أولى

جنرالات المقاومة «معارك بين الحروب»
من شرق أفغانستان حتى شرق المتوسط

 محمد صادق الحسيني

يقول الجنرال والمنظر العسكري الالماني الشهير، كارل فون كلاوسفيتز (Carl Von Clausewitz)، المولود

بتاريخ 1/7/1780 والمتوفى بتاريخ 16/1/1831، في الفصل الثالث عشر من كتابه الأكثر أهمية «حول الحرب» (Vom Kriege)، وهو الذي توفى، قبل أن يكمله، والذي يحمل عنوان: الاحتياط الاستراتيجي، ما يلي:

«لقد لاحظنا انّ النجاح في جزء من المعركة، أو في معركة تكتيكية، او معركة جزئية، هو نجاح، بحدّ ذاته، لا قيمة له، وإنما تبرز، او تظهر قيمته بعد حسم المعركة الشاملة (المواجهة الشاملة او النهائية او الاستراتيجية)».

وهذا يعني انّ ما يسمّيه المحور الصهيوأميركي «المعركة بين الحروب» والمتمثلة في الاعتداءات الجوية الإسرائيلية والأميركية، على قوات حلف المقاومة، في سورية والعراق وإيران واليمن وفلسطين ولبنان أيضاً (اختراق المجال الجوي اللبناني ومياه لبنان الإقليمية بشكل يومي)، الى جانب الاغتيالات الإجراميّة لقادة وعلماء حلف المقاومة في بغداد وطهران، لا قيمة لها على الإطلاق، إذا لم تتكلل بنجاح دول العدوان، في دخول معركة نهائية وشاملة، ضدّ قوات حلف المقاومة، والانتصار فيها وإخضاع حلف المقاومة، دولاً وتنظيمات، لإرادة دول العدوان السياسية، وفرض شروطها عليها، وبالتالي فرض هيمنتها الشاملة على مسرح المواجهة الحالي، الممتدّ من شرق أفغانستان حتى شرق المتوسط. إذ إنّ ما يُسمّى بالمعارك التكتيكية، او المعارك بين الحروب، تصبح ذات قيمة، فقط عندما تصبح جزءاً من نصر ناجز وواضح ونهائي واستراتيجي للعدو.

ولكن نظرة فاحصة لموازين القوى الحاليّة، بين طرفي هذه المواجهة الاستراتيجية، بين حلف المقاومة ودول العدوان الصهيوأميركي، لا توحي إطلاقاً بان هذا المحور المعادي هو المنتصر في المعركة الشاملة او الحرب، رغم تفوّقه الهائل في مجال التسلح والتكنولوجيا، وذلك لأنّ هذا التفوّق في حجم القوة النارية، التي يمكنه إطلاقها لمهاجمة قوات المقاومة وحاضنتها الشعبية، ينقصه الكثير من العناصر الهامة، كي يعطي نتائج تحسم المعركة النهائية لصالح هذا المحور. والتي من بين أهمّ عناصرها:

أ ـ جهوزية القوات البرية، سواءٌ الأميركية او الإسرائيلية، وكفاءتها واستعدادها لخوض المعركة، خاصة أنّ القوات البرية هي التي تحسم أيّ معركة، وذلك من خلال تقدّمها داخل أراضي العدو، وهي أراضي قوات حلف المقاومة في هذه الحالة، واحتلالها والتثبّت داخلها. فهل الجيش الأميركي والجيش الإسرائيلي جاهزان لتنفيذ هذه المهمة؟ تقارير الجهات العسكرية الأميركية و»الإسرائيلية» تؤكد عكس ذلك.

ب ـ محدودية فاعلية التفوّق العسكري. وهذا يعني أنّ المحور الصهيوأميركي، ورغم تفوّقه التسليحي، إلا أنه غير قادر على الاستخدام المطلق لهذا التفوّق، بمعنى استخدام أسلحة غير تقليدية، لفرض الهزيمة على قوات حلف المقاومة أو منع هزيمة قواته، في المواجهة الشاملة والنهائية، التي ستحسم نتائج المواجهة الشاملة والمستمرة منذ عقود.

ج ـ كما أنّ الإرادة القتالية والحالة المعنوية لدى قوات وجماهير المقاومة، هي في أوْج ارتفاعها، بينما لا تتوفر هذه الحالة لدى قوات وجمهور محور العدوان. إضافةً الى انّ جبهة حلف المقاومة الداخليّة أعلى قدرة، بما لا يقاس، على التحمّل من جبهة العدو الداخلية، خاصة الجبهة الداخلية الإسرائيلية. وهو الأمر الذي تؤكده كافة الدراسات والتقارير الإسرائيلية المتخصصة، بدءاً بتقرير الجنرال الإسرائيلي إسحق بريك، الصادر منذ عامين، وصولاً الى تقرير «مركز أبحاث الأمن القومي الإسرائيلي»، الصادر قبل يومين.

د ـ المتغيّرات الدولية والإقليمية، التي نشهدها حالياً، والتي تمثل تغيّرات استراتيجية في قدرات ودور القوى الدولية والإقليمية المختلفة، الفاعلة في ميدان المواجهة المشار اليه أعلاه.

فها هو السبب الاستراتيجي لوجود القواعد والقوات الأميركية في «الشرق الاوسط»، ونعني به مادة النفط، قد فقد قيمته كلياً تقريباً، الأمر الذي يعني فقدان المبرّر لوجود أية قوات أميركيّة في هذه المنطقة، وبالتالي فقدان الدول الوظيفية، وعلى رأسها «إسرائيل»، لقيمتها الاستراتيجية بالنسبة للولايات المتحدة الأميركية. وهذا يعني انّ الولايات المتحدة لن تكون مستعدة للدخول في حرب مدمّرة، تحمل في داخلها خطر تحوّلها الى حرب عالمية، بسبب «إسرائيل».

هـ ـ وهذا ما يعيدنا الى نظرية الفيلسوف العسكري الالماني، الجنرال فون كلاوسڤيتز، التي يقول فيها انّ جميع المعارك التكتيكية لا قيمة لها اذا لم تجد تتويجاً في تحقيق النصر في المواجهة النهائية.

وهنا يبرز السؤال الأساسي: هل المواجهة الشاملة والنهائية للولايات المتحدة ستكون في «الشرق الاوسط» ام في مكان آخر؟

وهل ستكون هذه المواجهة عسكرية أم أنها ستأخذ شكلاً آخر، اقتصادياً وتكنولوجياً ومعرفياً وعلمياً عميقاً؟

وماذا يقول القادة العسكريون والأمنيون الأميركيون عن التحديات المستقبلية، التي تواجه الولايات المتحدة الأميركية؟ ألا يقولون إنّ أكبر هذه التحديات هي الصين الشعبية وتطورها الاقتصادي الهائل الذي يحبس الأنفاس؟ أليسوا هم مَن يواصلون حشودهم العسكرية الضخمة، في بحار الصين والمحيطين الهندي والهادئ، في محاولة يائسة منهم لمنع زوال هيمنتهم على العالم؟

إذنهذا هو منطق تطور ومخرجات الصراع الدولي والإقليمي، المحتملة، والذي يعزز انعدام قيمة معاركهم بين الحروب، لأنّ هذه المعارك لا تصبّ في خانة حسم الصراع الأميركي الصيني لمصلحة الولايات المتحدة الأميركية. وبما انّ المعركة الاستراتيجية، للولايات المتحدة، هي تلك التي نشهد فصولها بينها وبين الصين الشعبية، بأشكال متعدّدة. وهذا يعني أنّ تجنّب دخول أيّ حرب أميركية، ضدّ محور المقاومة وعلى رأسه إيران، هو أمر يَخدم المصالح القومية الأميركية العليا، وهو ما يعلمه جنرالات البنتاغون، الذين درسوا نظريات الفيلسوف العسكري الألماني، المذكور أعلاه بالتأكيد. وليس رفضهم لمخططات نتن ياهو وترامب لتوجيه ضربات عسكرية ضدّ إيران ليس إلا دليلاً اضافياً على فهمهم لهذا الأمر.

كذلك، يجب القول إنّ جنرالات حلف المقاومة، وعلى رأسهم جنرالات الحجارة الفلسطينيون، الذين دمجوا تكنولوجيا الصواريخ الإيرانية، منذ عقد ونصف العقد من الزمن، والتي زوّدهم بها الجنرال الشهيد قاسم سليماني،

والقائد الكبير الحاج عماد مغنية مع سلاحهم الاستراتيجي،

الذي لا ينضب ولا يخيب: حجارة فلسطين.

نقول إنّ هؤلاء الجنرالات، الذين يديرون مراحل المعركة الاستراتيجية، ضدّ محور العدوان الصهيوأميركي، منذ عقود، انهم أيضاً قد أبدعوا، في إدارتهم لميادين القتال، كما أنهم وحسب تقديرنا وقراءتنا لإنجازاتهم، قد طبّقوا إحدى أهمّ قواعد الحرب، التي وضعها الجنرال فون كلاوسڤيتز في كتابه المُشار إليه اعلاه، والتي وردت في القسم السادس من كتابه تحت عنوان: الدفاع والهجوم (Angriff und Verteidigung)، والتي نصّت على: انّ الدفاع هو أسلوب القتال المتفوق، ذلك لأنّ هذا الأسلوب يحافظ على القدرات العسكرية الذاتية، شرط أن يكون دفاعاً مرناً، يبادر الى شنّ الهجمات التكتيكية، وبالتالي يحافظ على وضعية الدفاع الاستراتيجي، وهو المبدأ الذي طبّقه أيضاً الجنرال الأميركي، روبرت لي Robert E. Lee، إبان الحرب الأهلية الأميركية، 1861-1865، عندما أصبح قائداً لجيش ولاية فيرجينيا الأميركية.

ايّ انّ جنرالات حلف المقاومة يطبّقون مبدأ الدفاع الإيجابي المرن، او الدفاع الهجومي، بشكل ناجح جداً، إذ إنهم خاضوا العديد من معارك الدفاع الهجومي هذه، خاصة في العقد الماضي، خلال معارك الدفاع عن العراق وسورية واليمن وفلسطين، ونجحوا في الحفاظ على إنجازاتهم وقدراتهم العسكرية والسياسية، من دون أن ينتقلوا الى مرحلة تنفيذ المشهد الأخير، من الهجوم الاستراتيجي الشامل لتحرير فلسطين، بانتظار أن ينجزوا استعداداتهم النهائية لذلك، وعلى كافة الصعد، اللازمة لضمان انتصار قوات حلف المقاومة في المواجهة الأخيرة.

وهذا يعني أنّ المقاومة قد نجحت، تماماً كما تنص قواعد الدفاع الإيجابي للمفكر العسكري الألماني، في الحفاظ على المنجزات الميدانية، العسكرية منها والسياسية، والاستمرار في ذلك حتى تتآكل قدرات العدو، على الصعيد الاستراتيجي، وتصبح قدرات المقاومة في أعلى درجات قوّتها وجهوزيتها للدخول في المواجهة النهائية وتحقيق النصر الكامل على العدو.

من هنا فإنّ قدرة الردع وقواعد الاشتباك الجديدة، التي ثبّتها حلف المقاومة على مدى العقد الماضي، هي عامل غايةً في الأهمية، يجب الحفاظ عليها والبناء عليها وليس الوقوع في مصائد العدو، التي تهدف الى استدراج قوات المقاومة إلى حرب هم يريدون تحديد زمانها ومكانها.

إنّ فهم هذا المبدأ هو بالتأكيد القاعدة التي تنطلق منها القيادة الإيرانية العليا في معالجة جرائم الحلف الصهيوأميركي وأذنابه من أعراب الجزيرة العربية، سواء في العدوان على اليمن، او في اغتيال الشهيدين سليماني وأبو مهدي المهندس، بداية هذا العام، أو اغتيال العالم النووي الإيراني فخري زاده قبل أيام.

إنه مبدأ الحفاظ على الإنجازات ومواصلة بناء القدرات وتنفيذ عمليات هجومية انتقامية، كردّ فعل على الاغتيالات، وكذلك عمليات هجومية تكتيكية، في اليمن وسورية والعراق وفلسطين ولبنان، شرط أن تكون مدروسة بشكل يخدم المعركة الاستراتيجية، أيّ شرط أن تصبح جزءاً من النصر الاستراتيجي، كي تظهر قيمتها الفعلية ولا تبقى محصورة في القيمة التكتيكية الآنية.

إنه الصبر الاستراتيجي، الذي يطبّقه حلف المقاومة بشكل عام وإيران بشكل خاص، وهو جزء من قوانين الحرب وقاعدة للخطط العسكرية الاستراتيجية، التي تحرص على حشد كلّ عناصر النصر الاستراتيجي، قبل الانتقال من مرحلة الدفاع الاستراتيجي الى مرحلة الهجوم الاستراتيجي، والتي ستنتهي بالتأكيد بتحرير فلسطين كاملة من نهرها الى بحرها وإنهاء وجود هذه القاعدة العسكرية الاستعمارية المقامة على أرض فلسطين وتفكيكها مرة واحدة والى الأبد.

بتنا أقرب إليه مما يتصوّر، ولا حرب مقبلة إلا ونحن من سيحسم نهايتها بإذن واحد أحد.

بعدنا طيّبين قولوا الله

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى