مقالات وآراء

الأمين مسعد حجل عاش مخلصاً ومات وهو على إخلاصه والمخلصون لقضية عظمى دائماً حاضرون بعظمة إخلاصهم

} يوسف المسمار ـ البرازيل

تعود بي الذكرى بمناسبة رحيل حضرة الأمين مسعد حجل الجزيل الاحترام والتقدير الى ستينات القرن الماضي يوم التقيته لأول مرة قبل أن يصير رئيساً للحزب السوري القومي الاجتماعي بعد زيارته لبنان مع عائلته في تلك الفترة العصيبة التي مرّت على الحزب والتي كان لها تأثيرها في كثيرين من أمناء الحزب وأعضائه، بحيث كانت البيوت التي تستقبل الطلاب للحلقات التثقيفية الإذاعية لا تصل الى عدد اصابع اليد الواحدة في ظلّ إرهاب العهد الأسود الشهابي الذي حوّل لبنان الى أشرّ سجن تكفيري لم تشهده الإنسانية حتى في عهود ظلمة الهمجية يوم وزعت السلطة الشهابية على بعثاتها الدبلوماسية في الخارج وألصقت على جدران بيوت اللبنانيين وفي جميع الشوارع والأزقة تعميمها التضليلي المسموم الذي يقول: «من آمن بالمسيحية فهو كافر، ومن آمن بالإسلام فهو أكفر، ومن آمن بلبنان فليس منا، ديننا الحزب القومي السوري «مدّعيةً نفاقاً وبهتاناً انّ هذا البيان وجد بين أوراق رئيس الحزب الأمين الدكتور عبدالله سعادة، وذلك من أجل ضخ الكراهية والحقد ضدّ عقيدة الحزب وأعضائه في قلوب أبناء لبنان صغاراً وكباراً، نساء ورجالاً في جميع طوائفهم حتى يتخلصوا من عقيدة الحزب الجامعة لكلّ ما في العقائد والمذاهب من حق وخير وجمال بالتخلص من رجال الحزب ونسائه ويتهمونهم بكل فرية كذباً ونفاقاً.

وبعد فترة وجيزة من وصول الأمين مسعد حجل الى لبنان قال لي الرفيق الراحل (الأمين لاحقاً) جمال فاخوري: «هيّئ نفسك يا رفيق يوسف لحلقة إذاعية لمجموعة من الطلبة في بيت الأمين مسعد». فسألته من هو الأمين مسعد لأنني لم أكن أعرفه أو أعرف شيئاً عنه؟ «أجاب: «الأمين مسعد حجل هو أمين مغترب في أفريقيا ومن تلامذة سعاده الأوائل الذين انتموا الى الحزب ومن المضحين الكبار في سبيل العقيدة والحزب». قلت له: هل يعرف اسم المذيع؟ قال نعم يعرف وأعتقد أنّ الأمين أسد الأشقر هو الذي أعطاه اسمك وحدّثه عن نشاطك وهو الذي طلب ان تكون الحلقة في بيته في جل الديب او انطلياس لم أعد أذكر بالضبط».

كانت حلقاتنا التثقيفية الإذاعية في تلك الفترة محاضرات مدروسة يتمّ التحضير لها باهتمام كبير ومراجعتها والتدقيق فيها لكي لا يذهب كلامنا ومحاضراتنا بانتهائها أدراج الرياح وخاصة الحلقات التي نقدّمها بأسمائنا المستعارة الرفيق جوزيف بابلو وأنا.

ذهبت الى بيت الأمين مسعد في الموعد المحدّد فوجدت القاعة ممتلئة بمجموعة من الطلاب وكان الأمين مسعد ينتظر بشيء من عدم الصبر وصول المذيع الذي لا يعرفه شخصياً بل يعرف اسمه، فقال لي بعد ان حيّيته بالتحية السورية القومية الاجتماعية تفضل، قلت أنا من مكتب الطلبة. قال لي: أين الرفيق يوسف الجميع أصبحوا هنا، فقلت له أنا الرفيق يوسف يا حضرة الأمين. وأعتقد انّ صغر سني في تلك الأيام كان مفاجأة له وربما كان ينتظر رفيقاً أعمر مني وقبل ان يقدّمني دون ذكر اسمي دخلت معه الى داخل البيت وأحبّ ان يستوضح مني عن موضوع الحلقة وأعتقد أيضاً أنه كان يريد ان يتأكد من إمكانياتي لنجاح تلك الحلقة التثقيفية الإذاعية، فسألني عن موضوع الحلقة فأجبته أننا نادراً ما نلقي محاضرة بدون إعداد وتحضير حتى ولو كنا نلقيها ارتجالاً لكي لا نسيء الى العقيدة التي هي أمانة في أعناقنا، وعنوان المحاضرة اليوم هو: «الوعي قبل العقيدة، ودور العقيدة يأتي بعد الوعي»، وأضفت له بعد ذلك بلغتي الفصحى الواضحة: «إذا لم نتمكن من توعية المقبلين على الحزب توعية صحيحة يا حضرة الأمين فلن يكون فهمهم لها فهماً صحيحاً، ولن يكون إيمانهم بها إيماناً كاملاً ومطلقاً، ولن يكون صراعهم من أجل انتصارها صراعاً قوياً دائماً، ولن يتحقق النصر كما أراد زعيمنا».

ابتسم الأمين مسعد بعد الذي قلته أمامه وقال تحيا سورية تفضل رفيقي الجميع بانتظارك.

وابتدأت المحاضرة في بيت الأمين الذي غادرنا بالأمس جسداً وبقي حاضراً مواقف وأعمالاً ومنجزات وتضحيات في حزبنا العظيم، حزب القضية العظمى المقدسة لنا.

استهليت المحاضرة الإذاعية بما قلته له عن أهمية الوعي والتوعية في مدرستنا القومية الاجتماعية الذي بدونه لا انتصار لأيّ عقيدة حتى ولو هبط بها الملائكة من السماء، ويكفي ان نهتدي بما ورد في المحاضرة الأولى لسعادة في 7 كانون الثاني 1948 حين قال: «فالمعرفة والفهم هما الضرورة الأساسية الأولى للعمل الذي نسعى الى تحقيقه». الوعي والتوعية إذن هما قبل العقيدة، والعقيدة تأتي بعد التوعية. والعقيدة مهما كانت بديعة وصحيحة وصالحة لا تنتصر بدون وعي، ولا ينتصر بها إلا الواعون، ومخطئ من يعتقد انّ العقيدة الصالحة تنتصر بالجهل والجهلاء. لذلك نحن نتوجّه في مدرستنا مدرسة الحياة الجديدة الى عقول وقلوب وضمائر بنات وأبناء الحياة بالتوعية المحيية وليس بالتجهيل المخدّر للعقول والقلوب والضمائر، ليكونوا جديرين بتحقيق العقيدة التي ترفعهم وترفع الأمة الى المكان الأرفع بين الأمم.

وبتخرّج الجماعة الواعية النظامية المدركة أهمية قضية نهضة الأمة، والمؤمنة بها، والعاملة لانتصارها وتحقيق حياة أفضل للأمة، يصبح النصر على الطريق القويم ولا يحتاج الا الى الوقت الضروري للتحقيق. فإذا لم نخرج من عالم الظلمة الى عالم النور، ومن حياة الغموض إلى حياة الوضوح، ومن التخاذل الى القيام بالواجب وتحمّل المسؤولية فلن تتمكن تعاليم العقيدة الواردة في كتاب التعاليم تلقائياً من تحقيق أيّ انتصار مهما كانت صحيحة. والوعي الذي تربّي مدرسة الحياة السورية القومية الاجتماعية جيلنا عليه هو إيقاظ الوجدان الاجتماعي في الفرد وإيقاظ الذات القومية الاجتماعية في الأمة، ومكانتها بين الأمم، ومحلها في سير التطور الحضاري الأخلاقي وهذا هو الوعي السليم الضروري الذي يحتاجه الفرد وتحتاجه الأمة ويكون حاصله الحضاري العظيم على جميع الأمم، فتُفهم على ضوء هذا الوعي العقيدة القومية الاجتماعية على حقيقتها لخير جميع أفراد المجتمع وأجياله، وخير جميع الأمم وأجيالها، وخير العالم وحقه وجماله في حياة أفضل، وقيم أرقى، وفضائل أوضح إنسانية وأسمى.

انّ الأمة السورية قبل أن تكون بحاجة الى عقيدة قومية اجتماعية، ونظام قومي اجتماعي هي بحاجة أولاً الى سوريات وسوريين واعين مناقبيين قوميين اجتماعيين يدركون أهمية عقيدة النهضة، وقيمة الوجدان القومي الاجتماعي، وضرورة العمل بنظام أخلاقي قومي اجتماعي، وعقلية منفتحة على كلّ خير، وإيمان قوي لا يتزعزع حتى يحفظوا العقيدة ويحفظوا النظام ويحققوا للحزب والأمة النصر والمجد.

استمرت المحاضرة أكثر من ساعة وكان الجميع يصغون باهتمام الى نهايتها وكان من عادتي بعد نهاية كلّ حلقة تثقيفية ان أطلب من الحضور التعليق على أدائي وطريقتي في الشرح والطلب من الجميع «أن يبدوا آراءهم وانتقاداتهم وتعليقاتهم مهما كانت قاسية دون خجل لأننا نريد من المقبلين على الرسالة القومية الاجتماعية أن لا يكتفوا بما نعرف وبعملنا التوعوي بل أن يعرفوا أكثر مما نعرف ويعملوا على توعية غيرهم من بنات وأبناء الأمة بشكل أجود وأفعل وأفضل لكي تتجنب حركة النهضة أيّ خطأ أو تقصير في الحلقات القادمة. والنقد المسؤول أو التعليق الهادف للأصلح هو ما نحتاجه لأنه محرك ديناميكي لعقول وهمم المسؤولين عن التثقيف والإذاعة ليكونوا أكثر معرفة وأعمق وعياً، وأبعد استشرافاً.

وكانت مفاجأة لي أن قامت إحدى الطالبات وهي ابنة الأمين مسعد حجل سوسن بتعليقها على محاضرتي قائلة: «الحقيقة يا حضرة الرفيق أنني لم أفهم كلّ ما ورد في محاضرتك وأقول بصراحة إنني لم أفهم وأستوعب أكثر من خمسين في المئة مما سمعت. أما كلّ الذي فهمته واستوعبته فقد كان جميلاً ومفيداً».

وقبل أن أسألها عن الذي استوعبته من أفكار المحاضرة تدخل الأمين مسعد حجل وزوجته الأمينة ناديا ليشرح سبب عدم استيعابها لكلّ ما ورد في المحاضرة قائلاً: «لقد كانت المحاضرة بالفعل من المحاضرات التي يجب تعميمها على كلّ حلقات الطلبة وحتى على الرفقاء القوميين الاجتماعيين لأنها مفيدة جداً، والوعي القومي الاجتماعي الذي عنيته هو أساسي وضروري في الحركة القومية الاجتماعية، وسعاده لم يكتف بالتشديد على الوعي بل أنشأ الندوة الثقافية لتسريع الوعي وترسيخه تطبيقياً بالممارسة. وإذا كانت الزهرة سوسن لم تستوعب المحاضرة ككلّ فالسبب يعود الى أنها تعلمت اللغة العربية في أفريقيا ولأول مرة تحضر حلقة إذاعية باللغة الفصحى بالكامل». وهنا شاركت الأمينة ناديا زوجة الأمين مسعد في الحديث مؤكدة على ما قاله الأمين مسعد من انّ ابنتها سوسن تفهم أشياء كثيرة بالفصحى ولكنها تستوعب كلّ شيء باللغة العامية وتفضّلها. وهذا هو السبب الذي جعلها تقول إنها لم تستوعب وتفهم كلّ ما ورد في هذه الحلقة التثقيفية المفيدة جداً حضرة الرفيق.

وبعد كلام الأمينة ناديا قال لي الأمين مسعد حجل الذي ودّعنا بالأمس قولاً مهماً للغاية سجلته بعد أن خرجت من منزله ونشرته في ديوان «قصائد مضيئة» الذي صدرت طبعته الأولى في الأول من آذار سنة 2000 قال فيه:  «فعلاً يا رفيقي الوعي هو الأساس لنفهم العقيدة. والعقيدة ليست من أجل العقيدة، بل من أجلنا. من أجل حياتنا كأمة عزيزة وحرة. ولذلك أقول لا يكفي ان تنتصر العقيدة فينا. لا يكفي أن نُولد نحن الى الحياة الجديدة. بل يجب أن تُولد بنا الحياة الجديدة لأمتنا. وهذا يتطلب منا الوعي القومي الاجتماعي السليم. وهذا ما دعانا إليه سعادة».

كانت ملاحظة ابنة الأمين مسعد حجل مهمة جداً فرملت بعدها استخدامي الكلي للغة الفصحى وصرت أستعين بما هو ضروري من اللغة العامية للتوضيح والشرح في الحلقات التثقيفية اللاحقة.

كان هذا اللقاء هو اللقاء الوحيد مع حضرة الأمين القدوة مسعد حجل الذي منذ ابتدأ حياته القومية الاجتماعية لم يغيّر ولم يبدّل بل وُلدت الحياة الجديدة به في الحزب السوري القومي الاجتماعي الذي ما ابتعد عنه يوماً، ولا سها عن تعاليمه لحظة، فكان مجاهداً في وعيه وقوله وفعله، ومثالاً في حياته وأفعاله وتضحياته وأخلاقه القومية الاجتماعية، وفرض نفسه بإخلاصه لقضية الأمة العظمى في الحياة فصار الحاضر الدائم بالإخلاص لحزب نهضة الأمة بالرغم من الرحيل والغياب. وهيهات أن ينتهي حضور من مرّ في هذا الوجود مصارعاً في حياته من أجل قضية عظيمة ومات على حلبة الصراع ولم يبدّل إيمانه بها، وإخلاصه لها، وأمله بحتمية انتصارها.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى