون سعاده: «يخلط الناس كثيراً بين الديموقراطية والبرلمانية، ثم بين الاستبداد (الدكتاتورية) والطغيان، حتى ليجعلوا النظام البرلماني مرادفاً للديموقراطية، والطغيان مرادفاً للاستبداد الديموقراطي». ويضيف: «يمكننا ان نميز جيداً بين ما هو استبداد عادل وما هو طغيان، وبين ما هو ديموقراطي وما هو برلماني».

العادلون كثر

الوالدان مستبدّان عادلان لأنهما لا يسمحان لطفلهما أن يلعب بالنار لكي لا يحترق. والطبيب مستبد عادل عندما يحوِّل مريضه الى غرفة العناية الفائقة لكي يساعده على التعافي والشفاء. والقاضي مستبد عادل عندما يحكم على المجرم بالسجن لكي لا تنتشر الجرائم بين الناس. وشرطي السير مستبد عادل عندما يمنع سائق السيارة من المرور عكس السير من أجل تجنّب الحوادث القاتلة. والحكومة مستبدة عادلة عندما تحارب الفوضى بفرض احترام النظام وفرض الاحترام المتبادل بين الناس تجنباً للفوضى وأعمال الشغب وشريعة الغاب.

نظام المجتمع الراقي رقيّ ونظام المجتمع المتخلف تخلّف

على ما سبق حصل تطور المجتمع ورقيّه، وبرقي المجتمع ارتقى أبناؤه، وبرقيّ ابناء المجتمع تحرروا من التخلف لأن الحرية رقيّ والتخلف عبودية.

وإذا كان بإمكان أبناء المجتمع الراقي الاحرار أن يمارسوا ديمقراطية الرقيّ والحرية، فإن ابناء المجتمع المتخلف العبيد للتخلف لا يستطيعون أن يمارسوا الا ديمقرطية التخلف والعبودية والفوضى والطغيان.

وبما أن الفرق بين مجتمع راقٍ ومجتمع متخلف هو أن المجتمع المتخلف يقوم على شريعة الغاب والباطل وممارسة العدوان على حقوق الآخرين، والمجتمع الراقي يقوم على شريعة القانون والعدل واحترام حقوق الآخرين، فان معنى الديمقراطية التعبيرية ومضمونها يختلف اختلافاً كبيراً وجوهرياً بين ديمقرطية الحق والعدل والرقيّ وديمقراطية العدوان والطغيان والتخلف.

الفرق واضحٌ بين سلطان الفضيلة وطغيان لرذيلة. وكذلك الاختيار بيِّنٌ بين العاقل والجاهل. ولا ينكر هذا الفرق الا من تعطل عقله أو أصيب بعمى البصيرة.

المجتمع السوري أول من انتخب المرأة ملكة

لقد وُلدت الديمقراطية في سورية منذ آلاف السنين قبل أن تكون اليونان قد وُجدت، وكان ذلك عندما انتخب السوريون ملكاتهم وملوكهم انتخاباً، فكانت ملكات سورية أولى نساء العالم اللواتي تحمّلن مسؤولية ادارة شؤون الدولة، وتبعات قيادة المجتمع للكفاءات التي كنّ يتمتعن بها من حكمةٍ، وبعد نظر، وأمانة، ونبوغ. وأثبتن أنهن كنَّ معبِّرات عن الإرادة العامة بشكل عبقري تجلى في قيادة الملكة أليسار في بناء إمبراطورية قرطاجة وإعطائها المثال القدوة في بناء الدولة ورسم مسار نموّها وتطورها.

وكذلك الملكة زنوبيا التي كانت مثال العبقرية والنبوغ في قيادة المجتمع في حالتي السلم والحرب ومواجهة أعتى الإمبراطوريات في عهدها، ووقفة العز التي وقفتها مختارة ومفضلة الموت بالعز على الحياة بالذل.

المبدأ الديمقراطي نتاج سوري

لقد وُلدت الديمقراطية في بلاد الرافدين والشام عندما ظهرت الى الوجود الشرائع السومرية والبابلية والكنعانية، فكانت سورية بشرائعها القانونية، وتعاليمها الانسانية، ورسالاتها الروحية، أمَّ الديمقراطية الحقيقية التعبيرية التي تعبِّر عن نفسية راقية تمتد مطامحها الى أبعد ما يكون الطموح، وأرقى ما يصل اليه الرقي.

ولهذا لن ينقذ الديمقراطية من حالة الوباء التي وصلت اليها الا العقلُ السوري الفضائلي أو عقلٌ فضائلي آخر يتمتع بمزايا شبيهة بمزايا العقل السوري الذي كان أُماً وأباً للمعرفة والحكمة والفضيلة في عالم الحضارة.

لقد ابتُذل معنى الديمقراطية في العالم وتشوّه مفهومها كثيراً ولم يبق منها سوى الاسم الذي تجتره الجماهير، أو تسوّقه أنظمة العدوان والطغيان، أو تعممّه وتنشره وكالات الدعاية والخداع.

وكم نحن بحاجة اليوم لفهم وتدبر قول أنطون سعاده: «إن الأمم كلها تريد الخير والفلاح، ولكن المشكل هو في إيجاد التعبير الصالح عن هذه الإرادة. فالإرادة العامة إذا لم تجد التعبير الصحيح في فكرة واضحة وقيادة صالحة تصبح عرضة لأن تقع فريسة للمطامع والمآرب التمثيلية».

نعم إن صحة الفكرة ووضوحها، وصلاح القيادة وإخلاصها هما الشرطان الأساسيان الضروريان لمبدأ الدكتاتورية العادلة التي تقود الأمة الى الفلاح، ومبدأ الديمقراطية التعبيرية العاقلة التي تجعل المجتمع قادراً على استيعاب الفكرة الواضحة، والثقة المطلقة بالقيادة الصالحة، فيتحقق بهذين المبدأين كل الخير وكل الفلاح وكل التقدم. لقد تألق النبوغ السوري بمزايا المعرفة والحكمة والعلم والفضيلة والصلاح والإبداع.

لقد شهد التاريخ البشري دكتاتوريات عدوانية كثيرة وكلها بادت وانقرضت ولم يبق منها للإنسانية الا العبَر لمن يعتبر لأنها قامت على مبادئ التوحش والهمجية وتدمير الحضارات، وفي العالم اليوم الكثير من الأنظمة والحركات السياسية والدينية والاجتماعية والاقتصادية والفكرية والطائفية تدّعي الدفاع عن حقوق الانسان وتموّه نفسها بكلمة الحرية والديمقراطية وهي في الحقيقة ميكروب عدوان وطغيان وجور لا خير فيها ولا خير في هيمنتها وتعليمها وممارساتها.

مبادئ الحكم الحضارية السورية

الوجود الإنساني من دون احترام حقوق الشعوب في الحياة والصراع والحرية والتقدم والرقي هو وجود لا يليق بالانسان الذي أهلته قوة عقله أن يجعل الحياة لنفسه ولجميع بني البشر كلها حقاً وعدلاً وخيراً وسلاماً.

 ان نظام الحكم السليم الحضاري السوري القائم على مبادئ الديمقراطية الواعية أي الشعب الواعي، الذي أبدعته سورية وقدمته للعالم ليخرج من الظلمات الى النور وليعيش بأمن وأمان فأسيء فهمها حتى من الذين يعتبرون أنفسهم ويعتبرهم البعض في مقدّمة المتنورين. وهذا النظام للحكم هو الذي استخلصه المعلم أنطون سعاده من حضارة الأمة السورية، وابدع نظام الحزب السوري القومي الاجتماعي برؤية جديدة، ونظرة شاملة الى الحياة والكون والفن، ووضع فلسفة التفاعل الموحّد المدرحية القومية الاجتماعية للقوى الانسانية، وأسس الحزب السوري القومي الاجتماعية كدولة مصغّرة عن دولة الأمة السورية لتكون قدوة لدول الأمم.

لقد وضع سعاده النظرة الى الحياة والكون والفن ولم يشترك معه أحد في وضعها، ووضع العقيدة فكرة وحركة تتناولان حياة الأمة بأسرها، ووضع فلسفة مادية روحية، ونظاماً قومياً اجتماعياً، ومارس عقلية مناقبية أخلاقية جديدة قومية اجتماعية قبل أن يقول بها، ورسّخ في قوله وكتاباته ومحاضراته وكل ما صدر عنه من سلوك وتضحية وفداء تفكيراً قومياً اجتماعياً دائم الحداثة منفتحاً ومتوسعاً ومتسامياً باستمرار.

العباقرة والنوابغ والأبطال لا يتخلون عن العدالة بقبول الجور والظلم، ولا يتنازلون عن دورهم في التعليم والهداية ولا يلجؤون الى التكاسل والإهمال، ولا ينجرون وراء هلوسات الجماهير ومظاهرات الغوغاء بركوب موجات الفوضى والتخريب.

 فيا أيها الواعون الأحرار الأعزاء من أبناء الهلال الخصيب المقيمون والمهاجرون والمهجّرون من أبناء فلسطين ولبنان والشام والعراق والأردن والكويت إياكم أن تتنازلوا عن حقيقتكم الواعية التي تمكنكم من مواجهة الشر والأشرار، وتساعدكم على تجفيف مستنقعات الجهل، وتطهير بلادكم من العدوان والمعتدين. واياكم أيضاً أن تتخلوا عن ديمقراطيتكم في ثباتكم على الثقة بأنفسكم والايمان بعدالة قضية نهضتكم، والمثابرة على ممارسة بطولتكم الواعية، وجعل ارادتكم هي الحاسمة في تقرير سيادتكم على أنفسكم ووطنكم، ليستمر الفكر السوري القومي الاجتماعي فاعلاً ومتألقاً بمبدأ سلطان العدل المستبد، ومبدأ سيادة الحكمة الهادية، ومبدأ سيادة الوعي الحر الديمقراطي الرشيد الذي لا يتجه إلا الى تحقيق أفضل الغايات والمقاصد.

هذه هي مبادئ الحكم الحضاري التي ينتصر بها حكم العباقرة والنوابغ والأبطال وتنتصر بهم فتنتصر إرادة أمتهم لتكون بداية كتابة التاريخ الحضاري الأجد والأحدث والأخير الذي حُفرت على بابه آية آيات الحق والخير والجمال والأمن والأمان السلام بأحرف دائمة الضياء: «لقد شهد أجدادنا وآباؤنا الفاتحين ومشوا على خطاهم، أما نحن فسنضع حداً للفتوحات».

واذا كان لا بد من فتوحات أجد وأجود ففتوحاتنا لا تكون الا المزيد من المعرفة الفاضلة، والعلم النافع، والخير الوفير، والسلام العادل وكل ما يرفع البشرية جمعاء الى سماء الخلود الجميل الأجود.

*مفكر وشاعر قومي مقيم في البرازيل.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى