عربيات ودوليات

تجاوزات خطيرة في الانتخابات التونسيّة.. فهل تتمّ المحاسبة؟

كشفت عملية الرقابة التي أجرتها محكمة المحاسبات خلال الانتخابات التشريعية والرئاسية التونسية لسنة 2019، عن «جملة من الإخلالات الخطيرة» التي ارتكبها المرشحون، ما دفع العديد من الأحزاب التونسية إلى اعتزام تقديم قضية عدلية في الأيام المقبلة، فيما ارتفعت الأصوات المطالبة بموقف واضح للرؤساء الثلاثة ولبقية الأحزاب التي لم تحرك ساكناً.

«الإخلالات» التي ذكرها تقرير محكمة المحاسبات، شابت الحسابية المالية للمرشحين، وشرعية الموارد ومجالات إنفاقها وعدم الإفصاح عن مصادر التمويل واستعمال مال مشبوه غير مصرّح به في الحملات الانتخابية، وعدم احترام أحكام مرسوم الأحزاب.

وأفادت القاضية فضيلة القرقوري رئيسة دائرة المحاسبات في ندوة صحافية، يوم الثلاثاء، أنها «خصصت لتقديم التقرير العام حول نتائج مراقبة محكمة المحاسبات لتمويل الحملات الانتخابيّة للانتخابات الرئاسية السابقة لأوانها لسنة 2019 والانتخابات التشريعيّة لسنة 2019، ونتائج مراقبة مالية الأحزاب السياسية وتقرير دائرة الزجر المالي للفترة ما بين سنة 2012 و2019، أن الإخلالات المرصودة تؤدي بالضرورة إلى حرمان القائمة أو المترشّح المخلّ، من منحة استرجاع المصاريف الانتخابيّة كلياً أو جزئياً، وهو ما ستقوم به مختلف الهيئات الحكميّة للمحكمة»، وفق قولها.

وكشفت فضيلة القرقوري أن «347 قائمة مرشحة للتشريعية لم تقدّم حساباتها ولم تلتزم بمبدأ الشفافية الذي أقرّه القانون الانتخابي، كما لم تلتزم 23 قائمة تشريعية بنشر مختصر لحساباتها بجريدة يوميّة، وينسحب الأمر ذاته على 8 مرشحين للانتخابات الرئاسية».

وبيّنت القرقوري في هذا الصدد أن «هذه المخالفات تستوجب تنفيذ عقوبات أقرّها القانون الانتخابي»، مشيرةً إلى أن «المحكمة قد شرعت في إعداد تقارير ختم التحقيق بخصوص 203 قوائم لم تقدم حساباتها وتم إصدار 107 قرارات ابتدائية بشأن تسليط عقوبة ماليّة على القائمات الانتخابية التي لم تلتزم بالإيداع».

كما كشفت القاضية لدائرة المحاسبات أن «أكثر من 100 قائمة لم تلتزم بضوابط مسك الحساب، و13 قائمة لم تصرّح ببعض الأنشطة، و51 قائمة لم تودع موارد نقديّة في الحسابات البنكيّة، و17 قائمة لم تقدّم كشوفات بنكية تغطي كل العمليات التي مرت بالحساب البنكي».

والأخطر من ذلك حسب فضيلة القرقوري، أن «الموارد لم تكن مضمونة، وشابتها مخاطر عدة لتمويلات مشبوهة تجسّدت بقبول تبرّعات من ذوات معنوية وجمعيات، وأن الخاصية الكبيرة لانتخابات 2019 هي اللجوء إلى التعاقد مع الخارج، واستعمال شبكات التواصل الاجتماعي وخاصة الفايسبوك، وما أنجر عن ذلك من استعمال الإشهار السياسيّ وتأثيره على الحملة الانتخابيّة وعلى إرادة الناخب»، بحسب تعبيرها.

من جهة أخرى، ذكرت القرقوري العديد من الشخصيات التي شاركت في الانتخابات الرئاسيّة والتي ارتكبت تجاوزات خطيرة من ذلك المرشح حاتم بولبيار، الذي قدّم لمحكمة المحاسبات حساباً بصفر موارد وصفر نفقات، والحال أنه نظم تظاهرات وأنشطة خلال حملته الانتخابية وصرّح في الإعلام بأن نفقاته قد تجاوزت المليار مليم، مضيفةً في هذا السياق، بأن الحسابات المالية للمرشحين لم تكن مشفوعة بقائمة للتظاهرات ومنهم من لم يصرّح بالعديد من التظاهرات وكلفتها.

كما أكدت أن «المرشح للانتخابات الرئاسية نبيل القروي أبرم عقداً مع مؤسسة أجنبية بقيمة 2.85 مليون دينار، وتمّ التأكد من تحويل 427.5 ألف دينار منها إلى حساب بالخارج غير مصرّح به لدى البنك المركزي لزوجته، تمّ الإنفاق منه على الحملة الانتخابية».

وبالنسبة للانتخابات التشريعية أفادت فضيلة القرقوري أن «حركة النهضة قامت بإبرام عقود مع شركة للدعاية والضغط بدأ العمل بها منذ سنة 2014، وإبرام عقد تكميلي إلى كانون الأول 2019، وتمّ دفع مبلغ قيمته أكثر من 187 ألف دولار ككلفة خدمات تم تنفيذها»، كما أن المرشحة للانتخابات الرئاسية والتشريعية عن ائتلاف «عيش تونسي»، التجأت إلى إبرام عقد مع شركة أميركية «أميركا تو أفيركا كونسالتينغ» من أيار إلى تشرين الأول 2019، بمبلغ 15 ألف دولار أميركي شهرياً.

وأوضحت القرقوري أن «هذا التعاقد يمس بكل مبادئ الحملة، وخاصة تكافؤ الفرص، وأن هذه العقود هدفها الدعاية وكسب التأييد»، مبينةً أنه «بالنظر إلى ما يشوب هذه العقود من شبهات حول تمويل أجنبي، فقد عهد إلى الهيئات القضائية بمحكمة المحاسبات استكمال التحقيق في هذه الوقائع، وترتيب الآثار القانونيّة المتعلقة بها إلى جانب الشبهات في التمويلات الأجنبية على مستوى تأدية النفقات».

وذكرت أن «هذه الملاحظات وهذا العمل الرقابي يوازيه عدم تجسيم للأحكام التي وردت في الفصل 91 من القانون الانتخابي، والتي كلفت البنك المركزي ومصالح وزارة المالية بحماية الحملة الانتخابية من المال المشبوه»، مشيرةً إلى أن «المحكمة قد وقفت على محدودية هذه الرقابة».

ولاحظت القرقوري من جهة أخرى أن «ما ميّز الانتخابات الرئاسية والتشريعية هو ارتفاع الموارد مقارنة بانتخابات سنة 2014، حيث ارتفعت الموارد في الدورة الأولى للرئاسية بأكثر من 160% وبلغت كلفة الصوت بين 30 بالنسبة لقيس سعيد وأقصاها ما يناهز 40 ديناراً بالنسبة لمحسن مرزوق، وبالنسبة للتشريعية تطورت الموارد بنسبة 87% بالنسبة للأحزاب السياسية».

وبخصوص النفقات فقد سجلت ارتفاعاً بنسبة 136% في الدورة الأولى للرئاسية، كما بلغت نفقات التشريعية حدود 3 ملايين دينار شملت بالخصوص الطباعة والنشر والتظاهرات.

كما تم اللجوء خلال الاستحقاقات الانتخابية السابقة إلى الاستعمال المكثف لشبكات التواصل الاجتماعي وخاصة أحزاب «حركة النهضة» و»قلب تونس» و»آفاق تونس»، التي استعملت هذا الفضاء للترويج لمرشحيها عبر منشورات واستخدام تقنية الإشهار السياسي حتى يوم الصمت الانتخابي.

وكرد فعل عما جاء في تقرير دائرة المحاسبات حول الانتخابات الرئاسية والتشريعية لسنة 2019، من خروقات فادحة شابت العملية الانتخابية، أعلنت مجموعة من الأحزاب والشخصيات الوطنية، يوم الثلاثاء، اعتزامها «تقديم قضية عدلية» في الأيام المقبلة، لتتبّع كلّ من سيكشف عنه البحث وتسليط عقوبات صارمة حسب ما يقرّه القانون الانتخابي التّونسي وإنارة الرأي العام بكلّ المعطيات الإضافية.

وجاء في البيان المشترك الذي أصدرته هذه الأحزاب والشخصيات، أنّ «تقرير دائرة المحاسبات يقرّ بما لا يدع مجالاً للشك أنّ الانتخابات الرئاسية والتشريعية لسنة 2019، لم تستند إلى شرعيّة الاختيار الشّعبي الحرّ بقدر ما استندت إلى سلطة المال الفاسد والتمويل الأجنبي وتدخّل مؤسسات ولوبيات خارجية ومؤسسات الأخبار الزائفة والتزييف».

كما شجبت هذه الأحزاب والشخصيات الوطنية بشدة، صمت منظومة الحكم والنيابة العمومية حيال تقرير دائرة المحاسبات، بمّا يؤكّد وفق البيان، تورّط المنظومة الحالية ومحاولتها التستر على الجريمة الانتخابية التي تعرّض لها الشعب التونسي والتي تظهر نتائجها وأهدافها ما وصلت إليه البلاد من فساد، مذكرة بأنّ تقارير سابقة كشفت بدورها عن مصادر الأموال الضّخمة التي صرفت والمنتفعين بها.

واعتبرت أن «هذه الفضيحة الانتخابية تعد انتهاكاً للسيادة الوطنية، وتهديداً للأمن القومي لتونس، علاوة على ما فيها من تزييف لإرادة الشعب وتعفين للديموقراطية في تونس على محدوديتها وهشاشتها».

وبيّنت أن «التدخل الخارجي والتمويل والدعم الإعلامي والمالي اللامحدود الذي تحصلت عليه أحزاب وشخصيات بعينها من شبكات ولوبيات خارجية، غايته تحقيق أهداف إستراتيجية لدول ولوبيات وأجهزة مخابرات في تونس من خلال تصعيد هذه الجماعات والأحزاب والشخصيات التي أوصلت البلاد إلى الإفلاس وستؤدي قريباً إلى الوصاية الأجنبية»، بحسب البيان ذاته.

ودعت الأحزاب والشخصيات الوطنية ذاتها، الموقعة على البيان، كلّ القوى الديموقراطية ومكوّنات المجتمع المدني والجمعيات ذات الصلة بمراقبة الانتخابات إلى «التحرك بجدية» إزاء هذه «الفضيحة/الجريمة»، واتخاذ ما يلزم من القرارات السياسيّة والإجراءات القضائية والعملية.

وحمل البيان توقيع كل من حركة «تونس إلى الأمام» و»حزب العمال» و»الحزب الوطني الديموقراطي الاشتراكي» و»حزب القطب» و»التيار الشعبي» و»اتحاد القوى الشبابية» و»حزب حركة البعث» و»الاتحاد العام لطلبة تونس» و»اللجنة الوطنية لمناضلي اليسار»، ومجموعة من المستقلين.

وقد تفاعل الرأي العام التونسي مع تقرير دائرة المحاسبات داعياً إلى «ضرورة إعطاء التقرير أهمية كبرى والوقوف عند هذه التجاوزات ومحاسبة مرتكبيها»، إذ كتبت في هذا السياق الإعلاميّة عائدة بوقرة على صفحتها الخاصة: «تقارير دائرة المحاسبات يأخذ معها رئيس الدولة صورة تذكارية وانتهىمجهود ومصاريف وقضاة وإدارات وسيارات لأجل تقرير يقبر في الأرشيف».

في المقابل، دعت الإعلامية منية العرفاوي رئيس الدولة إلى «إبراز موقفه من تقرير دائرة المحاسبات»، قائلةً في تعليق نشرته على صفحتها الخاصة على «فايسبوك» إن «السيد رئيس الدولة الغائب عن كل ما يحدث.. ننتظر منك موقفاً واضحاً بشأن ما أثارته محكمة المحاسبات من جرائم لوثت الحياة السياسيّة».

في حين ثمّن عضو الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي والبصري هشام السنوسي، ما جاء في تقرير دائرة المحاسبات قائلاً: «شكراً لدائرة المحاسبات»، وذكر أنه «حين أكدت الهايكا أن الانتخابات لم تكن نزيهة تعرضت لكل أشكال الشتم والتشويه».

من جهته، اعتبر أستاذ القانون الدستوري والرئيس السابق للهيئة العليا المستقلة للانتخابات شفيق صرصار، أن «ما تضمنه تقرير محكمة المحاسبات المتعلق بتمويل الحملة الانتخابية يطرح من جديد مسألة الإفلات من العقاب خاصة مع وجود دعاوى عدة سابقة تقدّمت إلى النيابة العمومية تتعلق بتجاوزات كبرى وإلى اليوم لا نتيجة لها»، وفق قوله.

وأكّد أن «القانون الانتخابي الحالي ينص على سحب المقاعد في البرلمان في حالة ثبوت التمويل الأجنبي لأي حزب»، مشيراً إلى أن «العقوبات يمكن أن تكون عقوبات تجاه الأحزاب المتورطة وفق المرسوم 87 المنظم للأحزاب، والذي يمنع التمويل الأجنبي، أو كذلك تتبع وتحميل المسؤولية الجزائية لمن يتحمل مسؤولية أي جريمة».

ودعا أستاذ القانون الدستوري المشرّع إلى «ضرورة إصلاح المنظومة الانتخابية قبل أي موعد انتخابي مقبل»، خاصةً في ما يتعلق بمراقبة تمويل الحملة لضمان الشفافية واستعادة الثقة في الانتخابات وتنفيذ العقوبات في حالة وجود تجاوزات.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى