ثقافة وفنون

البلوغ الشعري في شعر الومضة*

} الشاعر أمين الذيب**

انصهار الوجد في بوح الشعر لهو إنسانية تسمو لتلامس كينونة الخلق والإبداع، على هيئة ناسك في طرائقهِ انبعاث.

نحن اليوم في محاولة لإعادة التأسيس لنوع أدبي ينمو كزعفران الحقول فاتحاً أبجديته الى عمق المعنى الكوني، كمَن يومئُ للنجوم بأن تلألئي كي يومض الشعر إيحاءً فتمتلئ خوابيه وجِراره كثافة دلالية لمعانٍ تتقدُ بوحاً.

 يقول أدونيس: عش ألقا، ابتكر قصيدة وامض، زد سعة الأرض.

الابتكار شغف الحياة ورمزيتها، بمعناه التجاوزي المرتكز على ألق الفكر الإنساني الهادف بكينونته مسار الارتقاء والتقدم، الغاية هي إدراك الجوهر، البحث عن النواة الثائرة، فالكون لا يحتمل زيادة في التكرار، إنما بما يُضيف اليه الفكر والمُخيلة من عناصر المفاجأة والإبداع.

شكّل تراجع النقد الأدبي حالة لا بأس بها من التأثير على ذائقة المُتلقي وإقصائه عن مواكبة  التجديد الحاصل في معظم الأنواع الأدبيّة. وبالتالي أتاح هذا التراجع، في كثير من المراحل، تشويش ذائقة المتلقي وتعريضها لقبول السائد من الأفكار التي سطّحت المعنى وتآمرت على الجوهر، وأرست ثقافة هلامية  على حساب ثقافة الإبداع والتطور الفكري عند المجتمعات، بغاية فصلها عن تاريخها وخلق وقائع جديدة تتنافى مع الجذور الحضارية لمجتمعنا.

برزت استراتيجية التكثيف كعامل حاسم في ضرورة الانبعاث على حساب القصيدة الفراهيدية، وبالتالي قصيدة التفعيلة الحديثة، بمنطلقات فكرية، تؤكد على أنه كلما اتسعت الرؤيا ضاقت العبارة كإشارة الى تجاوز الكلام الكثير والمعنى القليل السائد.

يتمظهر الأدب الوجيز باقتصاد كبير في اللغة أي كلام قليل ومعنى كثير ليس تماهياً مع العصر الجديد بقدر ما هو حضور أدبي تجاوزي، بدأ يتموضع كنظرة جديدة للمفاهيم الادبية التي تعاني إعراض المتلقي، خاصة الجيل الجديد، المنغمس بما طرأ من وسائل حديثة كشبكات التواصل الاجتماعي وما أتاحته من فرص معرفيّة متوفرة بأهون الوسائل التي عممت المعرفة وطبعت العصر بطابعها، وكي لا تموت القصيدة وباقي الأنواع الأدبية ذات المطوّلات المملة والعاجزة عن التفاعل مع متطلبات المرحلة .

يعتمد الأدب الوجيز على التكثيف والذهاب إلى اكتشاف طاقة المفردة، بحيث يتم التخلص من الزائف والعرضي وبناء لغة صحيحة باستخدام ما ترمي إليه الألفاظ بجوهرها لا بظاهرها، من خلال تقنيات التضاد والتوازي أي الترابط بين الثابت والمتحول أو بمعنى آخر ترتيب البنى التركيبية على مستويات (إيقاعي عروضيصوتيصرفي تركيبيدلالي معجمي) للوصول إلى مغامرة المعنى في أقصى حدودها. «وهذا يعني أن مؤدى المعنى سوف يؤدي معنى التجربة الواحدة مع كثرة المتلقين، وبامتلاك الأدوات الفاعلة والمدركة لحدود التمنع؛ حيث يستطيع الشاعر إلقاء حجر فكرته في بحيرة المعنى لتحريك الراكد وإثارة المخبوء، ليحقق فعله الذي وجد من أجله.

في السياق التاريخي لنشوء هذا النوع الأدبي من الشعر، نجد أن آراء النقاد والمهتمين بالمسار الحضاري الإبداعي قد تباينت الى حد التناقض في معظم الأحيان فتطور المدارك والمفاهيم وتعميق رؤيتهما للكون والحياة والفن والجمال قد تبدّلت بتبدل مفاهيم العصر والزمان.

هذه المسألة يرى اليها البعض، وأنا منهم، على أنها  أي شعر الومضة شعر النُضج والدهشة في أبهى تجلياتهما،  فهو شعر الصمت الإيجابي كما يعتبره البعض والناجم عن التأمل العميق المرتكز على تجربة شعرية مُتأصلة في مواكبة الأزمان الشعرية ومراحل تطورها وتجددها وانبعاث قيمها السياسية والاجتماعية والأخلاقية.

وهكذا نرانا ندفع باتجاهها لما تكتنزه من كثافة مُدهشة في اللغة ورحابة في المعاني. فكلما قصُرت المسافة  أو الطريق بين المُبدع والكون، وبين المُبدع والمتلقي تكثف النص الشعري ليتبوأ، كما أراه مرحلة البلوغ الشعري، فالشعر عربياً كان أم غربياً هو عودة من اللطافة الى الكثافة، هو إدراكٌ شعوري مُتقدم تكاد معارفه أن تكتمل.

يرتشد شعر الومضة بالإيجاز والكثافة والترميز والإدهاش بديلاً عن الإسهاب السردي المُستند الى رحابة الوقت وسكون الحركة الثورية إلا في ما ندر.

 الثرثرة الشعرية، كما وصفها الشاعر نزار قباني، كانت مؤشراً لتجاوزه مرحلة الحداثة التي وقعت فريسة لغة مضطربة واستنجدت بفائض الكلام لملامسة المعنى على حساب طاقة المفردة ودلالاتها البنيويّة والإدهاشيّة .

لم تعُد ثقافة العصر الجديد القائم على الإيجاز والإختصار الشديد باللغة أن تتقبل عرض آراء شعرية تنسخ الراهن بحذافيره في توصيف ممل، يعجز عن التأثير في المستقبل، لعدم امتلاكه الرؤيا بوضيفتها التغييرية لوقائع الحاضر وعدم قدرته على خلق حياة جديدة تعبّر عن قلق الشاعر وتوتره وجنوحه الدائم لفض بكارة المستحيل الغامض.

ولعل أهم أسباب الانتقال إلى شعر الومضة هو انتقال الشعر من المباشرة والخطابية إلى الإيحاء، أو الانتقال من الشعر الذي يُلقى أمام متلقين في مهرجانات شعرية لغاية التوعية، والتنوير، إلى الدعوة إلى قصيدة تقرأ في جو خاص. وقد شـــهد عصــرنا تواتراً في الأحداث الساخنة التي لم تعد تسمح بنظم القصائد الطوال، الأمر الذي أدى إلى وجود سمة الانفعالية والتعبير المقتضب والموحي.

شعر الومضة وهو ذو مجموعة من التوقيعات النفسية المؤتلفة في صورة كلية واحدة، وهو أمر يعني أن للصورة أهمية استثنائية في شعر الومضة. ويكاد يبلغ في تجلياته أن يقدم ومضة سينمائية تتفاعل في خيال المُتلقي لتصير حالة شعرية متوالِدة.

ما أودّ قوله في النهاية إننا متصالحون مع الماضي الذي يُجيز البناء عليه في مسار التقدم الإنساني.

 

*مقالة مستعادة.

**شاعر راحل ومؤسس ملتقى الأدب الوجيز.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى