مرويات قومية

المحامي ومنفذ عام زحلة في الثلاثينات حديث صحافي مع الرفيق نظمي عزقول

 

عرفت الرفيق نظمي عزقول عندما كان يقطن في جوار مركز الحزب في منطقة فردان(1) كما عرفت شقيقه الدكتور كريم عزقول(2) وشقيقه الثالث الرفيق إميل(3). عنهم نشرت نبذات يمكن الإطلاع عليها عبر الدخول إلى شبكة المعلومات السورية القومي الاجتماعية www.ssnp.info

بتاريخ 02/08/2013 كنت نشرت نبذة عن الرفيق نظمي. مؤخراً، عثرت على ما كان ورد في العدد 472، تاريخ 2/3/1985 من مجلة «صباح الخير» تحت عنوان «لقاءات مع بعض الذين عرفوا أنطون سعادة».

إلى ما كنت أوردت في النبذة المُشار إليها أعلاه، أنقل ما جاء في عدد «صباح الخير» إغناءً للتعريف عن رفيق بقي مؤمناً وملتزماً(4) حتى آخر زفرة من حياته.

ل. ن.

*

نظمي عزقول: مواهبه تثبتانه زعيم في كل شيء

أول لقاء لي مع الزعيم كان في أواخر عام 1935 عند خروجه من الاعتقال الأوّل. يومها كنت منفّذاً عاماً لمنفذية زحلة، وجئتُ لتهنئته بإطلاق سراحه مع وفد من أبناء زحلة القوميين الذين دخلوا الحزب وهو في السجن، وكان بيته يومها قرب الجامعة الأميركية وكان هناك حشد كبير، وألقيت يومها خطاباً عن معنى النهضة الجديدة التي تجمع كلّ الشباب الواعي، ويومها لم نكن على قدر كبير من الوعي لمفهوم المبادئ القومية والأمّة، وكان الهدف الأكبر عندنا هو محاربتنا للأجانب، ولا سيّما أنني تخرّجت من معهد الحقوق في الشام حيث تكثر الحركات السياسية ضدّ الانتداب.

وبما أنّني منفذ عام، صرت أقابله كثيراً في المركز في بيروت، فنجتمع ونتحدث بمسائل حزبية؛ هذا عدا عن اللقاءات الخاصة والتي كانت تفتح لي باب التعرّف على شخصيّته عن كثب.

فقد زارنا عام 1936 في زحلة، وهناك بقي في بيتنا منجذبين جداً بطريقة حديثه وكلماته المعبّرة، ثم تعابيره الصادقة المرتسمة على وجهه الجميل.

«أنا تحت أوامر المنفذ العام»

في أواخر عام 1937، دُعي إلى حفلة في فندق قادري الكبير في زحلة بمناسبة عيد ميلاد غلوريا ابنة المغترب في سان باولو سليم نادر وزوجته، وقد نزل في بيتي، وأذكر أنّه فيما كنّا نستعدّ للسهرة رأيته يلبس الـ»سموكن» مع قميص أبيض، فلاحظت وكأنّه ليس له، كما أنّ القميص كانت مهترئة الأكمام، فتعجّبت لذلك ولفتت نظره إلى القميص وأعطيته واحدة أخرى بدلاً عنها، فتبسّم وأخذها شاكراً وقال: «لا قيمة عندي للثياب». ثمّ ذهبنا إلى الفندق يرافقنا خمس سيارات حرس للزعيم، وما أن وصلنا إلى الباحة الخارجية حتى صرخ أحد الرفقاء «الزعيم الزعيم»، وكان الفندق ساعتئذ يغصّ بالمدعوّين وبحلقات الرقص في الداخل والخارج، فتوقّف كلّ شيء فجأة، ومشى الزعيم وأنا بجانبه والرفيق فريد مبارك(5) وسط الصفوف التي شقت لنا طريقاً بينها، حيث استقبلنا آل نادر وجلسنا في المكان المُعدّ لنا، وأخذت كلّ الشخصيات الزحلية تتقدّم للسلام والتعرّف عليه، ودار الرقص دورته، وإذ بالزعيم عندما حضرت السيدة نادر لتراقصه يبدع في الرقص، حتى أنّه في إحدى رقصات الفالس بقي وحده مع السيدة نادر، فقد توقّف جميع الراقصين ليتفرّجوا على رقصته، وعندما لاحظت أنّ وجهه قد احمرّ قليلاً سألته إذا كان قد أكثر من الشرب، فأجابني بإصغاء: «هل تريد حضرة المنفذ العام أن أتوقّف عن الشرب والرقص؟». فأجبته: عفواً سيدي أنت السيد المطلق.

فأجابني: «لا، لا.. إنّ زيارتي هي خاصة، وأنا هنا تحت حماية المنفّذ العام وأوامره». وإن دلّ هذا على شيء، فعلى إطاعة الزعيم للقوانين والأنظمة الحزبية.

لا مجال للعواطف في الأمور الحزبية

وما زلت أذكر طرد الزعيم لفايز صايغ، الذي كان محبوباً جداً من القوميين وعميداً للثقافة، وقد فوجئت بالخبر فهرولت لمقابلة الزعيم في مكتب الحزب، ودخلت عليه دون استئذان سائلاً عن الموضوع، وإذ رآني منفعلاً هدّأ خاطري وأجلسني وأخذ يشرح لي أنّ سبب الطرد يعود لتتلمذ فايز بالفلسفة الفردية التي تتنافى مع الفلسفة الاجتماعية، وقد حاول إقناعه من دون جدوى، وأنّه قد وقّع على قرار الطرد بتأثّر شديد ورغم محبّته له، لأنّه لا مجال للعواطف في الأمور الحزبية.

ثمّ كان لسفري معه إلى بلاد «العلويين» ومكوثنا ثلاثة ايام، مجالاً رحباً لي للتعرّف على نواحي كثيرة في حياته ومنها الفروسية، ففي تلكلخ ركب على حصان وأخذ يقوم بألعاب فروسية جعلت فرسان الدنادشة(6) مذهولين تماماً. وهناك استقبله زعماء العلويين وأكرموه وأقاموا له الدعوات، خصوصاً بعد أن سمعوا خطابه الأول في صافيتا، الذي جمع عدّة آلاف من الناس. وأذكر أنّه أوفدني إلى طرطوس لتكريس عدّة منتمين جدد من زعماء المنطقة ومن آل كنج وسواهم، وقد ألقيت خطاباً يومذاك في (متن عرنوق) وكذلك عبدالله قبرصي.

وفي هذه الجولة عرفت الزعيم خطيباً ساحراً وأخلاقياً وبطلاً وصاحب صوت جميل، فعند عودتنا من رحلتنا، وكان ذلك بعد نصف الليل، وكنت معه في سيارة واحدة وضوء القمر ساحر، سمعته يغنّي بصوت حنون أغنية أعتقد أنها إسبانيولية، فصرخت من إعجابيطيب.. طيب.

وهذه المواهب تثبت أنّ الزعيم هو زعيم في كلّ شيء؛ الفروسية، الموسيقى، الغناء، الرقص والشرب، ممّا يؤكد أنّه ربّى نفسه تربية قاسية جداً فأتقن جميع الفنون والرياضة والسباحة كي يكون متفوّقاً في كل شيء.

وعند عودته من الاغتراب القسري عام 1947 كنت قد تركت زحلة وانتقلت إلى صيدا، وكنت أعمل في المحاماة، فزرته في ضهور الشوير. وبينما نحن جالسون، أتانا خبر أنّ الدرك قادمون لإلقاء القبض عليه، فنهضنا حالاً وركبنا في سيارتي وانتقلنا مع المسلحين الذين معه واختبأنا عند الرفقاء في المتين.

وأذكر أنني قلت يومها متذمّراً، ما الذي جاء بي اليوم.. فماذا أفعل وليس معي سلاح؟! فأجابني: «بعملك متراس وبرمي عليك». فأجبته: «أنا لا أخاف الرصاص، بل ألفت نظرك أنني ألبس الطقم الجديد لأول مرة، فأخاف أن يمزّقه الرصاص». وهذا يدلّ أنّه كان صاحب نكتة وهادئاً في كل الظروف. ثمّ زرته مرة أخرى في الضهور، أنا والرفيق المرحوم فؤاد أبي عجرم(7)، وذلك كي أستأذنه بترشيح نفسي في الجنوب. وبينما نحن ننتظر في غرفة الاستقبال، إذ بحافظ منذر(8)، يخرج من غرفة الزعيم وهو عابق الوجه، فدخلت إلى الغرفة، وقبل أن أسلّم عليه قال لي: «شو انتخابات كمان» (فقد كان يكره الأعمال السياسية)، فأجبته: «نعم». فسألني: «كم قومي عندنا في الجنوب؟».  قلت: «حوالى 300».

فأجابني: «بـ300 صوت بدّك تعمل نائب، فاسمع، ولا تتصرّف مثل حافظ منذر».

فقلت له: «يا حضرة الزعيم، أنا لا أتوخّى النجاح من ترشيح نفسي منفرداً للانتخابات في الجنوب وبين قائمتين، واحدة يترأّسها رياض الصلح وأخرى يترأّسها أحمد الأسعد، ولكن علاقاتي الشخصية بصفتي محامياً في المنطقة جميعها أسخّرها في سبيل مصلحة الحزب، وهذه مناسبة للحزب أن يتغلغل في كلّ أنحاء الجنوب، وإنّني أؤكد أنني سأحصل على الأقل على 3000 صوت.

وقد لاحظت عليه الإصغاء والانتباه لكلماتي، وأجابني فوراً «إنني أوافق على ترشيح نفسك، ولكن إذا لم تأخذ 3000 صوت فسأعاقبك». وذهبت من عنده وبدأت بالدعاية الانتخابية، وكان القوميون في الجنوب يتنقلون من قرية إلى قرية موزّعين الصور والمناشير، إلى أن جاءت عملية الاقتراع وكانت النتيجة أنني منفرداً حصلت على ثلاثة آلاف صوت، بينما نالت القائمة المؤلفة من 14 مرشح 14 ألف صوت، وفور حصولي على النتيجة رجعت إلى الزعيم فاستقبلني مهنّئاً بحرارة.

ويأتي حدث آخر ليعرّفني أكثر عليه عام 1947، والحدث هو الدعوة التي وجّهها إلى القوميين في كلّ أنحاء الأمّة بمناسبة 2 نوفمبر (وعد بلفور)، وكان الاجتماع محدداً في خان فخري بك، وكنّا ننتظر رفقاء الشام الذين وصلوا إلى الحدود وصدر قرار من حكومة رياض الصلح بمنعهم من الدخول، فخرج الزعيم يومها من غرفته، وبالرغم من عصبيّته الظاهرة، خطب في القوميين بكلّ تهذيب وبدون أيّة كلمة نابية ضدّ أحد، وممّا قاله يومها إنّ قرار الحكومة صدر ظلماً بمنع الاحتجاج على وعد بلفور، وسنرضخ للقرار بإلغاء الاجتماع وسنجابه هذه الأساليب الظالمة بأساليب قومية ديمقراطية تتجسّد فيها إرادة الأمة.

لقد كان يشدّد أنّ القومي لا يكذب، لا يخاف، ولا يسرق. لقد أسّس مدرسة اجتماعية أخلاقية لبناء المواطن الصالح الذي هو نواة الإنسان المجتمع، وكان يتحلّى بالتهذيب الرفيع واحترام الغير والإصغاء إلى كلّ ما يُقال أمامه، وكان يمتلك جاذبية ساحرة.

واليوم، وحتى بعد استشهاد سعاده، فصورته ما زالت منطبعة في ذهني وفي قلبي، وما زال هو مثلي الأعلى للإنسان المخلص صاحب العقيدة الذي بذل دمه في سبيل أمتي بكل إرادته الحرّة، وشاهدي على ذلك ما قاله لي أستاذي العلّامة فارس الخوري بعد اغتيال سعاده في بيروت، وكنت يومها هارباً من الشام وكان هوصديقاً لوالدي، فأخبرني أنّ الزعيم كان يزوره ويتناقش معه، وأنّه ليس من رأيه في ما يتعلّق بالقومية السورية ولكن هذا لا يمنع أن أنطون سعاده هو من الأشخاص الذين تمنحهم الحياة إلى مجتمعاتهم كلّ ألف سنة واحد.

وعندما سألته ما أنت بالنسبة له، قال لي: «أنا رجل سياسي كبير ولكنّني أخاف من السجن والموت، لكنّ سعاده ذهب إلى الموت باختياره، لأنني نبهته وقلت له فركها شي شهر لأن الجماعة ناويين عليك ليقتلوك، فأشار سعاده بيده(9) وقال: ما هم لن أهرب وأترك في السجون عشرات الألوف من القوميين، واضطهاد ظالم للحزب، لا، لا لن أهرب».

 

هوامش:

1 – كان يقطن في شارع فردان، بالقرب من الطريق المتوجه إلى مركز الحزب في زاروب العلية، والآخر المتوجّه نحو ساقية الجنزير، وكان كلّما زار مركز الحزب يمرّ ليراني.

2 – كريم عزقول أعرفه عبر عقيلته السيدة ايفا شقيقة السيدة منيرفا عقيلة الصديق متري برباري، وكانا يقطنان إلى جوار بيت أهلي في المصيطبة.

3 – إميل عزقول عرفته في البرازيل، وكان كلّما زار بيروت يتّصل بي لنلتقي. مراجعة النبذة عنه على موقع شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية www.ssnp.info

4 – استمر يزور مركز الحزب في الروشة، ويترد للقاء المسؤولين المركزيين.

5 – فريد مبارك: مراجعة النبذة عنه على الموقع المُشار إليه آنفاً.

6 – عائلة دندشي المعروفة في مدينة تلكلخ، وقد عرفت منهم الرفيق أكرم (عقيلته الرفيقة ميمنة، والد الرفيقتين سمر وسحر)، الرفيق عبدالله دندشي وعقيلته الرفيقة شراخب وعرفت أيضاً شقيقها الرفيق  نواف وابنه الرفيق تمام.

7 – فؤاد أبو عجرم: مراجعة النبذة عنه على الموقع المُشار إليه آنفاً.

8 – حافظ المنذر والده النائب والمحامي إبراهيم المنذر، اقترن من الأمينة جمال ناصيف. من بلدة المحيدثة بكفيا. كتبت عنه وعن عقيلته الأمينة جمال مراجعة الموقع المذكور آنفاً.     

9 – في أكثر من مكان اشرنا الى ان سعادة كان يضرب اصبعاً باصبع ويقول: «حياتي ما بتساوي اكثر من هذه التكة»

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى