مقالات وآراء

الفيدرالية والذهاب إلى الأشدّ سوءاً…

} ساسين عساف

الفيدرالية واحدة من الفرضيات المطروحة حلّاً جذرياً، لدى جماعة من اللبنانيين، لما يُعرف في قاموسهم «القضية اللبنانية»، من دون أن يتباسطوا في شرح ما تعني لهم هذه «القضية». هل هي قضيّة وطن في طور التأسيس أو إعادة نظر؟ هل هي قضية دولة عمرها مئة عام لم تعد هي إيّاها كما أعلنت في العام 1920؟ هل هي قضيّة نظام سياسي انتقلت فيه الأرجحية من طرف إلى آخر؟ هل هي قضية هويّة حضارية بدأت تتآكل ودور في المنطقة بدأ يتقلّص؟ هل هي قضية موقع جيوبوليتيكي بدأ يهتزً نتيجة المتغيّرات الإقليمية والدولية؟ هل هي قضية جماعة خائفة على وجودها لأنّها لم تعد تمتلك من عناصر القوّة البشرية والسياسية والاقتصادية والثقافية ما يحمي هذا الوجود؟ هل هي قضيّة جماعة لديها منظومة قيم ثقافية واجتماعية وأنماط حياة وسلوك تنفرد بها عن الآخرين؟ هل هي قضية جماعة تجد نفسها صاحبة حقّ في التمايز باعتبار اللبنانيين جماعات ذات خصوصيات وهويات تاريخية متعدّدة؟ هل هي قضية جماعة لديها فقه سياسي خاص في ما يتعلّق بمفهوم السيادة والحرية والدفاع الوطني وشؤون العلاقات الخارجية؟

هنا نشير إلى أنّ ما تضمّنته الأسئلة السابقة من أسباب أو خلفيات للطرح الفيدرالي لا يشكّل «قضية لبنانية» بل قضيّة خاصة بأصحاب الطرح.

ربّما تكون تلك الأسباب مجتمعة، وغيرها كثير ممّا يدّعيه الفيدراليون، هي الداعية إلى تبنّي الطرح الفيدرالي. وربّما يكون من بين هذه الأسباب الرهان لا بل «الرأي الإستباقي الجازم» بأنّ هذا الطرح سيكون الحلّ لإنهاء الحرب في سورية والعراق. وهو رأي متبوع بآخر، لا يقلّ عنه جزماً، يقول إنّ المخطّط الأميركي/ الإسرائيلي القاضي بإعادة النظر بدول سايكس/ بيكو وتجزئتها على قياس طوائفها ومذاهبها وأقوامها هو الأقرب إلى التنفيذ، وها قد بدأ تنفيذه بإثارة الحروب والفتن فيها، تثبيتاً لخارطة جديدة سترسو حتماً على حدود الخنادق الدموية.

قبل الكلام على الفيدرالية نتوقّف عند ما آلت إليه الأوضاع العامة في لبنان التي، عند اشتداد تأزّمها وانعدام الحلول أو تعثّرها، يدعو البعض إلى اعتماد الفيدرالية مخرجاً بحجّة أنّ «التعايش السلمي» في ظلّ دولة مركزية لم يعد آمناً.

يشهد الوضع اللبناني الراهن ما يمكن إختصاره بالآتي:

ـ حدّة انقسام داخلي عمودي بين اللبنانيين الموزّعين على محوري الصراع في المنطقة والعالم، بخاصة الصراع الأميركي/ الإيراني وارتدادته على الصراعات العربية/ العربية وعلى الإنقسامات داخل كلّ دولة.

ـ خلاف جذري على سياسة لبنان الخارجية والسياسة الدفاعية وتالياً على سلاح المقاومة والقرار 1559. حكومات لا رؤية لها جامعة أو واحدة لموقع لبنان ودوره الإقليمي. الموقف من النظام السوري بين المؤيّد والمعادي، بين المنخرط في حمايته والعامل على إسقاطه. الموقف من إسرائيل يكتنفه تناقض المعلن مع المضمر لدى البعض الداعي إلى إنهاء أعمال المقاومة وإيكال مهمّة الدفاع حصراً للجيش اللبناني، يقابله إصرار لدى البعض الآخر على مضاعفة قوّة المقاومة بالسلاح النوعي الرادع للإعتداءات الإسرائيلية والقادر على تحرير ما تبقى من أرض لبنانية محتلة وعلى حماية ثروات لبنان البحرية. الموقف من إيران بين من يرى فيها دولة طامحة للسيطرة على الحكم في لبنان وتحويل طبيعة نظامه وإلحاقه نهائياً بمحور المقاومة وولاية الفقيه، وبين من يرى فيها ظهيراً للمقاومة يقدّم لها الدّعم المالي ويؤمّن لها السلاح الذي يمكّنها من فرض توازن الرّعب على العدو. الموقف من النزاع العربي/ الإيراني بين من يقف إلى جانب المملكة العربية السعودية ودول الخليج من موقع التزامات لبنان العربية ووفاء لما قدّمته تلك الدول للبنان من مساعدات مالية وتسهيلات للبنانيين العاملين فيها، وبين من يرى إلى المملكة وتلك الدول بعين العداء لسلاح المقاومة والتآمر الأميركي/ الصهيوني عليها بهدف الذهاب إلى السلام مع العدو

ـ وفرة التدخّلات الخارجية ذات المصالح المتناقضة في شؤون لبنان الداخلية ما يدفع بالأزمات إلى مزيد من التعقيد لا بل يقود أحياناً إلى حروب أهلية.

ـ فقدان التوازن الداخلي نتيجة عدم التوازن الإقليمي وغياب التفاهمات بين اللبنانيين أقلّه التفاهم بين أهل الحكم، وهذا أضعف الإيمان، على تدبير شؤون المواطنين المعيشية.

ـ شلّ عمل المؤسسات الدستورية والإجهاز على ما تبقّى من «قضاء مستقلّ» وإدارات رسمية فاعلة ومنتجة.

ـ تحوّل الدولة إلى واجهة رسمية «لدولة عميقة» مشكّلة من أصحاب مصارف ورجال مال وأعمال وكبار تجّار ومحتكرين وأصحاب كارتيلات ومقاولين وقضاة وعسكريين وأمنيين وإعلاميين وعملاء سفاراتأمّا الواجهة الرسمية فمشكّلة من رؤساء ووزراء ونواب وموظّفين كبار وسماسرة أمّنت لهم الدولة العميقة مواقع آمنة في سلطة مجزية مالاً ووجاهة وزعامة شعبية.

ـ متاجرة مفضوحة بالميثاقية لدى مناقشة أو إقرار أبسط الأمور التي هي من اختصاص الحكومة أو رئاسة الجمهورية أو المجلس النيابي وذلك تغطية لما يعتمل في النفوس والعقول من طائفيات ومذهبيات ومحسوبيات مريضة تتحكّم بسلوكيات «الميثاقيين».. والشعار الخادع: استرجاع الحقوق عند فريق والاحتفاظ بالمكتسبات عند آخر فتمسي الميثاقية نظام توتّرات ومشادّات دائمة بين سياسيّي الطوائف الذين سرعان ما يأتلفون وسرعان ما يختلفون مستظلّين هذه الميثاقية المطّاطة وفي الحالين يقتسمون منافعها.

ـ اعتماد بدعة التوافقية كمنهج في إدارة شؤون الدولة ما أدّى إلى تعطيل آليات العمل الديمقراطي السليم وأتاح لكلّ فريق أن يستخدم حقّ الفيتو في وجه الآخر حتى بات التوافق سلاحاً للكيد السياسي حيناً وللجمع بين المتناقضات على قاعدة إلتقاء المصالح حيناً آخر. إذا اختلف الفرقاء حلّت المصيبة بالشعب وإذا اتّفقوا كانت المصيبة أكبر!

ـ افتعال سجال ذي مغزى إنكاري لهوية لبنان العربية وانتمائه العربي فيصرّ البعض على طرح السؤال: أيّ لبنان نريد؟ ينكر هؤلاء أنّ عروبة لبنان ليست في الدستور صفة عارضة بل جوهرية كيانية وملازمة للهوية وملزمة للدولة لترجمتها في جميع المجالات. أيّ محاولة إسقاط لها والتهرّب من التزاماتها إستدعاء عاجل لشتّى أنواع النزاعات والفتن الداخلية.

ـ سؤال الهوية يختزن أزمة وجودية/ كيانية لدى البعض العاجز عن تفسير معنى وجوده ودوره في لبنان وبيئته العربية فيقبل مكرهاً بما لا يرضي «هويّته العميقة» الكامنة في لاوعي مؤدلج وفق انتسابات وانتماءات «مرّت من هنا»! سرعان ما تطفو، في زمن الشدائد والمحن الوطنية، على سطح الوعي لتفصح عن تصوّرها الحقيقي للبنان الذي تريد.

الفيدرالية تصوّر قديم متجدّد…!

الفيدرالية واحدة من لوحات هذا التصوّر القديم المتجدّد التي ظهّرتها إلى العلن الأوضاع الراهنة الضاغطة على أصحاب هذا الطرح تلتها لوحات أخرى بات المعروف منها لوحة الحياد، والإحتياطي المضمر قد تكون لوحة التقسيم.

الدولة الفيدرالية تضمن في رأي القائلين بها التوازن السياسي بين مكوّنات المجتمع اللبناني. وتمنح كلّ مكوّن الحقّ في إدارة شؤونه العامة، في حيّز جغرافي محدّد حيث يشكّل غالبية ساكنيه، وذلك بالإستقلال عن المكوّنات الأخرى على أن يبقى الجامع بينها سياسات عامة يضعها ويشرف على تنفيذها مجلس رئاسي، تكون فيه الرئاسة مداورة بين أعضائه. من أبرز تلك السياسات السياسة الخارجية والسياسة الدفاعية والسياسة النقدية فضلاً عن إدارة المرافق العامة والثروات الوطنية.

الدول الفيدرالية متعدّدة الأشكال والدساتير وصيغ الحكم وتوزيع الصلاحيات ورسم التقطيعات الجغرافية والقواعد المعتمدة لإنشائها التي منها تعدّدية ثقافية دينية لغوية، إتنية حضارية

لذلك لا يجوز الإقتياس عليها أو اتّخاذها مثالاً يُحتذى خصوصاً عند اتّساع الهوّة الحضارية الفاصلة بين شعب اعتمد الفيدرالية بعد بلوغه درجة عالية من الوعي السياسي ومن معرفة الذات والآخر والاعتراف به والرغبة في مجاورته بسلام وبعد تصفية العلاقات السياسية والمادية التي شدّته تاريخياً إلى فئات أو دول خارجية بينه وبينها موجبات هويّة واحدة.

إشكالية التنميط أو النمذجة تبدو أشدّ تعقيداً من النواحي الديموغرافية والجغرافية والنفسية إلى جانب النواحي الأخرى السياسية والجيوسياسية والجيواستراتيجية والاقتصادية فضلاً عن أوضاع الدول المحيطة ونظرتها إلى الدولة المرشّحة لأن تصبح فيدرالية.

المسألة ليست تقنية ينصّ عليها نصّ دستوري قد يستلهم من دستور هذه الدولة أو قد ينسخ عن دستور أخرى، بل مسألة وجودية كيانية ترسم مصائر شعوب لها خصوصياتها المعرفية والقيمية والسلوكية والمصلحية، ولها انتظاراتها وتفاعلاتها مع سائر الشعوب في نظام دولي مترابط.

هذا في المبدأ العام أمّا في الواقع اللبناني فالمسألة لها تعقيداتها الخاصة:

ـ المعاينة الواقعية تظهر أنّ الشرط الديموغرافي غير متوافر بسبب التداخل السكّاني وفراغ الريف واكتظاظ المدن فضلاً عن اللجوء الفلسطيني والنزوح السوري، والشرط السياسي غير متوافر بسبب الخلاف على السياستين الخارجية والدفاعية، والشرط النفسي غير متوافر بسبب فورة العصبيات الطائفية والمذهبية والفئوية وغياب الحسّ المدني، والشرط الحضاري غير متوافر ما دامت التركيبة المجتمعية تعاني من اعتلالات علائقية بين مجموعات لم تختبر ثقافة الحياة السلمية في ما بينها بما فيه الكفاية وعلى مدى زمني طويل، والشرط الوطني غير متوافر فالارتباط بالخارج تحوّل إلى تبعية وارتهان، والهويات الفرعية حجبت الهوية الوطنية، الشرط الجيوسياسي غير متوافر فالخارج له رهاناته على فئات الداخل التي تقوم بحراسة مصالحه وتنفيذ أجنداته (هذا الشرط يصعب تأمينه عند الّربط بين قيام الدولة الفيدرالية وحيادها أو تحييدها.. وهذه مسألة لها شؤونها وشجونها الخاصّة).

ـ ثمّة تهيّؤات تاريخية ونفسية عند بعض الجماعات تدفعها إلى الحلم في تحقيق كيانات سياسية وأمنية خاصة، قد تسهّل لها الفيدرالية تحقيق هذا الحلم متى توافرت ظروف إقليمية ودولية مساعدة ومساندة.. هذا والمشروع الأميركي/ الصهيوني التقسيمي ما زال حاضراً في المنطقة بقوّة ما يستدعي التساؤل عمّا إذا كانت الفيدرالية خطوة تمهيدية لإنفاذ هذا المشروع. ألا يقع هذا التساؤل في لحظته التاريخية المناسبة وخريطة الشرق الأوسط الجيوسياسية معرّضة لإعادة التركيب؟ وما يضفي على هذا التساؤل واقعيته وتاريخانيته أنّ كيانات بعض الدول بدأ تقويضها من الداخل بإثارة الحروب والفتن ومن الخارج بالعدوان والحصار والإحتلال وبالإعلام المروّج لأنّ الحياة المشتركة في هذه الكيانات هي تكاذب مشترك وهي سبب المآسي التي يعاني منها الناس.

ـ الكيان الجامع لما سُمّي «دولة التعايش» حرَم، وفق ادّعاء الفيدراليين، المجموعات من تنمية خصائصها لا بل سمح، وعلى فترات وبالتناوب، بطغيان مجموعة على أخرى ما أشعر بعضها بالخوف وبعضها بالغبن وأوقع الجميع في صراع دائم على السلطة، لذلك يرى هؤلاء أنّ الفيدرالية تعترف لكلّ مجموعة بحقّها في تعزيز وجودها السياسي والمادي والمعنوي والثقافي وفق ما تقرّه اعتقاداتها وطقوسها وأخلاقياتها وأهواؤها ورؤياها للحياة بحرية تامة فلا يفرض عليها شيء من هذا القبيل. الحرية الوجودية التي تنالها كلّ مجموعة داخل الحيّز الجغرافي الخاص بها (كانتون) تجعل المجموعات تتجاور وتتفاعل بسلام بدون تعدّيات أو تحدّيات من أيّ نوع في ظلّ دولة متماسكة يشترك الجميع في تقوية بنيتها الدفاعية وتعزيز حضورها ودورها بين الدول. هذا الكلام يشكّل سردية أدبية رائعة وجذّابة ولكن ألا يفترض، عملياً، وبحكم تداعياته، فرزاً أو تصنيفاً ديموغرافياً كي تستقيم نظرية الحقّ في تنمية الخصوصيات التي حالت دون تطبيقها «دولة التعايش»؟ الجواب عن هذا السؤال واضح: لا موجب قانونياً أو دستورياً لذلك على الإطلاق.. هذا الجواب يتناسى حقيقة إنسانية تقول: الطبيعة البشرية نزّاعة إلى مثيلاتها في أيّ زمان ومكان، فكيف سيكون حالها في مجتمع الإنتماءات البدائية والتكتّلات العائلية والعشائرية والتجمّعات الطائفية وفي زمن لم يبرأ بنوه تماماً من جروحات الحروب الأهلية؟ الفيدرالية، في هذا السياق الواقعي، هي دعوة تستبطن «النقاء» بمختلف معانيه، أراد ذلك أصحابها أو لم يريدوه، إنّها أبعد من إرادة أصحاب الطرح مهما كانت «بريئة»!

ـ التعدّدية الدينية والثقافية والاجتماعية والقومية (الإتنية) لدى الفيدراليين، لا يمكن المحافظة عليها، كما يدّعون، كمصادر غنى لنموذج لبنان الحضاري (مكنة التعدّد من العيش معاً) إلّا في واحدة من صيغ الدول الإتّحادية الضامنة، باستمرار، لكلّ مجموعة امتيازها الخاص بعيداً من الهيمنة والاحتواء أو الإلغاء فلا يفرض عليها ما ليس منها أو لها أصلاً وفصلاً. هذا النموذج كما ينشده الفيدراليون سيجد نفسه أمام حالين: في حال «النقاء» المناطقي أو «المناطق النظيفة» يبطل أن يكون نموذجاً حضارياً لفقدان أحد مكوّناته أو أكثر.. وفي حال الإبقاء على الإختلاط السكاني داخل المناطق المفرزة سيتحوّل هذا النموذج إلى نماذج متفاوتة في القدرة على إبراز وجه لبنان الحضاري وربّما قد يصيبه بعضها بتشوّهات قاتلة، لذلك يبقى التعدّد المنتشر حالياً على مساحة الوطن في ظلّ دولة وحدوية حديثة، يسعى الوحدويون إلى إقامتها، هو الأشدّ نفعاً لنموذج لبنان الحضاري.

ـ ثمّة جماعات ترى أنّها في مأزق وجودي لا مخرج منه إلّا بالفيدرالية. مقولة يردّدها كثيرون ممّن يعيشون في رهاب المصير. هذه حقيقة لا نقاش فيها لأنّها حالة نفسية وجدانية أمّا أن تكون الفيدرالية هي المخرج فطرح يمكن إخضاعه لأوسع نقاش:

من حقائق التاريخ وعلم السكّان وعلم الاقتصاد أنّه كلّما ضاقت الرقعة الجغرافية بجماعة ما وتقلّصت مواردها الطبيعية نفرت منها إلى أمكنة أخرى فسنّة البقاء أقوى من أن تتحكّم بها الأطاريح السياسية. إنّ تجربة نظام المتصرّفية لم تشفع بأبناء الجبل فسلكوا طريق الهجرة إلى أصقاع بعيدة.. والتجربة نفسها حضّت البطريرك الياس الحويك للخروج من «فيدرالية الجبل» إلى دولة لبنان الكبير تأميناً للموارد وحدّاً من موجات الهجرة، وذلك إلى جانب غايات أخرى. أيصحّ بعد ذلك منطق العودة إلى شكل من أشكال «فيدرالية الجبل»؟ أيعقل أن يطرح البعض الفيدرالية لاقتضاء سيكولوجي؟ (الخوف على المصير من عددية الآخر ونزعة الهيمنة لديه أو الاحتواء) الموجب السيكولوجي لا يؤسّس لمشروع إنقاذي بل انتحاري، كما أنّه ليس من العقلانية السياسية في شيء أن يصل البعض إلى طرح مشاريع انكفائية بادّعاء حماية وجوده وفق أنماط حياتية خاصة تذرّعاً بالخوف من هيمنة أنماط خاصّة بحياة الآخرين

ـ الطرح الفيدرالي يحتمل وجهين: فيدرالية طوائفية تخصّص لكلّ طائفة دائرة جغرافية تكون لها الغلبة العددية فيها، وإمّا فيدرالية مناطقية تخصّص لكل مجموعة سكّانية متعدّدة الأطياف دائرة جغرافية. الفيدرالية الطوائفية، مطعّمة بلامركزية سياسية وأمنية، تقترب من حدود التقسيم وقد تنزع إليه في ظروف ذاتية وموضوعية مؤاتية. أمّا الفيدرالية المناطقية هي أقرب ما تكون إلى اللامركزية الإدارية الموسّعة مطعّمة بلامركزية مالية وإنمائية. الوجهان معاً يقومان على فكرة التمايز والفوارق بين الطوائف والمناطق. وفيهما معاً قضاء على المشتركات بين اللبنانيين الذين بينهم ما يجمع أكثر ممّا يفرّق، والمسألة موقوفة على تعزيز ما يجمع وتبديد ما يفرّق وصولاً إلى بناء دولة وحدوية حديثة فإرادة الحياة معاً لدى معظم اللبنانيين أقوى من رغبات من لديهم مع الآخر حسابات خاصّة تعود:

 إمّا إلى عدم معرفة حقيقية به.

وإمّا إلى تكوين سيكولوجي/ تربوي مشوّه واكتناز أفكار مسبقة موروثة من سرديات تاريخية أو فقهية لم تعد قائمة في ذهن أو تصوّر.

 وإمّا من ثقافة خاصة تشاوفية تعظّم الذات وتنسب إليها كلّ عمل محمود وتحتقر الآخر وتنسب إليه كلّ عمل مذموم.

من هنا نفهم أنّ الفيدرالية طرح سياسي ذو خلفية ثقافية/ تربوية مزوّدة بشهيّة الاحتياز على منطقة خاصة لبسط الزعامة عليها والتمتّع بخيراتها والتفرّد بإدارة شؤونها بشعار حمايتها من طموحات الآخرين وأطماعهم.

ـ العوامل الثقافية والنفس/ اجتماعية والاقتصادية تكمن خلف الخيارات السياسية. وفي أزمنة الاعتلال السياسي الذي يصيب أنظمة الدول وشبكاتها الحاكمة حيث تبدأ بالتفكّك والتحلّل ما يفقد الشعوب ثقتهم بها (حال الدولة اللبنانية وشبكة حاكميها) يشتدّ تأثير تلك العوامل في تحديد الخيارات خصوصاً متى كانت الشعوب في سلم أهلي غير ثابت وما زالت «قياداتها» منغمسة في نزاعاتها الداخلية وارتهاناتها الخارجية. في مثل هذه الأوضاع قد تجد كلّ جماعة نفسها أمام تحدّي استرجاع أو استحضار مشاريعها الخاصة وقد تكون من بينها تلك العائدة إلى مرحلة ما قبل قيام الدولة. الفيدرالية الطائفية هي واحدة منها المتمثّلة في تلك المرحلة بما أسميته «فيدرالية الجبل»! (ثمّة سؤال رائج هذه الأيام في الدوائر المغلقة كما على وسائل التواصل الاجتماعي وبعض الشاشات حول ما إذا كان البطريرك الحويك أخطأ في خياره أو أصاب بسعيه إلى إعلان دولة لبنان الكبير! يصاحبه سؤال آخر حول ما إذا كان الرئيس إميل إده على حقّ بدعوته إلى عقد معاهدة حماية مع الدولة الفرنسية محذّراً من أنّ حروباً ستقع بين اللبنانيين كلّ عقد أو عقدين من السنين)!

ـ تفكّك الدولة وتحلّلها لا يقتصر على وحدتها السياسية بل ينال من وحدتها الاقتصادية. المواطن اللبناني في ظلّ الوحدة الاقتصادية والأسواق المفتوحة على الدول العربية كان مهدّداً بالجوع والبطالة في كلّ لحظة بسبب نظام اقتصادي غير منتج احتكاري وإفقاري، فكيف تكون حاله في ظلّ تجزئة الاقتصاد الوطني إلى اقتصادات محلّية معرّضة للمضاربة والمقاطعة والحصار خصوصاً متى قامت موانع تنافسية وطائفية أمام اليد العاملة والرساميل والتوظيفات والإستثمارات وحركة الإستيراد والتصدير؟ والنتيجة ستكون حتماً قيام أشكال هزيلة من اقتصادات المناطق ما يؤدّي حكماً إلى عكس ما يدّعيه الفيدراليون من زيادة نمو المناطق وتطوير وسائل تنميتها الذاتية.

لبنان ليس الجنوب أو الشمال أو بيروت أو الجبل أو البقاع، إنه وحدة الأرض اللبنانية.

لبنان ليس طائفة من طوائفه الـ 18، إنّه وحدة الشعب اللبناني.

لبنان واحد كلّي بأرضه وشعبه ودولته ومصيره.

لبنان مشروع حضاري كبير يستدعي تدمير المشاريع الفئوية الخاصة في مرحلة هي من أدقّ مراحل تاريخه ومن أشدّها خطراً على وجوده لأنّه، بانفتاحه الإنساني، يواجه مشاريع أشرس العنصريات القومية والدينية. الفيدرالية لا تبعده عن هذه المواجهة المفروضة عليه، بحكم رسالته التي جدّدها له البابا الراحل يوحنا بولس الثاني، فحسب، بل تذهب به إلى الأشدّ سوءاً إذ تنزع عنه هذه الرسالة السامية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى