ثقافة وفنون

الأصل في المضمون

} زياد كاج*

الأصل في المضمون والأسلوب. الجوهر في الأول، وفي الثاني وسيلة وطريقة نقله إلى الآخرين.

كنت في بداياتي المهنيّة من الذين لا يتعلّمون بيسر إلا من تجاربهم الخاصة «تعلّمت من كيسي إلى أن نخرته الثقوب». لطالما قيل لي «أمامك حائط مسدود»، لكنني بكل عناد، كثور إسباني هائج، كنت أرتطم به، أقع أرضاً، والنجوم تدور حول رأسي كمشهد من فيلم كرتوني للصغار. ألملم أناي، أداوي جروحي، أتعلم، وأيمّم وجهي الى حائط جديد وخيبة أمل جديدة. فالحياة سلسلة من الأخطاء نمضيها في تصحيح ما ارتكبناه.

تلك كانت حالي عندما قطفت أول عشرين ربيعاً بعد أن عملت في مهن عدة قبل دخولي مستشفى الجامعة الأميركية في بيروت في حزيران سنة 1985 بصفة «كاتب». والكلمةليس لها مرادف في اللغة العربية بالمعنى الكامل. لطالما افتقدت لتلك «الشعطة» التي يحتاج لها كل شاب وشابة منخرط حديثاً في سوق العمل في لبنان. افتقدت لتلك «الشطارة» اللبنانية التي تجعل الكبار يتنافسون في مديحك ويتوقّعون لك مستقبلاً زاهراً في بلد تتساوى فيه صفة «آدمي» بصفة «غشيم». كنت مجرد شاب «عصامي عاقل»، محبوب من الجميع، غير مؤذٍ ولا أزال على مقاعد الدراسة الجامعية. وهذه أمور لم تكن كافية للحماية الذاتيّة والعيش برأس مرفوع في بيروت منتصف الثمانينيّات.

«ماذا تعني مهنة كاتب في المستشفى؟»، سألت صديق أخي الذي كان يعمل في المستشفى بالصفة نفسها.

راوغ الشاب الملتحي والمتدين وفي يده مسبحة خشبية يحملها الدراويش ونحن نتمشّى قرب أوتيل البريستول. « صعبة أشرح لك».

قال ببساطة كأنه لا يرغب بخوض الموضوع لملل يسكنه أو خوف ما. عندما بدأت وظيفتي فعلياً في الطابق الثامن جنوبي في المستشفى اكتشفت السبب بعدم رغبة زميلي بالخوض في الموضوع. الوظيفة عبارة عن روتين يوميّ صارم وسريع تحت ضغط الوقت وكثرة الطلبات من الأطباء والممرضات وأهل المرضى. لا عزّ للمثقف هنا في بيئة محض طبية تفوح وسطها رائحة مواد التنظيف والأدوية وطنين الهاتف الذي لا يتوقف. وسط خليط من الأصوات: الممرضات، أهل المرضى، الأطباء، وعاملة الهاتف التي تنادي لأمر طارئ عبر مذياع يغطي كل أقسام المستشفى (كان ذلك قبل انتشار تلك الآلة الرنانة الصغيرة التي يحملها الطبيب أينما كان).

مهنة «الكاتب» كانت مقدرة لي في بيئة طبية السائد فيها كان اللون الأبيض كلباس موحّد. لم يكن عالماً يمت بصلة للثقافة أو الأدب أو الفن، حيث حلمت أن أكون يوماً. إحساس داخلي كان يسكنني لم أتمكن من تحويله الى واقع في زمن الحرب الأهلية. بيئة يسودها شح وقحط ثقافي منقطع النظير، ما عدا بعض الأطباء من أصحاب الاهتمامات السياسيّة والثقافيّة. ولا لوم هنا لأن الناس تأتي لعلاج الجسد وليس الروح. لا مكان في المستشفى لجبران ونعيمة أو لشكسبير ودستويفسكي ولمسرح الرحابنة ولصوت مرسيل خليفة وباتريك سيل ومقالات سركيس نعوم؛ ولا للنقاشات الفلسفيّة أو الأدبيّة المعمّقة. لا وقت لما سبق ولا جمهور. «المريض موجوع»..» طارئ.. بدنا هالدوا من الصيدلية».. «طارئ.. ينقصنا هذا الجهاز.. طارئ.. طارئ..». صرت أكره هذه الكلمة التي لطالما وضعتني تحت ضغط عامل الوقت. حتى اليوم أكره كل ما هو «طارئ».

« كان عليّ أن أفوش كي لا أغرق. أن أؤجّر ضميري أحياناً، كي لا أنهار».

بقيت أناي مكسورة الخاطر. الممرّضات كن في معظمهم خارج الحالة والوعي والحراك الثقافي في البلد لأن مهنتهم تستهلكهم جسدياً ومعنوياً. بعضهن كانت تستهويهن السياسة خلال الدوام المسائيّ ومنهن تعلمت أن لا أناقش في السياسة مع مَن لا يقرأ ويتقن خلط المعلومات وطبخها. لم تسعفني شهادتي في الإعلام ولا في الأدب الانكليزي ولا عملي بدوام جزئي في الصحافة المكتوبة والمسموعة من اكتساب قيمة معنوية خارج الإطار التي حددته وظيفتي ككاتب. ومما زاد الطين بلة، وصول أفواج من الممرّضين الشباب من أصحاب الميول الدينية المتعصبة والمنغلقة. فصاروا يتصرّفون مع غيرهم من الزملاء كأنهم وسط بيئتهم الأصلية. البعض حول مكان عمله الضيّق المساحة الى مُصلَّى رغم وجود زملاء من ملل أُخرى!

كان من واجباتي وغيري من «الكتبة» التنسيق المباشر واليومي مع رئيسة القسم، ومع الممرضات والأطباء وأهل المرضى. كانت تقع مشاكل كثيرة توجب عليّ حلها: الكاتب هو دينامو وجوكر الطابق. إذا حصل نقص في المعدات الطبية، أو إذا اعترض أحد أقارب المرضى لتقصير ما، أو إذا فقد أحد الأطباء أعصابه طالباً إحضار دواء عاجل لمريضه، أو في حال وفاة أحد المرضىأمام هذه الحالات كان على الكاتب أن يتحرّك ويحلّها.

الكاتب هو مختار الطابق وحلال المشاكل. شيخ صلح من نوع مميّز. وفي الوقت نفسه مطلوب منه الردّ على الاتصالات الهاتفيّة التي كانت تهطل عليه كالمطر. ألبي جانب الاهتمام بملفات المرضى الورقيّة، وتعبئة ملفات جديدة للمرضى الجدد. أستعيد صورتي اليوم جالساً خلف المكتب الخشبي الطويل، ممسكاً بسماعة الهاتف بيساري، والقلم بيميني، وأمامي زائر يسأل عن مريض قيل له إنه في طابقنا! لا أنسى الممرّض حسين زعيتر (أبو علي) الذي كان يساعدني في ظروف عمل جدّ ضاغطة كنت أعود بعدها الى البيت في حال إرهاق كامل.

كنا ككتبة في المستشفى كثيري الواجبات قليلي السلطات. كنا «نجوم اللعبة» من دون اعتراف الإدارة بأهمية الدور. صادقنا الكثير من الأطباء المشهورين من الاختصاصات كافة، خاصة أولئك الذين «مرّوا من تحت أيدينا» خلال مرحلة التدريب والتعلّم.

من أكثر الواجبات التي كرهتها كانت نقل عينات المرضى من دماء وبول وبراز وغيرها الى المختبرات في الطابق الثالث. عامل الوقت كان حساساً هنا كي لا تفسد العينات. أضعها في كيس ورق بعد تجميعها في علبة خشبية ثم أنقلها الى المختبر حيث تنتظرني نظرات العاملات خلف «الميكروسكوبات» وعيونهن حمراء متعبة. كنت أشعر بشيء من الذنب؛ شيء من التردّد. وكان الأمر يسوء عندما التقي على الدرج بزملاء ثقيلي الدم فيعطونني ما معهم من عينات وتكبر حصت كيسي وتجحظ بي تلك النظرات بعدائيّة أكبر. أذكر كاتباً مغروراً كان يتقن هذه اللعبة معي على الدرج. نبيل.. لا أنسى هذا الاسم. صار اليوم صاحب شركة ذات وزن في البلد. يأتي الى الطابق الرابع بثياب رسميّة وربطة عنق! معقّد من عمله ككاتب وزوجته مسؤولة في قسم الممرضات. كم كان يبدو سخيفاً ومدّعياً عندما يتحدّث كيف سقط خاتم زوجته الذهبي في المجلى وعن معاناتها. وكيف اشترى لها خاتماً بديلاً. لاحقاً، علمت أن أبيه كان يعمل «صانعاً» في كنيسة قريبة، يقدم القهوة ويساعد الخوري في مناسبات القداديس في الأفراح والأتراح.

مضمون ومحتوى الكيس الورقي كان يضعني في مواقف محرجة مع التقنيات العاملات في المختبرات خاصة خلال الدوام المسائيّ. كانت تنقصني الخبرة في التعاطي مع الزملاء؛ العدائيّة والدفاع عن النفس ضروريان في مواقف كهذه. كنت «كالكميون» الذي تلقى فيه حمولة زائدة.

من حسن حظي تمكنت من «الهرب» من «فوق» والعمل في مكتبة الجامعة.

«أنت ظمطت بريشك» يذكرني الزملاء عندما ألتقي بهم. هنا أختلف المضمون والناس والبيئة. لا مرضى ولا ممرضات ولا أطباء. ولا كلمة اسمها «طارئ». صرت أعمل بالكتب على أنواعها وعلى برامج متعددة تخص مجال عملي في المكتبة. هنا اختلف المضمون رغم بقاء المشكلة المعلّقة. بدلاً من عيّنات الدم والبول والبراز، أجدني اليوم أنقل الكتب القديمة الى زميلاتي في الدائرة القريبة من مكتبنا. في المكتبة وبعد مشوار طويل وغربة «وجدت نفسي قرب نفسي». وأخذت أشرب من نبع المعرفة ولا أرتوي. أختار ما يلفت انتباهي من الكتب وأستعيرها لقراءة متمعّنة في البيت. كان اكتشافي الكبير: علي الوردي والمؤرخ العراقي الفذ جواد علي في عمله الرائع الموسوعي «تاريخ الجزيرة العربية قبل الإسلام» (9 أجزاء).

زميلتي تسكن الأشرفية وهي لطيفة هادئة وبيننا فالق عمري كبير. حين أدخل المكتب (أسميته معمل الخياطة لكثرة الزميلات فيه) أرى نظرات تذكرني بطيف تلك التي كنت أراها في مختبرات المستشفى، لكنها ألطف وأخفّ عداوة

« يا ساكن بالأشرفية» أغني لها برقة فتبتسم. هنا يوجد مجال للأخذ والرد والتواصل بـ»الومى دون العمى».. أفرغ حمولتي من الكتب على مكتبها بعد تحضيرها نفسياً على الهاتف والحصول على بركتها. لا عبوس أو مشاكل أمنيّة.

اختلف المضمون بعد كل تلك السنوات واختلف المكانفي المستشفى كانت التقنيات في المختبر يعملن على تحليل العينات بواسطة ميكروسكوبات دقيقة كي يستفيد منها الطبيب ليصف العلاج المناسب لمريضه. وفي المكتبة تعمل صبايا قسم الفهرسة على تحليل مضمون الكتب وإدخالها في مجموعات مقتنيات المكتبة بواسطة برنامج متخصص ليستفيد منها الطلاب والأساتذة والباحثون.

المضمون هو الأساس؛ نسيتُ أمراً هاماً: الأسلوب هو ما لم أمتلكه في المستشفى منذ 35 عاماً.

 

*روائي من لبنان.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى