ثقافة وفنون

هايكنغ زفت

} زياد كاج*

 بين صديقي عدنان والشعور بالأمان علاقة متينة. فهو يغرف من عمق التجارب، وبذرة الإيمان التي تحولت في قلبه الى أشجار ذات أغصان، ومن تربية وتدريب عائلي برعاية أب صارع الزمن وأهوالهمالَ ولم ينكسر. صديقي تربّى في بيت سقفه متين من صبر وقوة وصلابة ونَفَس طويل مع رحلة العمر. دمِث الأخلاق، هادئ، قليل الكلام، يفضّل ضفة الصمت على نهر الثرثرة، مستمع ممتاز، يضحك من بئر قلبه للنكتة العفوية وصاحب إيمان حيكت خيوطه بعناية منذ أيام الطفولة حتى بات جزءاً من شخصيته شبه الصوفية.

سألته مرة: «لماذا لا تشتم مثلنا.. وأجواء البلد تكاد تخنقنا.. فش خلقك».

فأجاب: «السباب إهانة للمستمع». أقنعني بوجهة نظره.

عرفته أول مرة في الطابق السابع المخصص للولادة والأمراض النسائيّة (طابق النسوان) في مستشفى الجامعة الأميركية في بيروت. وسط روائح أكواب اليانسون وباقات الورود وبالونات «أنه ذكر» بالأزرق و»إنها أنثى» بالزهري وتوزيع   شوكولا «باب أول» والقبلات التي تفرقع في أجواء الطابق السعيد. عملت أنا في القسم الشمالي المخصص للدرجات الأولى والثانية وعمل عدنان في القسم الجنوبي، حيث مرضى الضمان والمستوصف. صديقي  لم يكن جنوبياً. عندما عدنا والتقينا في حرم الجامعة الكلية (أصبح هو يعمل في مجال الكومبيوتر وأنا في المكتبة) أخبرني أن أصوله تعود الى الجرد الجبيلي. «من الغويبة»، قال، قرب «لاسا». حسب وصفه، تخيلتها قرية شاهقة ذات طبيعة قاسية كأنها بيت للنسور. حدّثني عن النهر في الوادي الذي تستحيل السباحة في مياهه ولو في عز الصيف. جارتهم «قرطبا» والقمر قنديلها. يعود من «الغويبة» بعد غيبة ثلاثة أو أربعة أيام وعلى وجهه حمرة الشمس والشغل في الأرض التي يعشقها حتى سكرة الفلاحين.

  خدمة عدنان للناس تسبق لسانه. فهو ابن مملكة المعروف سكوتاً. يحبّ عمل الخير. مؤمن من دون تعصّب. لكنه صاحب ثوابت يكسب منها مملكة أمانه وسلامه الخاص. يريد أن يغفو بسلام، لا أكثر ولا أقل. لا تهمّه التفاصيل ولا التفلسف فوق العادة. عرف صديقي الفقدان برحيل أحد أبنائه وهو شاب. انكسر، استعان بإيمانه، صبر وترك الجرح العميق للزمن ومرهمه.

«لك شفاعة عندنا»، أقول له مازحاً.

«ليش؟»، يسأل.

«أمك بيروتية»، فينفجر ضحكاً.

من جعبته أيام الطفولة، إقامة في منطقة الحازمية في منتصف السبعينيات في بيت أرضي تابع لمصلحة المياه الحكومية. محاط بأشجار الليمون والبوصفير وسور من حجارة غير مدهونة. في البيوت المتواضعة سكن الفقراء وفي البنايات العالية سكن الأغنياء.. ولا مشاكل. البيت قريب من «بناية المطربة صباح». الأب جلب التلفزيون الوحيد في حيّهم والصورة بالأبيض والأسود. يأتي الجيران للسهر من 6 مساءً حتى 11 ثم يتوقف البث ويسود صوت «وشششش».

طبول الحرب كسرت حالة التعايش والسلم الأهلي. صار «نمور الأحرار» يغيرون ليلاً على منازل الفقراء وهم مقنعون بالأسود. يسألون عن الأب والأولاد الشباب. خطة الأب كانت في الاختباء على أغصان الأشجار المحيطة بالمنزل. يعطي الأب الأمر بحزم فيركض كل ولد الى شجرته المخصّصة له: عدنان يتسلّق شجرته وكذلك يفعل علي وعبد الله والباقون. تبقى الأم في الدار مع الطفل الرضيع. كانوا يمضون ساعات طويلة في أعالي الأشجار ولا يخافون. يحسبونها لعبة. جارهم يوسف السوري الآدمي قتلوه سحلاً وسلّموا جثته المهشّمة لأخيه وطلبوا منه المغادرة. بعض النسوة كن يحمّسن «النمور» خلال جريمتهم الوحشية! الجيران قالوا للأب إنهم أصبحوا غير قادرين على حمايتهم وعليهم المغادرة. تركوا الحازمية الى عائشة بكار، ثم الى المشرفية حيث كان لقناص «الصياد» سطوة على المنطقة.

«ولعت.. ولعت.. ولعت..»، قلت لعدنان حين قررنا المشاركة في مشوار «هايكنغ» يوم أحد الى جبال الشوف. هذه العبارة يكررها المسؤول عن المجموعة وهو يفتقد بعض الشيء للجدية والاحتراف. تردد صديقي لكنني ألحيت لأن المنطقة مشهورة بجمالها وغنى طبيعتها. وكان مسيراً شيّقاً خلال النهار وسط الطبيعة الخلابة: مرتفعات ووديان، أقنية مياه عذبة وحقول فاصوليا عريضة وشجر الجوز والخرما والحمضيات. صديقي عدنان محبّ وخبير في أسرار الطبيعة. يعرف اسم كل شجرة وكل نبتة. يصير إنساناُ مختلفاً وفرحاً وسط الطبيعة العذراء. وهو حال معظم المجموعة. باحترافية عالية  يعثر على حبات الجوز تحت الأشجار المعمرة؛ يكسرها بحجر يأكل ويناولني.

وصلنا الى منطقة تجمّع وتكثف مياه النهر في الوادي. وجدنا أنفسنا قرب شلال هادر يصبّ من علوّ الى بركة طبيعية عميقة تحت. عدد من الشبان كانوا يقفزون من الأشجار العالية وازدادت حماستهم لرؤية العدد الكبير من النساء والصبايا يلتقطون الصور ويحمسونهم. في تلك البقعة الخلابة التي لا تصلها دواليب السيارة تناولنا الغداء على صوت هدير المياه.

 «الخروج من الحمام ليس كالدخول إليه».

في طريق العودة واجهنا مشكلة جدية. عدا الاستهتار بالتنظيم وإضاعة الوقت، وصلنا الى منطقة أملاك خاصة رفض الحارس فتح البوابة أمامنا كي نعبر الى الممر السهل والأقرب. فقرّر «الدليل المحلي» المغامرة بنافهو يتمتع بلياقة وقوة جسدية أفضل بكثيروسلوك طريق جبلية الى يمين النهر. عدنا منهكين الى الوادي وعبرنا النهر. نظرت الى الجبل فوقنا حيث قرّر الدليل اكتشاف ممر، فوجدت إنه صعب جداً بل شاهق. تقدّم الدليل المسير صعوداً ونحن نتبعه. المنحدر كان خطراً. أغلبنا صار يتمسّك بالأشجار والأغصان وسادت الفوضى والاعتراضات من النسوة. والسيئ في الأمر أن بعض الشباب لا تأتيه روح النكتة إلا في أصعب المواقف وأحرجها.

عاد «الدليل» بالخبر السيئ: «لا ممرّ من هنا». عدنا نزولاً الى الوادي. حاولت إقناع قائد الفريق بالعودة من حيث أتينا الى طريق الزفت. لم يقبل لضعف شخصيته ولحساباته الماديّة. فهو، ككثيرين غيره، لا تهمهم سلامة الناس بل المدخول المادي. كان يوم زفت بزفت. أخيراً، جاء الخبر على الجهاز «يوجد ممر». قرّرت اللحاق بـ»الدليل» وعدد من الصبايا والشبان لكسب الوقت. نسيت صديقي عدنان في الخلف. ويا لها من طريق صعوداً! لو كنت أعرف أن الممر قاسٍ جداً ما صعدت (بالأذن من عبد الحليم حافظ). فقط الماعز تستطيع تسلق ذلك المنحدر المتعرج. مستعيناً بعصاي، وبخبرتي وبترداد عبارة «الحمد لله» مشيت دون التطلع الى فوق. مشيت بطلوع الروح. ضاق نفسي وكدتُ أقع مراراً. وجدتُ نفسي مجبراً على التوقف مراراً لالتقاط أنفاسي مجدداَ وأنا ألعن صاحب عبارة «ولعت.. ولعت..» و»الدليل».. وحتى رياضة «الهايكنغ»!

أخيراً وصلت ورميت نفسي على زفت الطريق العام الى جانب الذين وصلوا قبلي. ركاب السيارات المارة كانوا يحدقون بنا. صرنا فرجة. شربت الكثير من الماء، ثم سمعت صديقي عدنان يسأل عني: «وينك.. شغلتلي بالي!!». هو أقوى مني جسدياً وأخف وزناً.

في الباص في طريق العودة كنا كالمرضى الخارجين من غرفة العمليات. نظرت الى صديقي وقلت له: «هاي آخر مرة نشارك مع هذا الفريقأحلف بشرفي». إعتقدت أن مشاكل ذلك النهار قد انتهت.

نزل عدنان قبلي في منطقة قريبة من منزله وأنا طلبت النزول في ساحة الشهداء حيث ستأتي شقيقتي لتقلني بسيارتها. الساحة ليلاً مقفرة ومعتمة. الجو حزين بين مشهد المرفأ البعيد ومبنى «النهار» شبه المدمّر وتمثال الشهداء. قررت اجتياز الطريق المقفر ونظري ضائع بين ما تبقى من إهراءات القمح وخراب المرفأ والزجاج المحطم لواجهة النهار. فجأة ظهرت سيارة مارسيدس سوداء «أم عيون « الى يساري يبدو أن سائقها كانت عيونه في مكان آخر! للحظات رأيتها تتجه نحوي، فتراجعت خطوات الى الوراء ووقعت على الزفت من شدّة تعبي وخوفي. أكمل السائق الطريق ولم يتوقف بعد أن كاد يدهسني. بقيت مستلقياً على الزفت للحظات تحت تأثير الصدمة وغير مصدّق ما حدث لي. معقوليا له من يوم؟ بدايته زفت ونهايته على الزفت».

أين أنت يا عدنان.. يا صاحب الأمان.. مدد.. مدد يا صديقي عدنان.. أما من شجرة نحتمي بها؟

 

*روائي من لبنان.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى