مقالات وآراء

جبران خليل جبران وأنطون سعاده من النبع نفسه ومُثُلهما العليا نفسها

يوسف المسمار*

ترجمة الرسالة الى العربية

عزيزي الدكتور مارسيلو سوتيل المحترم

مدير مؤسسة التراث الثقافي البرازيلي

في كوريتيبا عاصمة ولاية بارانا

يُسعدني بناء على طلبكم الذي تم أثناء لقائنا في مركز مؤسستكم الثقافية أن اقدم لكم اللمحة التالية عن المفكرين السوريين: الشاعر الفيلسوف جبران خليل جبران، والعالم الاجتماعي والفيلسوف أنطون سعاده اللذين ولدا في سورية حيث ولد وعاش وصلب رسول المحبة الإنسانية يسوع السوريّ وترك للإنسانية تعاليمه باللغة الأرامية التي هي لغة آرام التي كان يتكلمها الشعب الآرامي، والتي أصبحت تُسمّى بعد وضع تعاليمه فيها اللغة السورية أي لغة النور والمعرفة والهدى.

فآرام هي نفسها سورية، والشعب الآرامي الكنعاني هو نفسه الشعب السوري. والوطن الآرامي هو ذاته الوطن السوري حيث ولدت الحضارة الانسانية التي يعود تاريخها الى ما قبل عهد سومر.

ولد الشاعر الفيلسوف جبران خليل جبران في اليوم السادس (6) من شهر كانون الثاني سنة 1883 في محافظة جبل لبنان في سورية أي قبل ان تولد دولة لبنان بزمن طويل وتوفي في اليوم العاشر (10) من شهر نيسان سنة 1931 في الولايات المتحدة الأميركية قبل أن يعلن جنرال فرنسيّ استقلال دولة لبنان.

وولد العالم الاجتماعي والفيلسوف أنطون سعاده في الأول من شهر آذار سنة 1904 في محافظة جبل لبنان في سورية قبل معاهدة لوزان ومعاهدة سايكس بيكو وتقسيم سورية الى دويلات، واغتيل في اليوم الثامن من تموز سنة 1949 بتآمر وتخطيط دولي بقيادة الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا وفرنسا، وتنفيذ محلي قامت به حكومتا دمشق وبيروت.

فجبران خليل جبران وأنطون سعاده كلاهما من النبع نفسه ومُثُـلهما العليا هي نفسها. أمتهما هي نفسها ووطنهما هو ذاته الذي كان يُسمّى قديماً: «آرام» وهي أمة يسوع نفسها. ووطنهما هو الوطن نفسه الذي وُلد على أرضه يسوع المسيح وعلى أرضه صلب واستشهد بسب تعاليمه الفضائليّة الإنسانية.

وكلمة «آرام» تعني مركز مفترق الطرق والنقطة المركزية التي منها تتفرّع الطرق وتنطلق الى الاتجاهات الأربعة من وسط كوكب الأرض، وكانت تعني أيضاً ان «آرام» هي النقطة او المركز الذي يمكن الانطلاق منه للوصول الى المكان المرغوب الوصول اليه او يمكن أن يتم اكتشافه من الناحية الأخرى، ومعرفة المسار الصحيح القويم لاكتشاف الأماكن الجديدة الأخرى الموجودة على هذا الكوكب حيث تعيش شعوب أخرى.

بعد ظهور السيد المسيح مع تعاليمه الانسانية الراقية اكتسبت البيئة الجغرافية التي كانت تسمّى «آرام» اسماً جديدأ بتعاليم يسوع المنيرة فأصبح اسمها: «سورية» التي تعني الضوء او الضياء او النور المنبثق او المستمدّ من تعاليم المحبة التي جاء بها يسوع الى البشرية كلها.

وهكذا أضيف الى الاتجاهات الأربعة لكوكب الأرض اتجاه جديد آخر الى الأعلى. الى السماء ليتوافق مع القول الخالد ليسوع المسيح الذي قال: «جئت كنور لأضيء الطريق أمام التائهين».

فالمعنى الحقيقي لكلمة سورية هو: «النور « والمعنى الحقيقي لكلمة «سوري» هو المستنير أو المهتدي بالنور والهادي والمرشد بنور تعاليم يسوع.

وهذ يعني أن رسالة يسوع هدفت وتهدف الى تنوير عقول وقلوب جميع البشر في هذا العالم برسالة «النور» التي تعني: «الرسالة السورية» والتي تتميّز بأعلى فضائل الرحمة والمحبة والسلام والحضارة.

لقد ظهر يسوع في هذا العالم كمنظومة قيم جديدة عليا منبثقة من نبع النور الأبدي السرمدي ومصدر الخير المطلق المحيط بالعالم والحاضن لكل الفضائل الإنسانية المحيية والأعمال الصالحة التي هي الركائز الأساسية لرسالة يسوع السورية «النورانية» الهادية بمبادئ وتعاليم وممارسات ونيات ومقاصد راقية.. وهذا يعني ان كلمة سورية وكلمة السوريين تعنيان: الهدى الحقيقي والمهتدين الحقيقيين برسالة يسوع. فيسوع جاء برسالته ليعلّم ويخرّج سوريين أي مهتدين هادين وليس ليخرّج يسوعيين او مسيحيين لا يحملون من المسيحية الا الاسم. فهو لم يكن فردياً أنانياً ولم يأت من أجل نفسه بل كل رسالته هي من أجل هداية البشر وترسيخ القيم الإنسانية في الناس أجمعين.

 هذه هي سورية بلاد الشاعر الفيلسوف جبران خليل جبران والعالم الاجتماعي والفيلسوف وأنطون سعاده أي بلاد أجيال الحضارة من عهد سومر حتى يومنا هذا.

هذه هي بلاد جبران خليل جبران وأنطون سعاده: بيئة جغرافية طبيعية مميزة في قلب وسط كوكب الأرض، وهذه هي أمتهما أمة حضارة مميّزة ومبدعة أعطت العالم مبادئ العلم والمعرفة والفن والفضائل لإيجاد حياة إنسانية أفضل تقوم على أسس المحبة والرحمة والحق والعدل واحترام حقوق جميع الشعوب.

وبناء على ما تقدّم قال أنطون سعاده عن سورية: «إن الشعاع الأول للشرائع التي يسير عليها البشر ظهر في سورية، وأخذ يمتدّ من هناك الى العالم، حيث أخذه المفكرون مثالاً نسجوا عليه وأضافوا اليه ما قضت الحال به، ولا يزال ذلك الى عصرنا هذا».

في بداية ظهور يسوع المسيح جاء يتكلم الآرامية، وبعد إطلاق تعاليمه بهذه اللغة صارت تسمى اللغة السورية أي لغة التنوير وصار الوطن الآرامي هو الوطن السوري أي وطن النور الذي يشمل كامل البيئة الجغرافية الممتدة من حدود آسيا الصغرى (تركيا حالياً) في الجزء الشمالي الى قناة السويس والبحر الأحمر الذي يقع على حدود مصر وشبه الجزيرة العربية في الجزء الجنوبي، ويمتد من حدود ايران في الشرق الى البحر الابيض المتوسط في الغرب بما في ذلك جزيرة قبرص على ساحل سورية.

وكما ورد في الموسوعة، فإن الحرب العالمية أدت الى سقوط  ونهاية الإمبراطورية العثمانية وسيطرة الدول المنتصرة بريطانيا وفرنسا اللتان احتلتا كامل الوطن السوري وسيطرتا عليه وجزأتاه اصطناعياً الى أوطان، وجزأت الشعب السوري الى شعوب عدة فقُسّم الوطن الى كيانات سياسية، وفُتت الشعب الى شعوب هم اليوم «سوريون ولبنانيون وعراقيون وأردنيون وفلسطينيون وكويتيون وقبرصيون. هكذا ورد في الموسوعة التي نصت عليها اتفاقية سايكسبيكو وسان ريمو.

ومن أجل إنقاذ الوطن السوري من التجزئة وإنقاذ الأمة السورية وإنقاذ من بقي من أبنائها السوريين على قيد الحياة من الانقراض أسس الفيلسوف جبران خليل جبران: «رابطة الأصابع الذهبية» بهدف استعادة ونسج وحدة الأمة السورية والوطن السوري منادياً أبناء سورية ومثيراً فيهم النخوة بألم وبكلامٍ مؤثّر مناديأ صائحاً من أعماقه في مقاله الشهير الذي جاء تحت عنوان: «مات أهلي».

 « مات أهلي وأهلكم أيها السوريون،

مات أهلي وأنا على قيد الحياة أندب أهلي في وحدتي وانفرادي.

 مات أهلي جائعين، ومن لم يمت منهم جوعاً قضى بحد السيف، وأنا في هذه البلاد القصية أسير بين قوم فرحين مغتبطين يتناولون المآكل الشهية والمشارب الطيبة، وينامون على الأسرة الناعمة، ويضحكون للأيام والأيام تضحك لهم

مات أهلي أذلّ ميتة، وانا هاهنا أعيش في رغد وسلام. وهذه هي المأساة المستتبة على مسرح نفسي

لو كنت جائعاً بين اهلي الجائعين، مضطهداً بين قومي المضطهدين، لكانت الأيام أخفّ وطأة على صدري، والليالي أقل سواداً أمام عيني، لأن من يشارك أهله بالأسى والشدة يشعر بتلك التعزية العلوية التي يولدها الاستشهاد، بل يفتخر بنفسه لأنه يموت بريئاً مع الأبرياء

لو اشتركت أمتي بحرب الأمم وانقرضت على بكرة أبيها في ساحة القتال لقلت هي العاصفة الهوجاء تهصر بعزمها الأغصان الخضراء واليابسة معاً، وان الموت تحت أغصان العواصف لأشرف منه بين ذراعي الشيخوخة

مات أهلي وأهلكم أيها السوريون فماذا نستطيع أن نفعل لمن لم يمت منهم؟ 

إن العاطفة التي تجعلك، يا أخي السوري، تعطي شيئاً من حياتك لمن يكاد يفقد حياته هي هي الأمر الوحيد الذي يجعلك حرياً بنور النهار وهدوء الليل.

ولكن صوت جبران بقي صدىً تردّده الريح، وصوتاً يتلاشى في آذان محبيه والمعجبين به من أبناء قومه، وكلماته أوصدت أمامها نوافذ عقولهم وقلوبهم وضمائرهم فلم يسمعوا نداءه ولم يكترثوا لاستغاثته حتى عاجلته ريح الرحيل وان لم يكن مستعجلاً وهو في ريعان الشباب فترك لهم هذه الكلمات للتاريخ علّ يأتي يومٌ يسمعها من تلده أمرأة أخرى من أهله قائلاً في مقال «الوداع»:

« قليلة كانت أيامي بينكم وأقل منها كلماتي التي تركتها لكم. ولكن اذا تلاشى صوتي في آذانكم وزالت محبتي من قلوبكم، فحينئذ آتي اليكم سريعاً، وأخاطبكم ثانية بقلبٍ أوفر عطفاً من قلبي وشفتين أجزل أثماراً للروح من شفتيوإذا حجبني عنكم الموت الآن، وضمّني الصمتُ العظيم بين طيات سكينته، فإنني سأنشد إدراككم مرةً أخرى ولن تذهب أتعابي في ذلك الحين عبثاً».

«فإن خاطبتكم اليوم بالحق الصريح، فإن هذا الحق سيظهر ذاته لكم في ذلك اليوم بصوت أنقى من صوته اليوم، وبكلمات أقرب الى أفكاركم من كلماته اليومفإني على أتم الأهبة للسفرفالوداع الوداع. قد غربت شمس هذا اليوم ولا تنسَوا أنني سآتي اليكم مرةً أخرى، لأن امرأة أخرى ستلدني».

وهذا ما قاله جبران خليل جبران أيضاً:

في أحد معارض جبران خليل جبران لأولى أعماله الفنية عندما لفت اهتمام السيدة ماري هاسكل مديرة إحدى المدارس الاميركية وهي التي قدمت له منحة لدورة فنية في باريس كتبت عنه في حزيران سنة 1911 تقول: «إن سورية تصبح بشكل متزايد مرة بعد مرة شغفاً جدياً لجبران خليل جبران، وأعتقد أنه من الآن فصاعداً لم يكتف جبران بما يفعله من أجلها بل سينشئ مدرسة تتخذ شعارها يقول ما تقوله روحه «أن الحياة ستصبح ميتة عندما تموت سورية».

وفي سنة 1914 كتب جبران خليل جبران في رسالته الى ماري هاسكل بعد تقسيم سورية من قبل الأميركيين والإنكليز والفرنسيين يقول: «لو أن موتي سيفعل شيئاً عظيماً من أجل سورية، فلتأخذ سورية حياتي».

وفي رسالة أخرى كتب جبران أيضاً الى صديقته ماري هاسكل يقول: «لو تأكدت من أن دمي يمكن أن يساعد في إنقاذ سورية مما تعانيه في هذا الوقت، فأنا لا أتردّد أبداً، حتى للحظة، عن التضحية بدمي لإنقاذها مما هي تعانيه».

أما عن الوضع البائس في سورية نتيجة التقسيم والانقسامات التي فرضتها القوى الاستعمارية فقد كتب لماري هاسكل هذه الكلمات:

«ماري، يا ماري. يا لها من بلاد بائسة هي سورية! وكم هو الحزن كبير لأطفال سورية! لقد عانوا الكثير من الألم منذ وقت طويل ولا يزالون يعانون الكثير من الآلام حتى أصبح الألم الرهيب طبيعةً ثانية فيهم».

«إنني أنظر الآن الى سورية من خلال نظرة الإبن الشغوف الى أمه المريضة، بمرضين كبيرين: مرض التقليد ومرض التقاليد. أنا لست وطنياً متعصباً يا ماري، ولكن قلبي يحترق ويعاني ويبكي من أجل سورية، فالقدر شديد القساوة والصعوبة عليها في معظم الأوقات».

 «آه يا ماري، إن معاناة سورية صعبة جداً، صعبة للغاية. لقد ماتت آلهة سورية، وتركها أبناؤها للبحث عن طعام في الأماكن النائية، ومعظم بناتها صامتات ومكفوفات، ومع ذلك فسورية حيّة، ولا تزال حيّة. وهذا بالنسبة لي مؤلم للغاية، لأنها في خضم بؤسها وشقائها لا تزال على قيد الحياة».

بعد فترة وجيزة رحل جبران خليل جبران عن هذا العالم قبل أن يرى من يقوم بإنقاذ من بقي من أهله على قيد الحياة، وقبل أن يرى وحدة وطنه تتحقق، وقبل أن يرى تباشير نهضة أمته تقوم. ولكن نبوءته صدقت حين ولد من امرأة سورية أخرى عبقريّ سوريّ آخر هو أنطون سعاده الذي قرأ كلام جبران وسمع نداء جبران من وراء البحار يتردّد مع الأثير فكتب مقاله الشهير:

«سلام على الوطن الحي اذا كان حياً

سلام على الوطن الميت إذا كان الوطن ميتاً

سلام على الأهل أحياء سلام على الأهل أمواتا ً

أجل يا أخي هكذا شاء القدر وهكذا كان ولم يبق لنا من آثار تلك المأساة غير قبور صامتة يحرسها الموت الرهيب، وتظللها رهبة الأبدية. فمن أين للبشر أن يزيلوا قناع الموت عن أسرار القبور؟

أما أنا وأنت يا أخي فقد تركنا الوطن وهجرنا الأهل وضربنا في مجاهل الأرض كل مضرب على أمل أن نعمل على إعلاء الوطن وإحياء الأهل.

 سرنا ورابطة الوطنية تجمع بيننا وروح الأخوة يوحّد مساعينا فما بالي الآن أرى أن الغربة تضع بيني وبينك حاجزاً صلباً فلا أنت معي ولا أنا معك، لا تشعر بما بي ولا أشعر بما بك.

اذا كان الأمر كذلك فاذهب في سبيلك وسر في أنانيتك فخلاص الوطن يأتي على غير يدك، أما أنا فأذهب في سبيلي وأسير في وطنيتي وادير وجهي نحو الوطن الذي يحتاجني وأحتاجه.

وكما نادى حزقيال الرياح الأربع لتأتي وتكسو العظام الجافة عصباً ولحماً كذلك أدعوها لتكسو عظام بني قومي الرميم، وكما تحرّكت تلك العظام واكتسبت لحماً وعصباً وانتصب الميت على قدميه، رجلاً حيّاً كذلك سوف تتحرك عظام وطني وتكتسي لحماً وعصباً فينتصب على قدميه ويقف بين الأوطان الحيّة.

اذهب في سبيلك ودعني أذهب في سبيلي. فالوطن ينتظرني والأهل يترقبونني. اذهب ولا تعُد إليّ إلا وقد غيّرت ما بنفسك.

أما أنا فثابت في محبتي لوطني ومقيم على عهدي لأهلي أحياء كانوا أم أمواتاً الى النهاية.

 إن الوطن ينتظرني، والأهل يترقبونني، لا شك عندي انه سوف تتحرك عظام وطني وتكتسي لحماً وعصباً فينتصب على قدميه ويقف بين الأوطان الحيّة».

انطلق انطون سعاده في مسيره في سان باولو ينمو ويدرس ويتطور ويتعلم ويفكّر ويعمل ويجتهد ويجاهد من أجل تأسيس حركة تجمع المهاجرين السوريين الشرفاء حتى يساهموا في إنقاذ السوريين المقيمين في وطنهم الممزق.

وأثناء أقامته في البرازيل، درس بالإضافة الى اللغتين الفرنسية والانكليزية اللتين درسهما سابقاً، اللغات الألمانية والروسية والبرتغالية والإسبانية والإيطالية، وعمل أستاذاً لمادة التاريخ في مدرسة ساون ميغال الثانوية.

في عام 1930، عاد أنطون سعاده الى وطنه وبدأ بتدريس اللغة الألمانية في الجامعة الأميركيّة في بيروت، والتي كان اسمها سابقاً «المدرسة الإنجيلية السورية».

وفي عام 1932 أسس وقاد الحركة السورية القومية الاجتماعية التي ظلّت حركة سرية حتى تاريخ 16 تشرين الثاني سنة 1935 تاريخ اكتشاف أمر الحركة القومية الاجتماعية من قبل دولة الانتداب الفرنسي حيث دخل انطون سعاده السجن للمرة الأولى ودخل معه مئات الطلاب وأعضاء الحركة ليحاكم بتهمة التآمر من قبل الحكومة الفرنسية والعمل لتوحيد سورية الجغرافية ضد إرادة المستعمرين الذين جزّؤها ليتمكنوا من السيطرة عليها وعلى شعبها بشكل أقوى.

واثناء سجن أنطون سعاده في ذلك الوقت ألّف كتاب «نشوء الأمم» الجزء الأول في علم الاجتماع. وبعد ستة أشهر أطلق سراحه ليعود الى السجن مرة أخرى في أواخر شهر حزيران 1936.

وأثناء سجنه الثاني قام بتأليف الجزء الثاني من كتاب «نشوء الأمم» ولكن هذه المرة تمّت مصادرة مخطوطة الجزء الثاني من قبل السلطات الفرنسية التي رفضت إعادتها واستمرت في رفضها حتى هذا التاريخ.

لقد كان أنطون سعاده، من عام 1935 الى عام 1938 الزعيم السوري القومي الاجتماعي الرئيسي الذي أمضى تلك السنوات في السجن أو ملاحقاً مضطهداً من قبل سلطة المستعمر الفرنسي الذي هيمن على بلاده في تلك المرحلة.

وبعد إطلاق سراحه في عام 1938 قام بتأسيس صحيفة «النهضة»، واستمر في قيادة الحزب السوري القومي الاجتماعي حتى غادر البلاد في العام نفسه 1938 لتنظيم فروع للحزب بين المهاجرين والمهجرين السوريين في البلاد الأوروبية والأميركية.

وفي غياب أنطون سعاده حوكم غيابياً وحكمت عليه المحكمة الفرنسية عشرين عاماً (20 عاماً) بالسجن وعشرين عاماً بالنفي.

وبعد وصوله الى البرازيل أسس أنطون سعاده فرعاً للحزب من المهاجرين السوريين وصحيفة «سورية الجديدة» ولكنه سجن في سان باولو لمدة شهرين بضغط من السفارة الفرنسيّة على الحكومة البرازيليّة وبوشاية من عملاء السفارة الفرنسية في سان باولو والتي ثبت زيفها وعدم صحة الاتهامات وتم الإفراج عنه.

 ومع أن أنطون سعاده كانت لديه إقامة دائمة في البرازيل فإن السلطات البرازيليّة طلبت منه، بضغط من الحكومة الفرنسيّة أن يغادر البرازيل في أسرع وقت ممكن، فغادر البرازيل متوجّهاً الى الارجنتينبوينس أيرس، حيث كان مطلوباً أيضاً بضغط من الحكومة الفرنسيّة فاستدعي للتحقيق وتبين أيضاً زيف التهمة وأخلي سبيله وطلب منه أن يغادر الأرجنتين.

 ولما لم يكن من الممكن إبعاده، بسبب الحرب العالمية الثانية، فكان عليه البقاء قسراً حتى عاد في 2 آذار1947 الى لبنان واستقبله عشرات الآلاف من أعضاء الحزب والمؤيدين من جميع مناطق سورية الجغرافية من لبنان وفلسطين والشام والأردن والعراق، فأصدرت السلطة اللبنانية الموظفة من قبل الفرنسيين مذكرة توقيف سحبتها بعد سبعة أشهر.

أسس أنطون سعاده بعد وصوله الى بيروت صحيفة «الجيل الجديد». وفي مكتب هذه الجريدة نفّذت السلطة اللبنانيّة خطة مدبّرة بالاتفاق مع منظمة طائفية لبنانية أنشأتها فرنسا وهوجم مكتب الصحيفة وأحرقت مطبعتها فاضطر الى مغادرة بيروت الى دمشق.

وخلال تلك الفترة أعدّت مؤامرة دولية في عواصم القرار في واشنطن ولندن وباريس للتخلص من أنطون سعاده وأعطيت الأوامر الى العواصم العربية في بيروت ودمشق والقاهرة وعمان وبغداد لتنفيذ المؤامرة فقام رئيس الجمهورية السورية حسني الزعيم الذي كانت تربطه علاقة طيبة بأنطون سعاده فسلّمه الى حكومة لبنان التي نفّذت اغتياله بعد محاكمة صورية في 8 تموز سنة 1949.

لقد استجوب أنطون سعاده وحوكم وأُعدم في غضون ساعات قليلة من دون أن يعطى فرصة الدفاع عن نفسه وتم إعدامه رمياً بالرصاص في الساعة الثالثة وعشرين دقيقة من فجر 8 تموز 1949 ووقع قرار الإعدام من قبل رئيس جمهورية لبنان ورئيس الوزارة في 9 تموز اي بعد تنفيذ الاعدام بيوم واحد.

كانت الكلمات الوحيدة التي قالها انطون سعاده في ذلك الفجر كما نقلها من حضر تنفيذ الإعدام قبل إعطاء الإيعاز بإطلاق الرصاص عليه من قبل السلطات السياسية والقضائية والتنفيذية المجرمة في لبنان هي الأقوال الآتية:

«أردت ليس لنفسي، بل أردت للأمة، أردت لهذه الأمة أن تعرف حالها، وسرت في تحقيق إرادتي غير آبه لمن قام يرميني بالنار، لأني أردت إنقاذ الأمة وتحقيق مجدها».

«لا يهمُّني كيف أموت، بل من أجل ماذا أموت».

«كلنا نموت ولكنّ قليلين منا من يظفرون بشرف الموت من أجل عقيدة صحيحة».

«إن موتي شرط لانتصار قضيتي».

«أنا أموت أما حزبي فباق، وأبناء عقيدتي سينتصرون، وسيجيء انتصارهم انتقاماً لموتي».

«قد أتممتُ رسالتي وأختمها بدمي».

«الحياة هي وقفة عزٍّ فقط».

«اسمحوا لي أن أرى كيف يخرج الرصاص من أسلحة أبناء وطني ويخترق صدري».

شكراً شكراً..

بعد إعدام انطون سعاده، قامت السلطة اللبنانية بإعدام ستة من أعضاء الحزب الذي أسسه بدون محاكمة واختارت كلاً منهم من احدى الطوائف الدينية المسيحية والمحمدية لأن الحزب تمكّن من إقناع واستقطاب مواطنين من جميع الطوائف والمناطق في سورية الجغرافية الطبيعية.

لا يمكن أن نتفاجأ للاعمال البربرية التي قامت بها الحكومة اللبنانية في ذلك الوقت، لأنها كانت حكومة معتمدة ومفروضة من قبل دولة أجنبية استعمارية هي فرنسا وريثة الامبراطورية العثمانية التي هجّرت المواهب والعبقريات كالأديب الفيلسوف جبران خليل جبران المعروف والمشهور عالمياً والذي سبق ان اضطهد من قبل المستعمرين، ورجال الدين، والاقطاعيين في العهد العثماني ومات في الغربة بعيدا عن وطنه، ولا نبالغ اذا قلنا ان عشرات آلاف المهاجرين من تلك البلاد تعرضوا للاضطهاد لأنهم كانوا من المتعاطفين مع أفكار جبران خليل جبران وأنطون سعاده.

وهذا بعض ما قاله جبران وأنطون سعاده:

أما جبران فقد قال: «بإمكان الغربيين مساعدتنا علمياً واقتصاديا وزراعياً ولكن ليس بإمكانهم أن يعطونا الاستقلال المعنوي. وبدون هذا لن نصير أمة حيّةوالاستقلال صفة وضعية في الانسان وهي موجودة في السوري، ولكنها لم تزل هاجعة، فعلينا إيقاظها».

وهذا ما قاله أنطون سعاده عن فلسفته القومية الاجتماعية وجاهد في سبيل تحقيقها:

ان تعاليم العقيدة القومية الاجتماعية تدعو جميع الأمم الى ترك عقيدة تفسير التطور الانساني بالمبدأ الروحي وحده، وعقيدة تفسيره من الجهة الأخرى بالمبدأ المادي وحده، والإقلاع عن اعتبار العالم، ضرورة، عالم حرب مهلكة بين القوة الروحية والقوة المادية، والى التسليم معنا بأن أساس الارتقاء الإنساني هو أساس روحيمادي (مدرحي)، وأن الإنسانية المتفوقة هي التي تدرك هذا الأساس وتشيد صرح مستقبلها عليه. ليس المكابرون بالفلسفة المادية بمستغنين عن الروح وفلسفته، ولا المكابرون بالفلسفة الروحية بمستغنين عن المادة وفلسفتها».

عزيزي الدكتور مارسيلو سوتيل

بعد هذه اللمحات عن الشاعر جبران خليل جبران والفيلسوف أنطون سعاده، وحيث إن القانون رقم 14565 المؤرخ في 4 كانون الأول سنة 2014 الصادر عن مجلس بلدية كوريتيبا بالاجماع، والمنشور في الجريدة الرسمية بتاريخ 4 / 12 / 2014، والخاص بتسمية مكان عام باسم أنطون سعاده،

وبناء على أن عالم الاجتماع والفيلسوف انطون سعاده كان استكمالاً واستمراراً لأفكار جبران خليل جبران، فإننا نرجو الموافقة والسماح بوضع تمثال نصفي لأنطون سعاده في موقع «منارة المعرفة»، حيث يقع تمثال جبران خليل جبران.

مع جزيل الشكر والتقدير 

المدير الثقافي للجمعية الثقافية السوريةالبرازيلية

كوريتيبا في 10 شباط 2020.

*باحث وشاعر قومي مقيم في البرازيل.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى