أخيرة

رسالة من أمّ سورية إلى ولدها الصغير*

} الياس عشي

ما زلتَ حدثاً يا ولدي كي تفهم ماذا جرى في سورية خلال هذه السنوات التي تكاد أن تكون أربعاً، وليس مهمّاً أن تفهمالمهمّ أن يأتي زمن تكون فيه قادراً على صناعة الفرح في البيت السوري، وأن تعيد إلى الحارات السورية أم حنّا، وأم علي، وأم عمر، وأم معروف، اللواتي كنّ، حول تنّور واحد، يتقاسمن الرغيف الواحد، والهموم الواحدة، والآمال الواحدة.

ماذا جرى؟ وتلحّ في السؤال.

من حقّك أن تسأل يا بنيّ لا سيّما أنّ أترابك الذين قاسموك ألعابك، وأقلام تلاوينك، وأوتوكار مدرستك، وملاعبها، وألواحها الخضر، ونزهاتك، وعرائس الطعام؛ بعثرتهم الحرب: فمنهم من هجّر، ومنهم من استشهد، ومنهم من فُقد، وفريق أجبروه على حمل السلاح ودرّبوه على القتل، والكثيرون منهم صاروا من النازحين المتسوّلين.

قد أموت يا ولدي قبل أن تكون قادراً على فكّ حروف هذه الرسالة، فالموت يقف وراء الأبواب، والملوّحون به لا يرحمون أحداً! ألم تكن في أحضان أبيك قبل أسبوع؟ لم أتصوّر أبداً، وأنا ألاحق أصابعه تعبث بشعرك الأشقر، أنّك ستصبح ابن الشهيد، وأني سأكون أرملة الشهيد.

ستكبر، يا بنيّ، بدوني أو معيلا فرق، المهم أن تؤمن بما آمن به أبوك بأنّ الحياة وقفة عزّ فقط، وأنّ أبواب دمشق ستبقى مشرّعة لأصحاب العقائد الحيّة، وأن ياسمينها هو ذاكرة كلّ سوريّ ساهم في تجاوز مؤامرة الإلغاء التي كانت تعدّ لحذف سورية عن خارطة العالم.

هل يمكنك يا ولدي أن تتصوّر عالماً بدون سورية؟

منذ سبعة آلاف من الأعوام والآلهة تولد في سورية، وكذلك الملاحم والأبجدية والقوانين والشعراء وحقول الياسمين. ومنذ أن توحّش الإنسان وصار من الغزاة، وأسوار المدن السورية عصيّة عليهم، وستبقى عصيّة، لأنّ لدى السوريين «قوّة لو فعلت لغيّرت وجه التاريخ»، مقولة حفظتها على ظهر قلبي وأنا أسمعها من أبيك.

تأكّد يا ولدي أنّ العالم الخارجي ما عاد يعني لي ولكلّ السوريين شيئاً، إنّه عالم متوحّش تحكمه مجموعة من القراصنة ذوي العين الواحدة، كلّ ما يهمّني اليوم أن تبقى سورية وأن تبقى أنت سالمَين، إذ «ماذا ينفع الإنسان إذا ربح العالم كلّه وخسر نفسه»؟

أنهت الأمّ رسالتها، فطوتها، ثمّ دسّتها تحت وسادة ابنها الغارق في النوم، ثمّ توجّهت إلى شرفة طالما تقاسمتها مع زوجها، وما إن أخذت مكانها على الشرفة حتّى انفجرت قذيفة هاون حوّلتها إلى أشلاء.

وفي الصباح كان الطفل الصغير يسأل عن أمّه، ويحاول أن يفكّ حروف الرسالة التي تركتها له تحت الوسادة.

 

*من كتابي الأخير «الرقص في عيد البربارة على الطريقة الأميركية».

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى