أولى

تكريم الميت التعجيل في دفنه

 غالب أبو مصلح _

منذ زمن بعيد، دأب الإعلام في لبنان على الحديث عن فضائح سياسية واقتصادية يرتكبها أهل النظام. كلّ فضيحة كانت كافيةً لإسقاط حكومة قائمة في بلد ديمقراطي. لكن تسلسل الفضائح في لبنان جعل كلّ فضيحة جديدة تمحو سابقاتها من وعي الجماهير. أصبحتالفضائح، في الحياة السياسية اللبنانية، أحداثاً عابرة، لا تغيّر ولا تبدّل في واقع الحال. عندما ينفجر الاحتقان السياسي والاقتصادي، ويتحوّل في معظم الأحيان إلى حروبٍ مسلّحة بينقبائلتتناتش السلطة والمنافع، تقوم القوى الإقليمية والدولية بإطفاء الحرائق وإعادة إنهاض النظام، بكلّ مقوّماته ورموزه.

بعد كلّ حربٍ أهلية، كان أهل النظام يتوافقون على إصدار عفوٍ عام يمسح كلّ جرائمهم الأمنية والسياسية والاقتصادية التي ارتُكبت ما قبل الانفجار وإبانه. حتى عندما اجتاحت القوات الصهيونية والأميركية أرض لبنان عام 1982، واحتلّت بيروت، من دون أن يطلق أهل النظام طلقةً واحدة في وجه الاجتياح المدمّر، لم يحاسَب أحد، حتى من المتورّطين مع الاحتلال، على خيانته العظمى. وما زالت مياه لبنان وأجواؤه مسرحاً لبحرية العدو وطائراته الحربية.

تزاحمت الفضائح في لبنان ما بعدالطائف، على المستويات الاجتماعية الاقتصادية، المالية والنقدية، كما لم يحدث ربما في أيّ بلدٍ آخر في العالم. لكن هذه الفضائح لم تستطع هزّ النظام وأهله، بل حوّلت لبنان تدريجياً إلى دولة قمعٍ بوليسي. بقي لبنان من دون موازنة عامة طيلة 11 عاماً، أيّ أنّ جباية المال العام وإنفاقه كانا يتمّان خارج القانون، ولم يحاسَب أحد على ذلك. “تبخّرمبلغ 12 مليار دولار من حساب وزارة المال؛ لم يحاسَب أحد على ذلك. نُهِبت عشرات مليارات الدولارات من المال العام، لمصلحة المصارف، عبر فرض فوائد حقيقيّة فاحشة، جفّفت تمويل قطاعات الاقتصاد المنتج؛ ولم يُحاسَب أحد. هُدِر أكثر من 70 مليار دولار على قطاع الكهرباء، من دون تقليص مدة انقطاع التيار. “تبرّعحاكم مصرف لبنان للمصارف التجارية، عبر سياساتالهندسة المالية، بأكثر من 15 مليار دولار، وما زالالحاكميصيح مِن على مصرف لبنان.

ليس من دولة في العالم لا تملك سياسات اقتصادية قطاعية وسياسات نقدية ومالية واجتماعية سوى لبنان، الذي ما زال يقبع في عصر المركنتيلية، بأفكارهالشيحية” (نسبةً لميشال شيحا)، يؤمن بـاليد الخفيةالسحرية القادرة على تسيير الاقتصاد من دون تخطيط، ومن دون إحصاءات، ومن دون رقابة ومحاسبة. أوصلت هذه اللاسياسة لبنان إلى مأزقه الراهن الشامل، والذي ما زال ينزلق فيه إلى هوة من دون قعر. هبط الناتج المحلي بما لا يقلّ عن 40% في أقلّ من عام، وارتفعت معدلات البطالة بين الشباب إلى أكثر من 70%، وسقط أكثر من 60% من اللبنانيين إلى ما دون خط الفقر. علا صراخ اللبنانيين ألماً، وطلباً لضرورات الحياة والعيش الكريم. نجح أهل النظام في سحق الحراك الشعبي العارم، بوحشيّة متناهية، بواسطة أجهزة القمع الرسميّ وبعض ميليشيات أهل النظام. ويعمل أهل السلطة الآن على إعادة النظام القائم إلى ما كان عليه، من دون أي تغيير.

يتصرّف أهل النظام اليوم وكأن لا شعب في هذا البلد؛ لا صراخ ولا أنين، ولا مطالب ولا نضال في وجه سلطتهم. يأخذ أهل النظام وقتهم، وهم متضامنون متساندون، كطبقةٍ عصيةٍ على السقوط، يختلفون على الحصص والوسائل، ويتفقون على الغاية: إعادة إحياء النظام نفسه. “حزب المالـ المؤلف من جمعيّة المصارف، التي اشترت منذ زمن بعيد معظم أعضاء مجلس النواب، ومصرف لبنان ـ يهدف إلى انتشال النظام من أزمته عبر مصادرة المال العام، مدّخرات الأجيال السابقة، وتحميل الأجيال الآتية وزر نهبهم. يرفضونالتدقيق الجنائي، ويوافقون على سياسةالتقشّفوالانكماش الاقتصاديّ، التي تفاقم معاناة أهل لبنان. أما حزب صندوق النقد الدولي، بالإضافة إلى ماكرون، فيدعو إلىمصالحة عامةبين أهل النظام، وتقليل منسوب الفساد، ومحاسبة البعض فقط على جرائمه. لكن البرنامجين المذكورين لا يلتفتان كثيراً إلى حقيقة الأزمة البنيوية للنظام ولعمق معاناة الجماهير، لوضع سياساتٍ تعالج الفقر والبطالة واللامساواة والإنكشاف الأمني للبنان وأهله.

يدفع أهل النظام دائماً، وبنجاح، النقاش حول الحلول للأزمات إلى زواريب ضيقة مقفلة، ليتجاوز النقاش طبيعة الأزمة الشاملة للنظام، أزمة طبقةٍ حاكمة فقدت دورها التاريخي منذ أكثر من نصف قرن؛ نظام طواه الزمن وتجاوزه التاريخ، فأصبح عصياً على الإصلاح، ولا بدّ من العمل على إسقاطه، وليس إعادة إحيائه، ليعيد مسيرة التخلّف والفقر والبطالة والظلم والاستبداد.

*مفكر اقتصاديّ.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى