ثقافة وفنون

كفرمتى… كتب وكستناء

} زياد كاج*

يحتار الكاتب أحياناً حين يهمّ بالكتابة عن موضوع متعدّد الأطراف والأوجه من أين يبدأ؛ كما يحتار المحقق في حدث أو قضية ما قبل الإمساك بطرف الخيط. والحيرة حافز ولو رافقها شيء من التوتر. لا أخفي بأنني أحب كثيراً عامل الصدفة وأؤمن به واُفضل الصدفةإذا وقعتعلى مليون ميعاد. كان ذلك حين سمعت لأول مرة ببلدة تقع في قضاء عاليه: «كفرمتى» (تعني بالسريانية قرية رجل الله).

من فظاعات الحروب لمع الأسم وسُمع صدًى رهيب من ألم وأنين. صديقي سمير من فوق. حين مرض عمه الشيخ (المدرس في مدرسة العرفان)، صعدنا معاً للاطمئنان إلى صحته. وجهه بشوش، صابر رغم التعب. «شيخنا لماذا لا تجلب جهاز تلفزيون الى غرفتك كي تتسلى؟»، سألته.

إبتسم وقال: «غير مسموح هنا». (وهو طريح الفراش في منزل عمه الأعلى درجات في المشيخة المعروفية). صديقي الذي ركبت الطائرة معه أول مرة الى «فارنا»، والذي فقد أخيه المتطوع في الصليب الأحمر وهو في المهجر، والذي حلّت به أهوال وتحديات تحتاج لصبر أيوبي، بقي صاحب أخفّ وأظرف شخصية بين شلتنا. يرشّ النكات كما يسقي الفلاح الأرض العطشى. سمير أخبرني عن قصة عائلة الغريب في كفرمتى وما حلّ بها. في صفحات الكتب قرأت التفاصيل؛ ومن زميلة في العمل (عطر الغريب) عرفت المزيدوفي تمني الجهل هنا خير وزاد لراحة بال الغد!

ذكر أحد الكتّاب الأجانب في كتابه عن الأمير فخر الدين المعني الثاني في المقدمة، ما معناه أن في ملة المعروفيين «كل فرد منهم هو أمير». لفتتني تلك العبارة وأضفتها الى قاموسي الخاص بجماعة «الخمس حدود» وبقرية «رجل الله». وفي كتاب المقدّم شريف فياض الكثير من أسرار وأحداث عكست تلك الحقيقة وغيّرت مسار ومصير تلك المنطقة بعد الاجتياح الصهيوني للبلد.

تدور عجلة الزمن. تعمل ممحاة الذاكرة ببطء في البداية ثم بسرعة أكثر. تتحوّل الأحداث الأليمة الى تجاعيد على وجوه الكبار من رجال ونساء والى خصل شعر بيضاء تُنسج منها خيوط قصص الماضي للصغار في سهرات الشتاء. تختفي الدماء لتصبح حبراً على ورق. أرواح الذين رحلوا باكراً تشعر بها مع كل هبّة ريح بين الأغصان ومع كل مغيب لشمس النهار.

«كفرمتىكتبكستناء!».. من أين أتت هذه التركيبة؟ يا لجمال سلسلة المصادفات؟

كان خير تعارف على الشاعرة حكمت حسن من البنيه: جارة كفرمتى. مربّية أجيال وشاعرة صوفية تحفر عميقاً في الوجود والوجدان الإنساني. تعشق القراءات الصعبة وتتعب نفسها، تتألم حتى الصراخ الصامت.. فيهطل شعرها منعشاً كأول شتوة وأول كأس نبيذ في سكرة شعرية. يحصل أنها علّمت أبناء زميل لي من بيصور وابنة صديقي سمير. صاحبة تفاصيل، تنطق بما يجب أن يُقال، وتهوى العناوين الاستفزازية لكتبها. بفضلها ومن أجلها قصدنا مراراً «البنيه» وتعرفنا على كرم وطيبة وثقافة أهلها. لنا في شملان «غاية» وحكمت لا تستهوي كثيراً لقب «شاعرة الشحار».

بين منطقة الطيونة ورأس النبع طريق طويلة. لا زحمة سير هناك. الطريق كأنها شريان تواصل بين بيروت والضاحية. هي بين صنوبرات ميدان سباق الخيل وحرج بيروت. لطالما تمنيت الدخول الى ميدان السباق لمشاهدة الخيول كما كان يفعل أبي خلال مراهناته مع صديقه الأرمني أوهانيس. مشهد سائقي السيارات العمومية المحبطين وهم يخرجون من البوابة الحديدية كان يجعلني أؤجل قراري مراراً. وضعت المشروع على لائحة «مشاريع المستقبل» من دون المراهنة.

«ألفايس بوك» عرفني افتراضياً على الآنسة تمارا أمين الديب. دعتني الى حضور ندوة على تطبيق «زووم إن» عن والدها الراحل الشاعر صاحب مشروع الأدب الوجيز (أو أدب الومضة)، وتحديداً حول ديوانه الشعري «الأدب الوجيز: هوية تجاوزيّة أو ومضة». أحببت الفكرة وشاركت واستمتعت بالمداخلات خاصة كلمة الدكتور فانوس وبقية المشاركين بإدارة الدكتورة درية فرحات. وكانت دعوة إلى زيارة كفرمتى بهدف المشي في الطبيعة.

أهديتها روايتي الأخيرة «أمر فظيع يحصل: مجزرة صبرا وشاتيلا 1982» وأهدتني كتاب والدها عن الشعر الوجيز وكتاباً آخر بعنوان «قضبان نحو الحرية» صادراً عن دار ومكتبة التراث الأدبي سنة 1988. يحكي الكتاب قصة امرأة جنوبية مقاومة تدخل معتقل «أنصار»، ويتضمن قصصاً عن المقاومة الوطنية في أيام جبهة المقاومة اللبنانية (جمول). بين رشفات قهوة الصباح كانت دردشة وتعارف مع الوالدة الصابرة والمتفانية. بيت عزّ في ثياب الحداد. أن تقوم بواجب العزاء ولو متأخراً خير من أن لا تفعل.

«ما رأيك لو ننزل الى نادي الأدهم للفروسية. وعدت أبن أختي بأن أحضر وأشاهده».

أخيراً سأشاهد مباراة لركوب الخيل ومن دون مراهنات. فوافقت على الفور. تمارا تخطط وأنا أتلقف الفرص والمصادفات!

لفتني سلوكها الاجتماعي والراقي في حديثها ومخالطتها مع ناس قريتها. تحكي مع الكبير والصغير، مع «الجهّال « و»العقّال». وكأنها في حالة عشق مستمرة لناس وطبيعة وأرض كفرمتى. وأنا بدوري دهشت للمشهد الجديد: جلس الأهالي تحت ظل الأشجار يتابعون المباريات وأداء الفرسان والفارسات من كل الفئات العمرية. الكل يشارك تحت إشراف مدرب محترف ومساعدين يحرصون على سلامة الأولاد. شباب وصبايا في ملعب الفروسية؛ يركبون الفرس ويقفزون فوق الحواجز بطريقة محترفة ضمن الميدان شبه الدائري والمسيّج بحواجز خشبية وأشجار. يعلو التصفيق للفارس أو الفارسة التي تبلي بلاء حسناً. «الفارس هو من يجب أن يسيطر على الفرس وليس العكس»، علقت صديقتي التي تولت الإجابة بصبر على أسئلتي البدائية في عالم الخيول والفروسية. «هذا مصنع فرسان ورجال»، قلت لنفسي وتذكرت قول الكاتب الأجنبي عن بني معروف. كان لافتاً منظر الخيل وهي تعدو وتقفز فوق الحواجز على وقع أصوات صدى ضربات حوافرها على التراب ونخير أنفاسها. الخيل قوة وعز وجمال ووفاء وبطولة. في النهاية، كان توزيع شهادات التخرّج. الروح الرياضية هي السائدة ولا زعل أو غيرة. مسك الختام كان مع عرض لافت للمدرب الذي قفز فوق حاجز بعلو أكثر من مترين. دار بالخيل مراراًتمنّعت. بعد محاولات عدة وترقب مع دعاء من نسوة وخوف من الجمهور على الفارس، نجح بالقفزوأثبت نفسه أمام تلامذته. كأن ممنوعاً عليه الفشل أو التراجع؛ فهو المعلم والمثال.

«ما رأيك بجلسة مع الأهل وسط الطبيعة؟».

«أنا هنا ساقط عسكرياً»، قلت مازحاً.

انضممنا الى جلسة عائلية وسط «الرزقات»، كما يقول أهل الجبل. اللافت أن المسابح الخاصة أصبحت ظاهرة لافتة في المنطقة. عائلة الراحل أمين الديب لم يبعدها السكن والبناء الحديث والمريح عن التراب وشجر الزيتون. فالجلسة على الأرض وفي ظلال الأشجار. وهذه صفة عامة عند أهل التوحيد. كان تعارف وتقارب مع الأقارب والإبن وائل وابنه الصغير الحفيد رفيق. أصّرت صديقتي على جلب «الأركيلة» بعدما عرفت أن القادم البيروتي من محبيها. كان غداءً لذيذاً ومميزاً من بركات ديات الأم وأم رفيق. رغم كوني «مخلوقاً مدينياً» غير اجتماعي، سهلت تمارا عليّ الحضور، ومرّ الوقت بسرعة ويسر بفضل إلفة الحضور ولطفهم. ناس لا تتحدث بصوت مرتفع. وسط تلك الجلسة والأحاديث الجانبية وضحكات الطفل رفيق الذي كان نجم القعدة، كنت أسترق الشرود وتأمل الأشجار والطبيعة حولنا. للحظات شعرت أن طيف الشاعر أمين كان بيننا. ضحكة حفيده تشبه ضحكته بشكل لافت. بعض الكبار لا تفارقهم الطفولة مهما كبرت التحديات والمصاعب.

سألت نفسي: أين ألتقيت بالشاعر أمين قبل سنوات؟

في مساء ماطر لبيت دعوة لحضور لقاء عن «شعر الومضة» قيل لي إن الشاعر الديب هو صاحب المبادرة. قصدت المقهى وأنا لا أعرف مَن هو ولا كيف يبدو. رأيت رجلاً جالساً في زواية وأمامه كيس كستناء. بطريقة عفويّة ومن دون أن أعرّف عن نفسي جلست قبالته. رميت السلام وجلست. ساد صمت ثقيل وأنا أتلفت حولي وأفكر بتغيير مكان جلوسي. «تفضل.. كستنا»، قال الرجل الذي كان يكبرني بالسن «لا شكراً»، ثم انسحبت الى مكان آخر.

الشاعرة حكمت حسن كانت عريفة اللقاء. الحضور كان مميزاً ومن شعراء قرأوا قصائد جميلة. ثم كانت مداخلة للدكتورة مهى خير بيك (وأنا أشكرها اليوم على دفاعها عني في إحدى الندوات الثقافية المغلقة رغم انفعالي وتجاوزي بروتوكول اللقاء).

وكانت قراءة لافتة للشاعر مكرم غصوب وغيره. ثم مداخلة وتعليق من الرجل الذي جالسته أول حضوري. كان أسمه أمين الديب.

اكتملت معادلة « كفرمتىكتبكستناء» بتقديم واجب العزاء ولو متأخراً في منزل جسر الدار. في نهاية ذلك اليوم، كانت جلسة للراحة والوداع على الشرفة المشرفة على الوادي والجبال البعيدة المقابلة. طبيعة جبلنا تصالحك مع الدنيا والوجود ومع نفسك فتطلق العناء للتأمل والأفكار الفلسفية. قلت لتمارا إن الآباء لا يموتون في هذا الشرق الحزين». أريده أن يبقى معي»، قالت وهي شاردة في الأفق.

الناس سلسلة معلقة على عنق الوجود. «صار عندك بيت في كفرمتى»، قالت مودّعة.

كأنها رشتني بماء الورد. في طريق العودة، حاولت العثور على منزل الشاعرة حكمت حسن، فلم أجده. شعرت بالذنب لعدم تمكّني من وداعها.

من أبيات الشاعر أمين الذيب أختم: «الرصيف المقابل يعجّ بالظلام

كيف سأعبر

لا مصابيح تُرشدني للمعنى المقتول.

أليس من مرايا تعكس الروح.

لو كان للسماء سلالم

كُنا عانقنا الاله

الأسرار

أدهى من الأساطير».

«صار عندي بيت في كفرمتىصار عندي كل البيوت».

 

*روائي وكاتب من لبنان.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى