ثقافة وفنون

القصة القصيرة جداً… وكسر النمط السائد

 د. عبد الله الشاهر*

يمكن أن نرى في القصة القصيرة جداً الشكل الأكثر مناسبة للعصر الراهن، ذلك أنها تتحدث عن حياة سريعة متلاحقة وعن مخترعات متتالية أوجزها العصر بتسارع لا يحتمل الإنشاء بقدر ما يحتمل الإدهاش، وعليه فإن القصة القصيرة جداً كانت استجابة واعية لعصرها إذ إنها انفتحت على البنيات وانفجار الأشكال، وعلى الإيجاز والتكثيف، سواء من خلال الصوغ أو من خلال التركيز لاستخدامها آليات التحويل والترميز بشكل يؤدي إلى انتهاك الحدود بين الواقع والمتخيل.

وهذا يعني ـ حسب تعبير الدكتور جابر عصفور ـ أنها الفن الصعب الذي لا يبرع فيه إلا الأكفّاء من الكتاب، القادرين على اقتناص اللحظات العابرة قبل انزلاقها على أسطح الذاكرة، وتثبيتها للتأمل الذي يكشف عن كثافتها الوامضة، بقدر ما يكشف عن دلالتها المشعة في أكثر من اتجاه، وهنا يمكن الإشارة إلى أن القصة القصيرة جداً تتمتع بالحساسية العالية جداً للغة والتمكن من أدواتها البلاغية من خلال الوحي والتلميح والإشارة، والمقدرة الفنية على تشكيل حالات التكثيف والإيجاز، والإحالة على ما يقع في مستوى الرمز خارج النص بحيث تخلق انزياحاً يدعو إلى الانشغال بهذه الصورة وتلك الرموز فيتوالد النص بنوع من الحكي المضاد من خلال القدرة على استثمار مكوّنات المقابلة والمفارقة في القصة القصيرة جداً.

وهنا تبدو اللغة في القصة القصيرة جداً ليست خارجها وليست أداة اتصال وإنما أداة إنتاج إذ إن اللغة بالأساس حالة ترميز بدلالات مفتوحة وانزياحات تمنح القصة القصيرة جداً أن تخترق أزمنتها بزخم دلالي وفضاء خصب، بحيث إنها تمتلك خطورتها بذاتها وتأشيرة دخولها إلى دائرة القص بجدارة..

وفي هذا المقام يبدو أن الأدب الوجيز وبرؤية مؤسسة الأديب «أمين الديب» استطاع أن يضع ملامح تكون معالم طريق في القصة القصيرة جداً من حيث كونها حالة تكثيف عالية وتشكيل بصري، ودفق عاطفي ودهشة، أو ما يُدعى بأفق الانتظار، وانزياح ومجاز وإيقاع داخلي. أحياناً لا ندّعي أن الأدب الوجيز اخترعها، لكنه استطاع اكتشافها والإحاطة بعوامل ترابطها مع معطيات عصرنا الذي نعيش، واستطاع أيضاً أن يسوق لما هو شكل منتج لحياتنا المعاصرة التي لم تعد تحتمل اللغة الإنشائية التي يعلو فيها الخطاب وتصرخ اللغة في منبر الوعظ والإرشاد والإخبار وكأنها أداة تواصلية لا إنتاجية.

وما دامت القصة القصيرة جداً هي الشكل الأدبي الأقرب تعبيراً من عصرنا فعلينا إذاً أن نسرع في تطوير أنفسنا وتغيير أوضاعنا إن أردنا أن نواكب عجلة الزمان وإيقاعه السريع حتى لا يفوتنا قطار التقدّم والازدهار، ومع هذا كله فإن الأدب بشكل عام غير قابل لأن يحدد بحدود صارمة لارتباطه بمكونات النفس، والقصة القصيرة جداً نموذج يسعى إلى البحث عن مناطق تكسر النمط، وتتمرّد على السيادة، من خلال توظيف فني مبتكر، وغير مألوف للسائد من التقنية، فاتحة الطريق أمام انفراج المعاني وانبثاق لذة القراءة وقلقها.

*سورية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى