أولى

حاتم علي… أسطورة الدراما العربية وصانع أبجديتها وعرّابها

} آمنة بدر الدين الحلبي

عزفت السماءُ موسيقاها الحزينة، ورتَّل الفضاءُ الرَّحِب سمفونية الوداع لفنان ملَك رؤية مغايرة عن غيره من الفنانين لأنه عاش في قلب الحدث، فترجمه إلى واقع درامي لا مثيل له، بوجعه وألمه، بتغريبته التي وضعتنا أمام حدثٍ جللٍ مهيب، ومَن يعشْ الحدث المؤلم ويتكلّل بوجعه يخرج من بين همس أنامله يعزف سمفونية البقاء في صناعة درامية وفنية جميلة.

حين ترامى إلى سمعي خبر رحيله عن عالم عجَّ بالدماء وغصَّ بالألم وقفتُ برهةً مع بضعِ سطورٍ للنبي جبران خليل جبران… «قلت مرة لشاعرٍ: إننا لا نعرف قيمتك حتى تموت.

فأجاب قائلاً: أجل، إنّ الموتَ يسدلُ النقابَ عن وجه الحقيقة أبداً. وإذا كنتم بالحقيقة تودّون أن تعرفوا قيمتي عن طريق الموت فما ذلك إلا لأنَّ في قلبي أكثر مما على لساني، وفي رغباتي أكثر ممّا في يدي).

حقاً أيها الراحل إلى سماء الله الواسعة إنّ الموتَ كشف النقاب عن وجه الحقيقة، فأسقطَ الأقنعة عن وجه كل عُتُلٍّ زنيم، معتدٍ أثيم، وأظهرَ الحقَّ حقًا، والباطلَ باطلاً، وكشفَ عورات الآخرين الذين لا يملكون إلا الحقد والحسد والشماتة، وهل يشمتُ العاقل بالموت؟!

أيها الراحل إلى سماء الله الجميلة تجلّت الحقيقة بكل معانيها، وتركتَ استشكالاً كبيراً في تلك الحياة الفانية، قبل أن تُفرِجَ عما في قلبكَ والذي كان أعمقَ مما كان على لسانك، وامتلكتَ رغباتٍ كثيرة لم يُتحِ القدر لك أن تُشعلها جمالاً وفنًا وألقًا، ولأنك «عصيَّ الدمع» نقشتَ بـ»قلمِ حمرة» رحلةً إنسانية مليئة بالأوجاع المغمّسة بالألم والمنتهية بسجن لا قرار له، من واقع سوري، لأنك حملتَ أوجاعَ وطنٍ كان ولا يزال ينثر عطرَ الياسمين، رغم الدماء المعجون بها رغيف الخبزِ.

أيها الراحل إلى سماء الله المضيئة، أضأتَ الدراما العربية بفنك الجميل، وكنتَ عرّابها وقدمتَ أحداثًا تاريخية مهولة لامستَ فيها أوجاعنا، وماضينا كأنه حاضرنا، علّ وعسى استدركنا أو أفقنا من غفلتنا، حتى تفرقتْ دماؤنا بين القبائل،

من مسلسل «الزير سالم» ليرينا أننا ما زلنا قبائلَ متفرقة متقاتلة متناحرة، إلى «ملوك الطوائف» الذي وضع الإصبع على الجرح المدفون، وبدلاً من انتفاضة فكرية دخلنا في طائفية لم تنتهِ بعد، وما زال «ربيع قرطبة» ينخر أجسادنا ويحطّ رحاله العفنة في حياتنا.

كانت رغباتك أيها الراحل حاتم علي، المخرج الجميل لا تتسع لعالم مثل عالمنا بالرغم من أنك سعيت بكلّ ما تملك من قوة لكي تفتح أعيننا على الحاضر والمستقبل علّنا نعي ونتعلم من الماضي، حين استجلبتَ التاريخ المغمس بالدماء رغم الحضارة التي صنعها أجدادنا في الأندلس وفرّطوا بها، لأنهم سمعوا لصوت طائفتهم ومذاهبهم حتى تفرقوا شيعاً وقبائلَ وخسروا ما بنوه، وتركوا إرثًا حضاريًا يستفيد منه أعداؤنا.

أيها المبدع حاتم علي قدمت مشروعاً فنياً تحت عنوان «ثلاثية الأندلس» أولها مسلسل «صقر قريش» الذي عُرض في 2002 حيث تناول تاريخ العرب والمسلمين بدءاً من نشأة الخلافة الأموية من خلال سيرة عبد الرحمن الداخل حفيد عاشر الخلفاء الأمويين ومؤسّس الدولة الأموية في الأندلس.

والمسلسل الثاني في الثلاثية «ربيع قرطبة» وكيف نشأت الخلافة الأموية وانتهتْ بسقوط غرناطة وظهور «ملوك الطوائف» وكان المسلسل الثالث في الثلاثية الذي تناول سقوط الدولة الأموية في الأندلس وظهور الدويلات الصغيرة المتناحرة في مدن الأندلس العربية.

لم يقفْ أسطورة الدراما وصانعها عند هذا الحدّ بل أشعل الدراما العربية بزوادةٍ كبيرة من الأعمال الفنية وأضاء على تغريبة عاشها بماهيتها، بوجعها وألمها، بنزوحها، بتشريدها، بإحساسه النبيل فخطط لها، وعجنها بحسه المرهف، ابن الجولان السوري المحتلّ الذي ترك أرضه رغماً عنه، فقدم مسلسلاً جسّد سجلاً حافلاً من المرارة الموجعة التي استوطنت على جسد الذاكرة حين رسم النضال الفلسطيني في مسلسل «التغريبة الفلسطينية» بأبهى صوره وأجمل تعاضده حيث كانت اليد باليد والكتف بالكتف، ونبش ذكريات القرى التي وقفت في وجه الاحتلال البريطاني وجوبهت بالقتل والتدمير وانتهت بالتهجير.

لم يغفل حاتم علي عن الدراما الاجتماعية الذي أضاءت كلّ الفصول الجميلة، وأرخت الظلال «على طول الأيام» التي نبشت العفن المجتمعي والمغطّى بالمال الفاسد، كما أرخى ظلال فنه على الوجع الإنساني في «العرّاب»، ونبش في عالم غريب من التوحش، لأنه كان على قيد الأنسنة، واستمرّ إنساناً جميلاً، وأعطى أعمالاً خالدة لا تُنسى في المسلسل السياسي «الملك فاروق».

مهما تكلمت عنك يا صانع الدراما العربية لن أفيك حقك، وما زلت مذهولة أمام رحيلك الذي كان فاجعة مؤلمة للعالم العربي كافة ولسورية خاصة، لم يبق أحدٌ إلاّ وذرفَ دموعَ الوداع، لم يبقَ أحد إلا وانتظر لقاء الجمال في عالم الصحافة والإبداع، لكنّ الأجل كان أسرع لتحتضنك السماء إنساناً بارعاً جميلاً قدم الكثير لوطنه بحبٍ ومحبة، وأضاءَ العالم العربي بجمال فنه المتعدّد المواهب ـ كاتب قصصي ومسرحي وممثل ومخرج ومنتج ، أخرج أعمالاً شهيرة كانت بصمة في عالم الدراما العربية آخرها الصحابي عمر بن الخطاب، وكان آخر ما أخرجت يا حاتم علي رحمك الله وأسكنك الفردوس الأعلى من دار الجنان وألهم ذويك الصبر والسلوان.

سورية اليوم تودعك بياسمين شامها، بفلها، بوردها الجوري، وتقول إلى جنان الخلد يا أسطورة الدراما العربية وعرّابها.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى