مقالات وآراء

الشيخ ناصر الكويتي
و«المشعل» الإيراني

} د. عباس خامه يار*

رحل الشيخ ناصر صباح الأحمد يوم أمس عن الدنيا بعد صراعٍ طويل مع المرض وعن عمرٍ يناهز ال72.

هو النجل الأكبر لأمير الكويت الذي رحل هو الآخر حديثاً.

الشیخ ناصر، إنسانٌ يهوى الثقافة، يجذبُه التاريخ ویعشق الفن، ورغم مسؤولياته الرسمية في الماضي مثل النائب الأول لرئيس مجلس الوزراء، وزير الدفاع والأهمّ من كلّ ذلك، لمساته المهمة والكبیرة في مشروع 2035 لتنمية البلاد واقتصادها، إلا أنه كان ينأى بنفسه عن السياسة. اهتمامه الاستثنائي بالإرث الثقافي والآثار التاريخية في المنطقة والعالم، دفعه ليؤسّس مع زوجته المثقفة الشيخة حصة صباح السالم الصباح، مركزاً ثقافياً مهماً ومؤثراً ومتحفاً سُمّي بـ «دار الآثار الإسلامية» في الكويت.

هذا المتحف هو المبنى المرمّم لأول مستشفى للرهبان المسيحيين الأميركيين المبعوثين إلى الكويت الذين جاؤوا للتبشير بالمسيحية بين المواطنين الفقراء في المنطقة، بلباسِ الخدمات الطبية العلاجية، وذلك قبل اكتشاف النفط؛ وهو السلوك الذي اعتمدته الكنيسة للتبليغ بدينها وتقاليدها في سائر دول المنطقة.

هذا المبنى التاريخي، تمّت إعادة بنائه وبقيَ على اسمه السابق «المستشفى الأميركاني»، وتحوّل على يد الشيخ ناصر وزوجته إلى أحد المراكز الثقافية المهمة والمؤثرة في البلاد تحت رعاية هذين الزوجين المحبّين للفن.

لقد كانت لي علاقةٌ طيبة وصداقة مع هذه الأسرة، وكانت الشيخة حصّة تكنُّ لي احتراماً كبيراً وكانت تعتبرني مندوباً ثقافياً حقيقياً ونموذجياً لإيران الحضارة والتاريخ.

لقد كانا يذكرانِ إيران الثقافة والاقتدار بالخير دائماً، وخلال فترة مأموريتي في الكويت لأربع سنوات، لم يوفرا فرصةً لتقديم العون والدعم اللازمين للتعريف بثقافة إيران، فنها، معمارها وحضارتها، ولطالما قاما باستضافة شخصيات بلادنا الثقافية من مثقفين، جامعيين وفنانين بارزين، بكرمٍ واحتضانٍ كبيرين، بل كانا المروّج والحامل لمعارف هؤلاء وفنونهم العليا الفاخرة.

خاطبتني الشيخة حصة في أحد الأيام قائلةً: «بلادُكم أرضُ حضارةٍ وثقافةٍ تعود إلى 5 آلاف عام. أعتقدُ بأنّ حضور الأخصائيين والفنانين الإيرانيين في فعاليات دار الآثار الإسلامية المختلفة، من شأنه إغناء هذا المركز ورفع مستواه، حتى أنّ المخاطبين الأجانب والعرب يبدون إعجاباً كبيراً واهتماماً بالثقافة والحضارة الإيرانية وهو عملٌ ينجزُ الآن عندنا بفضلكَ وهمّتِك».

أحد أهمّ أنشطة المرحوم الشيخ ناصر وأكثرها حضوراً في الذاكرة، سعيه الدؤوب وزوجته لإقامة سلسلة المهرجانات الثقافية بعنوان «روائع الشرق القديم» ومؤتمر الحضارة عند أربعة بلدانٍ حضاريةٍ كبرى أي إيران والعراق واليونان وأفغانستان بتاريخ الأول من أبريل وافتتاح أربعة معارض ملحقة بالمؤتمر في الثاني من أبريل 2014.

تمّ نقل ثلاثى آثار تاريخية كبرى تعود لما قبل الإسلام، من اليونان وأفغانستان والعراق وإيران إلى الكويت.

بعد التنسيق اللازم مع المتحف الوطني الإيراني ودار الآثار الإسلامية في الكويت، وبعد التوقيع على تعهّد قانوني، وبعد إجراء اتصالاتٍ واسعة، وضمن آليةٍ قانونية معقدة وبتوقيع رئيس الجمهورية شخصياً، تمكّنتُ من إخراج «مشعلٍ» تاريخيٍّ من البلاد وذلك تحديداً في ليلة عيد النيروز وبشكلِ أمانةٍ لمدة شهر فقط.

في تلك الأيام لم تبدِ أيُّ شركةٍ أجنبيةٍ استعداداً لتأمين هذا الأثر النفيس؛ سواءً بسبب العقوبات أم بسبب أهمية الأثر وقيمته الباهظة. بعد البحث والمفاوضات الواسعة، لم تقبل أيٌّ من شركات التأمين العالمية بأن تغامر. لكن بجهود الشيخ ناصر الكبرى، ومساعي زوجته الحثيثة، وافقت دولة الكويت على تأمين ضمانة 50 مليون دولار لحكومة الجمهورية الإسلامية الإيرانية مقابل انتقال الأثر، ثم أرسلت مندوباً يحمل أوراق التأمين الرسمي المكتوب، واستلمت بعدها الأثر ضمن مراسم رسمية خاصة، ورفعت عنه الستار ووعرضته لمدة شهرٍ كامل ضمن مراسم افتتاحيةٍ بحضور نخبةٍ من 50 خبيراً مختصاً بالآثار التاريخية، ووزير الثقافة والإرشاد الإسلامي لبلادنا في ذلك الوقت، في معرضٍ بعنوان «روائع الشرق القدیم».

المشعل الذي كان من آثار بلادنا التاريخية وأكثرها قدماً حيث تعود إلى العصر الإيلامي الحديث (الألفية الأولى قبل الميلاد)، تمّ استقباله من قبل الرواد بشكلٍ واسع قلّ نظيره، ولفت أنظار المهتمين وعلماء الآثار المدعوين من كافة أنحاء العالم.

السيد فائق توحيدي عالم الآثار الإيراني الشهير ومكتشف هذا الأثر، ومحمدبور رئيس المتحف الوطني الإيراني، كانا مشاركين في مراسم افتتاحية هذا المعرض والمؤتمر الذي استمر يومين. في المعرض، كانت للسيد توحيدي كلمةٌ حول حضارة بلادنا، أوضح فيها أهمية وكيفية التنقيب عن هذا الأثر في مدينة بهبهان.

افتُتحَ معرض «روائع الشرق القدیم»، ضمن مراسم جليلة تحت إشراف أمير الكويت في دار الآثار الإسلامية بحضور وزراء الثقافة وجمعٍ من السفراء والديبلوماسيين المقيمين والشخصيات الثقافية البارزة في الكويت وعلماء الآثار، المؤرخين والعلماء الأجانب.

عظمة تجلي الأثر الإيراني ترافقت مع التغطية الإعلامية الواسعة وقد اعتبر الزائرون بعد رؤية الأثر أن ثقافة إيران وحضارتها القديمة هي حضارةٌ كبرى، عظيمة، متجذرة وهي أساس العديد من حضارات العالم. وضمن ذلك، كان الأثر التاريخى المرسل الأفضل بين الآثار التاريخية وأكثرها جاذبيةً للجميع.

الشيخ ناصر الذي كان متأثراً بوضوح، معتبراً بأن هذا الحدث من إنجازاته التي يفخر بها، خاطبني بينما كان يستقبل وزير الثقافة والإرشاد الإسلامي في بلادنا قائلاً: «يعجزُ لسانُنا عن الشكر».

سارعت وسائل الإعلام والقنوات التلفزيونية والنخب لتغطية هذا الحدث الثقافي الكبير واستطعتُ أن أُظهِرَ للملَأ عظمة بلادي في تلك الأجواء الضبابية.

وما هذا إلا النذر اليسير من فيض ما تركه الشيخ ناصر.

رحمة الله عليه

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى