الوطن

اللبنانيون يريدون أفعالاً وليس كلاماً ووعوداً…

} علي بدرالدين

لم يكن استقلال لبنان منذ أن ناله سنة 1943 ناجزاً، أو مكتمل العناصر السياسية والوطنية، التي يمكن أن تنتج نظاماً ودولة ومؤسّسات لتبني وطناً، يكون على قدر آمال مواطنيه الذين لا يرون عنه بديلا، ولا ينتمون إلى غيره من الأوطان، ولا يوالون دولاً أو انظمة أخرى قريبة كانت أو بعيدة.

غير أنّ الذي حصل منذ إعلان دولة لبنان الكبير سنة 1920 ثم نيله الإستقلال، أطاحا بأحلام اللبنانيين، وزرعا بذرة القلق في نفوسهم، وخوفهم المشروع على الوطن الذي ينتظرونه على قارعة الزمن الآتي، لكنهم صدموا بولادة نظامه السياسي الذي لم يكن مشجعاً، ولم يوح لهم بالأمل ولا بالتفاؤل المتوقع، أو بأنهم على موعد مع الوطن الحلم، الذي تتمناه شعوب العالم.

أثبتت الوقائع انّ الحلم شيء، والواقع شيء أخر، بعد أن تحوّل إلى كابوس مدمّر وقاتل، وما زال اللبنانيون يدفعون الثمن باهظاً، جراء إفرازه لنظام سياسي، طائفي ومذهبي ومصلحي مركب ومعقد ومحشو بالتناقضات، وهو من مخلفات الدول التي احتلته واستعمرته وانتدبته، وهو قام على توافقها وتقاطع مصالحها.

 هذا النظام الهش أثبت أنه عقيم وفاشل، ولا يمكنه أن يبني وطناً موحداً وسليماً ومعافى من الأمراض الطائفية، أو أنه قادر على إدارة شؤون البلاد والعباد، وبناء المؤسسات، وفرض سلطة القانون والقضاء النزيه والمستقل. بمعنى آخر، كان أن تشكل هذا النظام الطائفي ملغوماً بقنابل موقوتة تنفجر تباعاً، عند كلّ محطة أو استحقاق، بالحروب والفتن المتنقلة زمانياً ومكانياً، وبالصراعات المفتوحة التي لا نهاية أو حدود لها، كما بالفساد المتفشي والمعمّم، وبالتحاصص في كلّ شيء وعلى أيّ شيء، حتى لو كان تافهاً، لأنّ مثل هذا النظام السيّئ لا ينتج إلا طبقة سياسية فاسدة ومستبدة ومتسلطة، ولدت من رحم هذه الحروب ومن التشبيح و«حق» القوة والنفوذ، وقد أنجبت ما سمّي باتفاق الطائف الذي كان نذر شؤم وخراب على هذا البلد، وشعبه، ومن هذه الطبقة الظالمة والجشعة والنهمة، التي لا تشبع ولا ترتوي ولا ترحم، هي وحكوماتها المتعاقبة التي أوصلت البلد المنكوب الى الهاوية، بعد أن فعلت فعلها الأسود باقتصاده وماليته وبشعبه الذي أفقرته وجوعته وراكمت الديون عليه.

 إنها البلاء الأشد الذي ضرب لبنان، الذي لا دواء ولا شفاء ولا خلاص للبنان إلا باستئصاله، ولتاريخه أمر صعب ومستحيل، لأنها تحوّلت إلى دماء تسري في شرايين بيئاتها الحاضنة، وتحصّنت في طوائفها ومذاهبها وأتباعها الذين ينظرون إليها كآلهة، وانّ المسّ بها، أو الإساءة إليها، قد يشعل حرب البسوس من جديد.

لا يمكن أن يصلح الحال في لبنان، لا الآن ولا في الغد، ولا بعد سنوات، ولا يمكن تحديد زمن قريب أو بعيد للفرج والوصول إلى خط نهاية المأساة ـ الكارثة التي حطت في لبنان، ونمت على الفتن والصراعات والخلافات والفساد المستشري والنهب والهدر، بالشراكة والتواطؤ بين معظم القوى السياسية الحاكمة والسلطوية، التي أنتجها هذا النظام وملحقاته، واعترافها به سراً وعلانية، من دون خجل، وكأنها ليست هي المسؤولة، ولا يعنيها ما حصل، وما هو حجم الخطر المتربص بمصير الوطن والدولة والشعب والمؤسسات.

الإستقلال، هذه السنة، في عيده الـ 77، كغيره من السنوات التي عبرت، وحملت معها المزيد من المآسي والإنهيارات والأزمات التي تتدفق كسيل جارف، لكلّ ما يعترض طريقها، من دون أن تجد من يخفف من اندفاعها، وضررها وخطرها.

 لبنان الذي بات على شفير السقوط، لا تزال أزماته ومشكلاته وعقده تتفاقم، وتتكاثر فضائح قواه السياسية السلطوية، وبدأ المستور بالانكشاف على عينك يا شعب، ليفضح ألاعيب وأساليب وعمليات النهب المنظمة التي أفرغته، من كلّ مقدراته الاقتصادية والمالية والمؤسساتية، وحطت رحالها في جيوب الفاسدين والسارقين المتسلطين.

السيّئ في الأمر أنّ هذه القوى لا تزال مُصرّة على مواصلة سياستها المتواطئة، وشراكتها في إخفاء الحقائق عن شعبها، والتنصل من كلّ ما ارتكبته، بحملة من التجاذبات والأكاذيب، وتوجيه الاتهامات وتحميل المسؤوليات، لبعضهم البعض بهدف تضييع الطاسة، وإلهاء الناس، تارة بعرقلة تأليف الحكومة، وتارة أخرى، في الهروب من التدقيق الجنائي، ومن ضغط لمنع الشركة المكلفة من القيام بمهمتها، لا سيما أنّ أعضاءها أقاموا في الفندق وأنفقوا على مأكلهم وشربهم ورفاهيتهم، وسياحتهم، من خزينة الدولة، ثمّ تمّ ترحيلهم، دون أن يبدأوا حتى بالاطلاع على المستندات المطلوبة.

الخط البياني المتصاعد لكثير من الملفات، يكشف مدى الخطر الذي يخيّم في لبنان، وينذر بكارثة حقيقية لا تبقي ولا تذر، وهي تقترب كسرعة الريح وقوته التي ستقتلع كلّ شيء تواجهه، حتى الطبقة السياسية والمالية سيجرفها الطوفان الأرضي والجوي إلى المكان المجهول، لأنها دون سواها هي من استعجل النهاية المؤلمة لها وللوطن والناس.

إنّ الكلام، أيّ كلام من أيّ مسؤول، وفي أيّ موقع كان، ولأيّ طائفة انتمى أو مذهب أو جهة داخلية او خارجية، لا فائدة منه، قد سقط، مهما كان سقفه وقوة منسوبه وتأثيره وعن أيّ جهة صدر، لأنّ المواطن أتخم به وانتفخت بطنه كلاماً ووعوداً ودعوات إلى الصبر ألذي هو مفتاح الفرج ، ولم تعد تنفعه الاتهامات وتحميل المسؤوليات بالجملة أو بالمفرق، بحصرها او بشموليتها، لأنّ فعلها يبدأ بتسمية الفاسد، ورفع الغطاء عنه، وإلغاء الخطوط الحمر التي يحتمي بها. المواطن يريد فعلاً ما يراه ويلمسه وينتشله من واقعه المزري إلى حدّ الموت، هو لا يحتاج أقوالاً ولو كانت بالأطنان، ولا مجرد اتهامات هوائية، لا تصيب أحداً، ولا يتشظى منها المرتكب لعمل شائن، ولا الفاسد ولا السارق، ولا المرتشي، إلى آخر منظومة الرذائل.

 أمام المشهد العام في لبنان الذي لا شيء فيه يطمئن أو يبشر بالخير، أو يدعو الى الأمل والتفاؤل، يحق لهذا الشعب المسكين الذي لا حول له ولا قوة ولا عمل ولا حماية، أن ينعي الوطن ويبكيه، ويقدّم العزاء لطبقته السياسية العصية على الاستقامة، أو الرحيل بأيّ اتجاه، أم أنّ عليه ان ينتظر، نقطة ضوء تولد من رحم الظلام الدامس، وتنير الطريق إلى الخلاص المحتوم من الأشرار الذين ظلموا و «أيّ منقلب ينقلبون، والظلم عواقبه وخيمة».يصح ّفي هذه الطبقة السياسية، ما قاله الإمام علي «أبصرت العين الشهوة، عمى القلب عن العاقبة». وكما يُقال «ساعة من ساعاته تقضي حاجات الشعب وأمنياته».

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى