الوطن

اتعظوا… لو دامت لغيركم ما وصلت اليكم

 

} علي بدر الدين

كثيرون من الناس يجهلون المناسبة التي قيلت فيها، ومن قالها، ولمن، ولماذا تتصدّر المقار الرسمية والقصور الرئاسية والحكومية؟ وما هو مغزاها ومعناها ورمزيتها؟

هذه المقولة الخالدة، قالها رجل فقير ومعدم، عندما كان ماراً صدفة من أمام قصر في غاية الفخامة والضخامة والإبداع، بناه الخليفة هارون الرشيد، ويحتشد حوله الشعراء المدّاحون بالخليفة وقصره، فهاله هذا المشهد واستفزه، ونادى بأعلى صوته، يا هارون، فهجم عليه الجند لاعتقاله، لأنه تجرّأ ونادى هارون بإسمه من دون الخليفة وأمير المؤمنين، لكن هارون الرشيد، استدرك الأمر وطلب من جنده عدم اعتقاله، ودعاه إلى الاقتراب منه، وسأله ماذا تريد يا هذا؟ أجابه الرجل بغضب: هل أزعجتك مناداتي لك بإسمك، فإني أنادي من هو خير منك بإسمه، وفي أيّ وقت، وأقول يا الله، يا رحمن. فوجئ هارون بجرأته وبديهيّته، وقال له: أعظني بما عندك. فقال له الرجل الفقير: «لو دامت الخلافة لغيرك ما وصلت إليك». وتابع: أنظر هذه قصورهم، وفي الجهة المقابلة هذه قبورهم، وكم من قبور تبنى وما تبنا، وكم من مريض عدنا وما عدنا، وكم من خليفة أو ملك أو سلطان أو مسؤول، رفعت له علامات فلما علا مات، وكم من زائف ادّعى الكرامات، لما كرا مات، وعاجلاً أم آجلاً، سيموت الصالحون والمجرمون والمتكبّرون والظالمون والمتواضعون والمسؤولون، ولكنهم لا يتعظون، ولا من يحزنون، وإنا لله وإنا إليه راجعون.

منذ خلافة هارون الرشيد، وهذه المقولة لا تزال عالقة في أذهان الناس، ولم تغادر قصور الحكام والسلاطين، من دون أن تعني لهم شيئاً، أو اعتبارها محطة لتغيير الحاكم أياً كان، حتى لو امتلك التمايز والقدرة والعدل والظلم، لأنّ مفهوم تداول السلطة في كلّ مكان وزمان، هو الأساس لقيامة الدول وبناء الأوطان والمؤسسات، ولسيادة العدالة والحرية وأحقية التمثيل، لجميع المكونات والأطياف في أي مجتمع من المجتمعات القائمة والمستحدث منها.

لا أدّعي في أيّ عهد أو حكم، ولا في أيّ سنة، كتبت هذه المقولة وبخط عريض ونافر ومميّز على مداخل القصور الرئاسية في لبنان، وما أعرفه أنها موجودة، ويعبر تحتها الرؤساء والمسؤولون والزوار يومياً، أقله، منذ أن نال لبنان استقلاله في سنة ١٩٤٣ لغاية اليوم، من دون الأخذ بها، أو اعتبارها منهج حكم، يجب التقيّد به لكلّ العابرين ماضياً وحاضراً، ولإتاحة الفرصة أمام الآخرين من اللبنانيين الذين يرون في أنفسهم القدرة على قيامهم بواجباتهم تجاه الوطن والشعب.

يبدو أنّ من بادر إلى وضعها إما عن صدق وحسن نية وجدية، ليس من أجل تزيين المداخل والأبواب، ومجرد شعار فارغ، او لعله قصد الإيحاء لشعبه، أنه لن يطيل الإقامة حيث هو، بهدف حقنه جرعة تخدير بمفعول قوي، ليطول انتظاره، ويقضي على أيّ أمل لأيّ كان في الوصول إلى مقامه، وانتزاعه عن كرسيه المتمسك به إلى حدّ الاتصاق، لأنه تحوّل إلى جزء منه، ومن ممتلكاته، وقد أدمن عليه، وتركه يعني موته، كالسمك الذي يموت مجرد خروجه من الماء.

إنها حال وواقع الطبقة السياسية والمالية الحاكمة والمتحكمة بمفاصل الدولة والقرار والسلطة والمال والنفوذ في لبنان، ماضياً وحاضراً، وبالطبع مستقبلاً، التي مجرد دخولها السلطة، تعتبر نفسها أنها المالكة الحصرية لمواقعها السلطوية، وليس من حق أيّ كان أن يدخل «حرم مملكته» وأنّ حراسه وأزلامه تحوّلوا إلى ذئاب كاسرة للدفاع عنها.

إنها إحدى المصائب التي حلّت بالشعب اللبناني، ونكبته، وحمّلته فوق طاقاته وإمكاناته، وسحبت «اللقمة» من فمه، وصادرت حقوقه، ونهبت ماله، وأفقرته وجوّعته، بسبب شهوتها للسلطة والتمسك بها، وجشعها ونهمها للمال، حوّلها الى التغوّل والتوحّش والشيطنة  ،ومن بعد مصالحها وامتيازاتها وثرواتها المتراكمة الطوفان.

هذه المنظومة السياسية، التي لم يعد الشعب يثق فيها أو يأتمنها على ماله وسلامه وحاضره، لا تعنيها اللعنة التي تحلّ بالبلد، بفضل سياستها الإفسادية والإلغائية، ولا الأخطار التي تحدق بالوطن من كلّ ناحية وصوب، ولا بالمجاعة التي تطرق أبواب الفقراء العاطلين من العمل، ولا يهمّها ضياع لبنان في صراع المحاور والمصالح، ولا الحديث سراً وعلانية عن الخلايا الإرهابية التي تتربّص به لنشر الفتن وسفك الدماء، ولا التهديدات الأميركية والصهيونية وتخيير اللبنانيين بين الحصار والعقوبات والعدوان والانهيار، وبين «رفع العشرة» والاستسلام والرضوخ للإملاءات الصهيونية الأميركية.

إنها منظومة غارقة حتى أذنيها، في الارتكابات على أنواعها، ومدمنة على التمسك بكراسي السلطة، ولا يمكنها الفطام عنها، حتى يحين موعد أجلها «الأعمار بيد الله». وحتى يدركها المحتوم، لن يبقى الوطن ولا الدولة ولا البشر ولا الحجر، ولا حياة.

رغم كلّ المخاطر التي تعصف بالبلد، فإنّ صراع هذه المنظومة، على تأليف الحكومة بلغ أشدّه، حيث أنّ البعض منها، يستشرس من أجل الحصول على حقيبة «دسمة» تدرّ أموالاً وتنتج خدمات خاصة ويرفض حقائب يعتقد أنها لا تليق به، ولن ترضى عنها بيئته الحاضنة، ولا «تبيض» لها وله ذهباً، والحكومة أساساً لم تؤلّف، ولا وجود لأيّ مؤشرات أو أسماء أو جدول لتوزيع الحقائب، أو أنها وضعت على سكة التأليف، أو كما يدّعي بعض رموز السياسة والمطلعين على الخفايا والأسرار ويملكون مفتاح الحكومة، أنها تطبخ على نار خافتة، وولادتها قريبة جداً، وحالها أشبه بحال الأب الذي وعد أولاده بشراء سيارة، حيث «دب» الخلاف ببنهم على من يصعد اليها أولاً ومن يجلس على المقعد الأمامي أو الخلفي، ما دفع بالأب لإنزالهم جميعاً من سيارة الوهم والسراب.

إهدأ يا هذا، وكفى أنت وغيرك تخدير الشعب، والتلاعب بمصيره وإلهائه، بفذلكات وعنتريات ووعود كاذبة، لأنه بلغ من النضج ما يكفي ليعرف الغث من السمين، والكذب من الصدق، مع أنه مع مقولة «كذب السياسيون ولو صدقوا». وصافرة انطلاق حراكه الجدي وانتفاضته المزلزلة، باتت «قاب قوسين أو أدنى»…

أتقوا الله في الوطن والشعب، وتمعّنوا جيداً بما قاله الفقير للخليفة هارون الرشيد. علّ ذلك يعيدكم إلى صوابكم، فتتعظون مما أصاب من سبقكم من حكام، وكيف سيكون مصيركم ونهايتكم، قبل فوات الأوان.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى