مرويات قومية

الأديب.. الشاعر.. الفنان.. المذيع المثقف القومي الاجتماعي الرفيق الشهيد هنيبعل عطية

الرفيق الباحث جان داية

الرفيق الشهيد هنيبعل عطية، وكنت عرفته منذ ستينات القرن الماضي، رفيقاً ينبض صفاءً وصدقاً، ويتدفق إيماناً وإذاعة وشعراً وأحاديث تبدأ بالحزب الذي سكن عقله وقلبه ووجدانه، وتنتهي بالحزب.

عنه يُكتَب الكثير، بعضه، الكتاب الذي كان رغب حضرة رئيس الحزب الأسبق الأمين مسعد حجل أن يقدمه لمحبي الرفيق الشهيد هنيبعل عطية(1).

أثناء مراجعتي لأعداد مجلة فكر اطّلعت على ملف كان صدر عن الرفيق الشهيد في العدد 85 (أيلول 2004) منه، هذه المقدمة، والبحث القيّم الذي كان نشره الباحث والأديب الرفيق جان داية عن صديقه الرفيق الشهيد هنيبعل عطية.

ل. ن.

هنيبعل عطية دم على خافق الحبر

أقامت عمدة الثقافة والفنون الجميلة في الحزب السوري القومي الاجتماعي ندوة تكريمية للكاتب القومي الشهيد هنيبعل عطية، الذي قُتل غدراً على يد حفنة من المجرمين، وقد كانت الندوة مناسبة لإعلان صدور كتابه «كلمة وتشتعل الحرائق»، وهو عبارة عن أهم ما كتبه الكاتب الشهيد من العام 1970 حتى العام 1981، إضافة إلى محطات بارزة في تاريخ الأمة أضاء عطية عليها بقلمه وريشته.

الندوة تكلّم فيها الصحافي والأديب يحيى جابر رئيس المجلس الأعلى السابق في الحزب السوري القومي الاجتماعي، والباحث جان داية، وشقيق صاحب المناسبة، الأستاذ وليم عطية. وقدّم للندوة الأديب إبراهيم زين. وللإضاءة على الكاتب هنيبعل عطية كونه أديباً من أدباء النهضة القومية الاجتماعية رأت «فكر» أن تنشر المداخلات التي تقدّم بها المشاركون.

هنيبعل المتعدد المواهب جان داية

كنتُ منفذ عام المتن الشمالي في العام 1967 حين سمعت ناظر الإذاعة هنيبعل عطية يشرح في حلقات إذاعية مفهوم سعاده للأمة والقومية والمدرحية والسياسة والمرأة والحب والزواج. كان متدفقاً كالسيل عبر وحدة طبيعية بين عقله ولسانه. لا تلعثم. لا ركاكة. ولا مجال لسامعيه من أخذ نفس أو طرح سؤال، كأنه محاضر كلاسيكي في الجامعة اليسوعية أيام زمان. وإذا أضفت قامته المديدة وأناقته وشبوبيته ونبرة الصدق في صوته، إلى طلاقته وعمق آرائه وغنى معلوماته، والشبه الكبير بين وجهه وعينيه وشعر رأسه، وبين شعر رأس سميّه القائد القرطاجي الشهير وعينيه ووجهه، أدركت سرّ تعلّق الحضور به. صحيح أن العمل الإذاعي الناجح هو أن يحاور المذيع سامعيه لا أن يحاضر فيهم، ولكن ثمّة استثناء لكل قاعدة. وهنيبعل هو النموذج للاستثناء، هو مذيع ناجح مع أنه محاضر لا محاور.

كان المذيع الشهير متقيداً بمنهج سعاده في شرح المبادئ الأساسية والإصلاحية. لم يكن مقتنعاً بالاجتهادات العقائدية السياسية التي سجّلها بعض مفكّري الحزب وقادته على صفحات ملحق النهار. كان يشرح عروبة الحركة القومية الاجتماعية على أساس إقامة جبهة عربية تكون الأمة السورية فيها ركناً وقائداً. وهذا يقتضي أن تتحد سورية وتنهض، قبل أن تنخرط في الجبهة العتيدة. كذلك، لم يرَ لزوماً إطلاق صفة الاشتراكية على مبدأ سعاده في الاقتصاد، أو إطلاق لقب اليسارية على العقيدة. طبعاً هذا لا يعني أنّه كان متزمتاً أو متحجراً في فهمه للعقيدة وممارسته لها.

وكان هنيبعل المذيع متقيداً أيضاًوجداًبمفهوم سعاده للحب والزواج. كان هذا الموضوع عزيزاً على قلبه، بدليل خوضه فيه خلال العديد من الحلقات الإذاعية. فالعلاقة بالحبيبة أو الزوجة هي وحدة نفسَين قبل أن تكون اتحاد جسدَين. لذلك انتقد بحدّة جماهير الذكور، وبخاصة بعض المثقفين الثوريين واليساريين الذين لا يرون في المرأة إلا الجنس.

* * *

الدكتور عادل ضاهر

وكان هنيبعل يخرج من معظم الحلقات الإذاعية راضياً مرتاحاً وشاعراً بالاعتزاز، ليس فقط لأنه شرح سعاده بموضوعية وأمانة وبلاغة، بل أيضاً لأنّ المتلقي كان صاغياً ومستوعباً وموافقاً. ولكن لكلّ قاعدة شذوذها. وعلى سبيل المثال، فقد كان يدير حلقة إذاعية في بيت الطلبة، حين طرح عليه أحد الحاضرين سؤالاً حول اجتهاد عقائدي فلسفي ورد في كتاب «المجتمع والإنسان» للدكتور عادل ضاهر. وفيما هو ينتقد اجتهاد ضاهر على ضوء نهج سعاده، دخل عميد الثقافة وطلب من هنيبعل أن يُفسح له في مجال ترؤّس الحلقة، ثم أبدى موافقته لرأي ضاهر ورفضه لرأي هنيبعل، مما دفع الأخير للانسحاب غاضباً.

وسرعان ما زارني كعادته، وسألني عن رأيي بتصرف العميد. ولما قلت له بأني أقسم الموضوع إلى اثنين: دستوري وفكري؛ بالنسبة للقسم الأول، أرفض تصرّفه لأنه منافٍ للدستور، وبالنسبة للثاني، أحتاج إلى مراجعة ما كتبه ضاهر وما قاله العميد، قبل إصدار الحكم. فغضب مني، وأوشك أن يضعني معه في سلة واحدة.

أصل إلى موهبة هنيبعل الخطابية. كان متميزاً في نهجه الخطابيّ عن سائر خطباء الحزب أمثال الدكتور عبدالله سعادة وإنعام رعد وعبدالله قبرصي. كانت عبارته أدبية حتى لو كان المضمون سياسياً أو عقائدياً. وكان يُلقي من غير انفعال طوال خطبته، ولكن تموّجات صوته وقامته الفارعة وعدم تلعثمه، فضلاً عن التناغم بين جمال عبارته ومضمونها الفكري، وفّرت له النجاح في وقفاته الخطابية. وقد ساهم في نجاحه قدرته على الارتجال الظاهري. وأقول «الظاهري» لأنّ الخطيب كان يكتب خطابه ويحفظه عن ظهر قلب، ثم يلقيه وكأنه يرتجله في لحظات الإلقاء. وهذا الأمر اكتشفته حين عثرت بين أوراقه على مسوّدة إحدى خطبه. وبالطبع، يعتبر ذلك لصالحه، ولا ينقص من قيمة خطابه، لأنه يقيه الشطط، ويجنّبه التلفظ بأية كلمة أو عبارة انفعالية قد تكون وليدة حماس الجمهور وتصفيقهم الحاد.

توزّعت خطب هنيبعل على الاحتفالات الحزبية الثلاث (الأول من آذار، الثامن من تموز، والسادس عشر من تشرين)، وتأبين الشهداء، إضافة إلى وقفات خطابية قليلة في مواسم انتخابية. أذكر جيداً كيف ألقى هنيبعل خطاباً من على شرفة أحد المنازل بين جلّ الديب والزلقا، تأييداً للائحة الانتخابية التي كان الحزب داعماً لها. ولم يكن الخطيب الوحيد في ذلك المهرجان. فقد خطب فيه عدد من المنافقين والمفاتيح الانتخابية والزجالين. لذلك، كان حضوره غريباً وطريفاً وهو يطلب من الناس تأييد مجموعة من محترفي السياسة وهو الخطيب الصادق الطاهر والكاره للانتخابات اللبنانية بمرشحيها وخزعبلاتها. ومن المؤكد أنه لم يكن سعيداً في موقفه الخطابي ذلك، بعكس سعادته حين يخطب في عرس شهيد. ولكن هنيبعل كان عضواً ومسؤولاً منضبطاً. وما دام أعلى مسؤول حزبي قد دعاه إلى إلقاء خطاب في مهرجان اللائحة التي أيّدها الحزب، فهو لبّى الدعوة كما يفعل الجندي حين يتلقى الأمر.

* * *

خطيب الشهداء

وفي المقابل، كان هنيبعل يخطب في الاحتفالات الخاصة بالشهداء بكل اندفاع ذاتي، وكدتُ أقول من غير أن يتلقى دعوة من أهل الشهيد أو رفقائه. ولكثرة ما خطب في الشهداء سُمّي «خطيب الشهداء». من هنا سرّ توسل تلك السيدة له لإلقاء كلمة في الحفل الذي يقيمه طلاب جامعة الـ L.A.U. لابنها الشهيد. كان هنيبعل متألقاً في تمجيده للشهيد، ومن المؤكد أنه لم يسأل أين استشهد المحتفى به وكيف. إذ يكفي أن أم الشهيد قد توسّلت إليه كي يبلسم جرحها بكلماته وعباراته الجميلة المتناسقة والجامعة بين العقل والوجدان. فلو سأل الخطيب عن كيفية الاستشهاد لتلقى جواباً مؤلماً وهو أنّ الموت قد نجم عن خناقة قبضايات وليس معركة من أجل قضية. ولكن كيف له أن يسأل، و»الشهيد» رفيق، والأم تتوسّل إليه، وهو الذي يكنّ عاطفة عميقة لأمه.

وثمة سؤال «بريء»: كيف لم يتسلّم هنيبعل مسؤولية حزبية رفيعة في الوقت الذي كانت الموهبة الخطابية الشرط الرئيسي لتولي المسؤوليات؟

ولنقلب الصفحة على الموهبة الثالثة التي تفجرت عبر مئات المقالات التي نشرها في صحف الحزب وبعض الصحف البيروتية وبخاصة «الشمس»، ولم ينسَ أن يزيّن معظمها برسوم جميلة ومناسبة، والتي هي ثمرة موهبته الرابعة. وحيث أن الكتاب العتيد يحتضن باقة كبيرة من مقالاته، فإني أكتفي بقصيدتَين نثريّتين حيث ناقش في الأولى شاعر الشجرة والمقاومة والنهضة محمد يوسف حمود، وأهدى الثانية إلى صاحب المئوية سعاده قبل ثلث قرن.

نشر حمود في مجلة «المواسم» في أواسط الستينات من القرن الماضي فصلاً من مذكراته، أبدى فيه يأسه من الحزب، وأعلن إحجامه عن القيام بأيّ نشاط حتى لو كان في نطاق الأدب. وتحت عنوان «قريباً من الشمس» ردّ هنيبعل على حمود بقصيدة نثرية قال في مستهلّها: «كنت أقرأ كلماتك.. قسمات وجهك.. فتخضلّ عيناي بالدموع.

أنت والغربة صديقان، من زمن بعيد، ولكن غربتك الأولى تهون أمام غربتك الثانية، ومنفاك الأخير». وحيث أن الفارق كبير بين الغربتَين؛ بمعنى أنّ الأولى تفجّر شعر حمود النهضوي، في حين ينتصب جدار برليني في الثانية بين الشاعر وغيمانه. أضاف هنيبعل: «بالأمس، كنت تكتب الأشعار على الشجر والحجر، فما بالك اليومتكتب على صفحات الماء.. أناشيد بحار قديم.. تحطّم زورقه.. وتاه في البحار؟».

هل يئس هنيبعل من بعث الأمل في قلب حمود اليائس وكيانه المحاط بالغربة؟ أبداً. فالثائر لا ييأس. والأمل يتضاعف كلما ازدادت العتمة: هذه حكايتنا كلها أمواج صغيرة.. وأمواج كبيرة.. في بحر صاخب. ولكن يا شاعري.. لا خوف علينا.. فالموجة مهما كانت صغيرة لا تغرق».

وتحت العنوان الدائم «قوس قزح» خاطب هنيبعل سعاده عبر الصفحة الثقافية في جريدة «الشمس» التي تولّى تحريرها بلا مقابل. فقال: «يا معلمي.. وأنت تنشر جناحك الحنون.. على ليلنا الطويل.. يختلج الوعي على شفاه الشمس.. وتغسل كل الظلمات بشعاع واحد.. عجباً لك.. تداوي جراحنا.. فبالله عليك.. كيف ينبع البلسم من الجراح؟ وكيف يرشح ماء الوجه في الحجر؟ من دمك الطاهر.. صنعت لنا عجينة فريدة.. تحتها.. يختمر الربيع».

* * *

المبدأ الأساسي التاسع

تبقى الموهبة الكبرى. صحيح أن هنيبعل قد تمتّع بموهبة الإذاعة وموهبة الخطابة، وموهبة الكتابة، وموهبة الرسم، ولكن موهبة المواهب لديه هي الأخلاق والمناقب. من المؤكد أن هنيبعل كان أخلاقياً بفعل استعداده الفطري ونتيجة تربيته البيئية قبل انتمائه إلى الحزب. ومن المرجح أن تتويج سعاده المحاضرات العشر بمبدأ الأخلاق والمناقب وتشديده على اعتناق المبدأ الأساسي التاسع وممارسته، كان من العوامل التي دفعت بهنيبعل إلى الالتزام بالعقيدة والمؤسسة الحزبية. بالطبع، هذا لا ينفي أنّ العقيدة والحزب قد صقلا تلك الفضيلة في نفسه وعقله، وجعلا إطار ممارستها أكثر اتساعاً، وعمّقاها بحيث بات سلوكه اليومي فعلاً أخلاقياً مناقبياً، فلولا سعاده لما كان هنيبعل مرفوضاً في «الشرقية» لإيمانه العقائدي، ومرفوضاً في «الغربية» لإيمانه الديني. ولولا المبدأ الأساسي التاسع المتمحور على الأخلاق والمناقب، لأحنى هنيبعل رأسه أمام العاصفة، ولما أصرّ على رفع راية سعاده العلمانية وسط الرايات الطائفية، وقد دفع حياته ثمناً لذلك.

هوامش:

مراجعة الكتاب لدى مؤسسة «فكر»، مركز الحزب،  ولدى كل من مكتبة «دار الفرات»، ومكتبة «بيسان».

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى