مقالات وآراء

الدولة المدنية ودولة المواطنة في لبنان (إشكالية ثقافية)

} ساسين عساف

كثيرة هي الدراسات التي تناولت إشكاليات بناء الدولة المدنية (دولة الحقّ الإنساني وحكم القانون الوضعي) ودولة المواطنة (دولة تصنعها إرادة المواطنين كأفراد أحرار، خصوصاً حرية الإنتماء).. وطرحت حولهما تساؤلات عديدة ودارت في شأنهما مطارحات كثيرة أقلّه منذ إعلان وثيقة الوفاق الوطني (الطائف 1989) حتى اليوم. وعند المنعطفات المصيرية كانت تستعاد وتضاف إليها تساؤلات ومطارحات جديدة وكان السؤال المطروح:

أين هي الدولة؟ أين إرادة المواطنين؟

أين هي الدولة من الإرادة العامة؟ أين هي من آليات الديمقراطية المعبّرة عن تلك الإرادة؟ أين هي من حقوق المواطن وحرياته الخاصة؟ أين هي من حقوق المواطنين وحرياتهم العامة؟ أين هي من حقّ الشعوب في ممارسة سياداتها واختيار أنظمة حكمها وحاكميها؟ هل الشعب هو مصدر السلطات فيها؟ أين هي من صراع الهويات ما دون الوطنية؟ هل المواطنون فيها متساوون في الحقوق والواجبات؟ ألا توجد فيها «هويات مقموعة»؟ هل هي لجميع مواطنيها بدون تمييز أو تفرقة؟ هل الجميع سواسية أمام القانون؟ هل قضاؤها مستقلّ؟ هل إعلامها حرّ؟ هل المواطن فيها إنسان حرّ يعيش مع المواطن الآخر بسلام المساواة في الحقوق والواجبات؟

ما مدى تأثير غياب الوعي بحقوق المواطنة في ترسيخ نهج الاستبداد في نظام الحكم؟

ما مدى تأثير الفقه السياسي التقليدي القائم على انعدام الثقافة الديمقراطية وإضعاف الفكر النقدي الذي هو المحرّك الأوّل لآليات المساءلة والمحاسبة والاحتجاج والثورة كحقّ أساس من حقوق المواطنة؟

أمّا بشأن الدولة المدنية فهل بناؤها إمكان صعب أو مستحيل؟ هل النصّ الديني هو العائق؟ أين هي منزلة القوانين الوضعية من منزلة القوانين الإلهية؟

هل للدولة المدنية نصيب في أن تقوم في بلد انتشرت فيه بوفرة وقوّة أحزاب طائفية ومذهبية؟

هل الثقافة اللبنانية، ثقافة النخب إن لم نقل ثقافة المجتمع، باتجاهاتها العامة والأساسية، باتت جاهزة للتحرّر من حاكمية الفكر الطائفي المتزمّت؟

يصعب على المرء مقاربة إشكاليات بناء الدولة في لبنان من دون ربط هذه التساؤلات/ الإشكاليات بالثقافة.

العقل السياسي اللبناني، بالرغم من محاولات متنوّري القرن الماضي خصوصاً متنوّري الفكر الليبرالي والفكر الديني الاصلاحي، لم ينتج نموذجاً للحكم المدني لغياب الثقافة الديمقراطية من جهة ولانعدام النظرة إلى الانسان اللبناني فرداً ذا قيمة في ذاته.

هل بات هذا العقل، بعد المآزق التي أوصلته إليها إيديولوجيات الفكر الطائفي جاهزاً لإعادة النظر في معقولاته أو ثوابته الفكرية بما يتوافق مع متطلبات البناء الديمقراطي وحقوق المواطن الانسان/ الفرد؟

يشهد العقل اللبناني اليوم أزمة حادّة في صوغ الأفاهيم والقيم السياسية خارج منظومة التفكير الطائفي وبالتطلّع الى الحقّ في التعدّد والاختلاف وهو حقّ بدونه لا تقوم الديمقراطية ولا إحقاق لحقوق الانسان.

العقل السياسي في الدول الغربية أنتج نموذجاً للحكم الديمقراطي يناسب ثقافة شعوبها. فهل بات العقل السياسي اللبناني الذي يختزن ثقافة اللبنانيين، بعد تلقيه العديد من الصدمات والهزائم، قادراً على النفاذ إلى الاقرار بحقّ الأفراد في المجتمع الواحد في حكم القانون المتوافق مع العقد الاجتماعي المبرم بينهم كأفراد؟

العقد الاجتماعي يشترط أوّلاً توافر الوعي بقيمة الفرد الآخر والمساواة معه وبضرورة التعاون معه، ضمن مؤسسات المجتمع ومنها بالطبع لا بل في رأسها الدولة، على قواعد الحوار والمشاركة وتداول السلطة.

والعقد الاجتماعي يشترط ثانياً على كلّ فرد من أفراد المجتمع الوعي بضرورة العمل من أجل المصلحة العامة.

والعقد الاجتماعي يشترط ثالثاً الوعي الفردي بضرورة الخضوع طوعاً للقوانين التي شارك الفرد في صياغتها مع الأفراد الآخرين.

فهل هذه الاشتراطات هي متوافرة فعلاُ لدى غالبية المواطنين اللبنانيين؟

ثقافة «العقد الاجتماعي» المؤدّي إلى قيام الحكم المدني، حكم المواطنين، لم تتجاوز في لبنان حدود الدوائر النخبوية الضيّقة والمهمّشة والمبعدة عن مراكز القرار.

من هنا يأتي الرهان على قيام النخب الثقافية بدورها في التأسيس الفكري للدولة المدنية ودولة المواطنة.

إنّ التأسيس هو عمل فكري/ ثقافي طويل الأمد وهو من اختصاص النخب من رجال فكر وعلم واقتصاد واجتماع وقانون وسياسة، عبر تعاملهم مع الحدث اليومي وحوارهم المستمر مع الناس وانتظاراتهم كي لا يتحوّل إلى فعل نظري يتمّ إنتاجه من خلف المكاتب.

حركة إنتاج الأفكار ناشطة في لبنان، ففي كلّ يوم غير مؤتمر ووفرة توصيات. هناك نخب منتجة في كلّ الميادين الإقتصادية والإجتماعية والثقافية والدستورية والحقوقية والإعلاميةولها مشاركات واسعة فيها بمقاربات وطنية من موقع علمي وموضوعي ومعلن ومكشوف ومفتوح على جميع المشاركات والمقاربات المتنوّعة الناتجة عن فهم عام وتقويم نزيه وشامل للواقع اللبناني واحتياجاته، أمّا النقص في هذه الحركة إفتقارها الى إطار أو تشكيل ثقافي وطني جامع يتلقّى، يجمع، ينسّق، يناقش، يحلّل، يقيّم، يستنتج وينشرويتابع مع المعنيين، من قوى المجتمع، ببناء الدولة.

النخب المعنية بهذه الحركة، بأكثريتهم، يعيشون في حال من الإنفكاك والتشرذم والضياع والشعور باليأس والتهميش خصوصاً بعد انحسار الوطن إلى مجرّد محلّة أو شارع أو حيّ تتحكّم به وبساكنيه حركات وأحزاب وتيارات طائفية ومذهبية.

انّ منطق الأمور وتفاعلاتها يجعل النخب الوطنية غير قادرة على تحمّل التسيّب الطوعي أو الإكراهي وحياة المنفى داخل الوطن وخارجه.

ما يخرج المثقّفين من عزلتهم وسلبيتهم إطلاق المبادرات العملية والتنظيمية لبلورة رؤيا مشتركة للدولة ورسم استراتيجيات تنفيذها.

الخلاص من كلّ المآزق الخاصّة والعامّة، الداخلية والخارجية، هو رهن إنجاز هذه الرؤية.

هذه الدعوة، ليست الأولى من نوعها ونحن نعي محاذيرها والصعاب والموانع الذاتية والموضوعية. ونحن ندرك أنّ مبادرات كثيرة من هذا القبيل أطلقها مثقّفون في بيروت والمناطق، منذ تسعينيات القرن الماضي، ومن أجلها شكّلت هيئات وعقدت لقاءات وأعدّت أوراق عمل وجرت بشأنها نقاشات جدّية. ولكن، على الرّغم من كلّ التعثّر الذي أصابها، تبقى الدعوة واقعة في لحظتها السياسية والتاريخية المؤاتية، فالواقع السياسي والإجتماعي والإقتصادي والإداري والأمني الراهن لا يرضي الناس، والنخب تبقى مهمّشة ما لم تكن أنّى يكون الناس.

ما ندعو اليه هو تجاوز حدّ النقد والاتهام المصيب، فالنقد المطلوب هو المقرون دائماً بالرأي المفيد والمصحوب بالخطّة البديلة. الدعوة، إذاً، قائمة ومستمرّة على قاعدة انتقال النخب من ردود الفعل السلبية ومن مواقع الاحتجاج والصّوت المنبّه الى العمل الإيجابي في تحضير البدائل.

إذا تخلّفت النخب عن إعداد الأساس الفكري التطبيقي للدولة من يقدم على إعداده؟! أيوقّع الطائفي على مرسوم إعدامه؟!

حياديّة النخب أو تخلّفهم عن رفع التحدّي، كفراً أو يأساً، لا يعفيانهم من مسؤولية تاريخية توجب التسلّح بالفكر والخطّة والتنظيم والمنهج في مواجهة «الإستكبار الطائفي والمذهبي».

النخب كما نفهم هم قادة رأي واتجاه. وظيفتهم هي انتاج الأفكار وإطلاقها للناس شرحاً وسجالاً واقناعاً وتحقّقاً عمليّاً إذ لا مشروع سياسياً يجد منفذه الى الواقع ما لم يصبح ملكاً للناس أيّ ما لم يعبر إلى ثقافة المجتمع.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى