ثقافة وفنون

حديثٌ يطول

} عيد المجيد زراقط

كان اللَّيل في منتصفه، عندما خرج شيخ الشُّطَّار، ساهر اليقظان، من مركز عمله، وهو يفكِّر في أمرٍ خطير يقلقه، ولم يهتد الى قرارٍ يرضيه في شأنه.

منذ أيَّامٍ، وهو يفكِّر، في ايجاد حلٍّ لهذه المشكلة، ولم يُّوفَّق في الوصول الى ما يريحه من الثِّقل الذي جثم على صدره، كالصَّخرة الصّلدة التي لا تتزحزح.

ساهر اليقظان، كما يعرف جميع سكَّان السَّلطنة، اسم على مسمَّى، فهو ورجاله ساهرون، كما يقولون، على حماية البلاد والعباد، دائمو اليقظة، وهو متميِّز، من بينهم، بأنَّه شجاعٌ لا يهاب المخاطر، وعاقلٌ لا تستعصي عليه حلول المشاكل، ما عدا هذه المشكلة التي طرأت منذ أيَّام.

هو طويل القامة، عريض المنكبين. رأسه كبير، يغطِّيه شعر طويل كثيف،  لحيته سوداء كثيفة طويلة، وشارباه عريضان، وعيناه لا تهداَن عن الدَّوران، وأنامله لا تكفَّان عن ملاعبة شعرات لحيته وفتل شاربيه. واذ طال به الأمر، ولم يصل الى قرارٍ يريحه، رأى أن يلجأ الى الشيخ الغفاري، ليرشده هذه المرَّة الى الصَّواب، كما كان يفعل، كلَّما لجأ اليه من قبل.

حثَّ الخطى، وبرودة الليل تبعث فيه النَّشاط، بعد عمل يومٍ مُتعب وتفكيرٍ مضنٍ. وسرعان ما صار أمام بيت الشيخ.

بيت صغير يعرفه جيِّداً، فهو يتألَّف من غرفةٍ واحدةٍ ومَرَافقها. البيت مضاء. قال لنفسه: الشيخ سهران كعادته. نظر الى الباب الخشبيِّ، فراَه مفتوحاً، فاطمأنَّ الى أنَّ الشيخ يمكن أن يستقبله، ويصغي اليه، ويحلَّ مشكلته. دقَّ الباب، فسمع: ادخل. خلع حذاءه في الخارج، ودخل.

الغرفة بيضاء الجدران واسعة، يضيئها سراجٌ كبيرموضوع على منضدة عالية في زاوية من زواياها. الشيخ يجلس وراء طاولة ملأى بصفوف الكتب، المتراصَّة أمامه، يقرأ في أوراق صفراء يقلِّبها بأنامله النَّحيلة.

قال ساهر: السلام عليكم، يا مولانا. رفع الشيخ رأسه المغطَّى بطاقيَّةٍ بيضاء مخرَّمة، ونظر الى الرجل الطويل الواقف أمامه بعينين واسعتين نفَّاذتين، وقال: وعليكم السلام والإكرام. اجلس هنا الى جانبي، وأشار الى «طرَّاحة« صغيرة مرقَّعة. وأضاف: يبدو أنَّك جئت في منتصف هذا الليل لأمرٍ خطيرٍ أقلقك.

جلس ساهر حيث أشار الشيخ، وقال: الأمر شائك وخطير، أفكِّر فيه منذ أيَّام، و لم أهتد، في شأنه، الى حلٍّ يرضيني. وقلت: لا أحد يستطيع أن يرشدني الَّا الشيخ الغفاري الحكيمقال الشيخ: أنتم، الشطَّار، مشاكلكم مع الناس كثيرة، وكثيراً ما تفترون على عباد الله، وخصوصاً المساكين منهم. فقال الشّاطر الكبير: ما جئت الَّا من أجل المساكين. خشيت أن تُقفل مؤسَّسات تُعنى بهم. قال الشيخ، وهو يتَّكئ الى مسندين عاليَين يقعان على يمينه: هات حدِّثنا بما جئت من أجله. فقال ساهر: صائب الفلحان، ولم يكمل. اعتدل الشيخ في جلسته، وسأل: صديقنا أبو الخيرالمعروف؟ ما به؟ ايَّاك أن تقترب منه.

قال الشَّاطر الكبير: يريد أن يحجَّ.

عاد الشيخ يتَّكئ على مسنديه، وقال، وهو يبتسم: ليست المرَّة الأولى التي يحجُّ فيها أبو الخيرما المشكلة في ذلك!؟

قال محدِّثه: يريد أن يحجَّ هو وامرأته وأولاده.

فقال الشيخ: الحاج صائب، كما يعرف الناس، غير متزوِّج. قال ساهر: هذا ما كان معروفاً عنه، ومنذ أيَّام فوجئت بأنَّ لديه امرأة وأولاداً، ويريد أن يذهب وايَّاهم الى الحج، وهنا بدأت المشكلة. سأل الشيخ: ما المشكلة في أن يذهب رجل وزوجته وأولاده الى الحج؟ قال الشَّاطر الكبير: ليست المشكلة في ذهابهم الى الحجِّبقي الشيخ ساكتاً. فأضاف محدِّثه: المشكلة هي أنَّ زوجته ليست زوجة صائب الفلحان، وأنَّ أولاده ليسوا أولاد صائب الفلحان، وأنَّه هو ليس صائب الفلحان و

قاطعه الشيخ، وهو لا يزال يبتسم: مَن هو اذاً؟

فقال ساهر: هو فاتح الرَّبحان.

سأل الشيخ: من هو هذا فاتح الرَّبولم يكمل. حكَّ جبينه على مهل، وجلس بسرعة، وقد غاضت ابتسامته، وقال: ذلك الرجل الهارب الذي وضع السلطان ووزيره وأركان السَّلطنة جوائز كبيرة لمن يدلُّهم عليه، أو يقدِّم معلومات عنه!؟

قال ساهر: هو نفسه. قال الشيخ: لن أسألك كيف عرفت، فهذه مهنتك، وأنت تتقنها جيِّداً، وانما أسألك عن ذلك الرَّابح الفرحان، لمَ هرب، وكان المقرَّب من السلطان ووزيره وأركان السلطنة؟ ولمَ خُصِّصت تلك الجوائز الكبيرة من أجل القبض عليه؟ أجاب شيخ الشُّطَّار: كان رابح الفرحان داهيةًوسمساراً كبيراً ماهراً، يؤدِّي دور الوسيط بين السلطان والوزير وأركان السلطنة، من ناحية، وبين المتعهِّدين الذين ينفِّذون جميع المشاريع في السَّلطنة، من ناحية ثانية. كان كلُّ مشروع يُلزَّم بمبلغ كبير جدَّاً من المال. يأخذ المتعهِّد ربعه، ويأخذ السلطان والوزير وأركان السلطنة الثلاثة أرباع الباقية ، فيُنفِّذ المتعهِّد المشروع كيفما اتفق، فتتقرَّر، بعد سنة، وفي الميزانية الجديدة، إعادة تنفيذ المشروع مرَّة أخرى، وتُعاد السَّمسرة من جديد. يحدث هذا في مشاريع السَّلطنة جميعها كلَّ سنة. وذات سنة، كانت المشاريع كثيرة والمبالغ كبيرة، فاستولى السُّمسار الفالح الرَّبحان على الثلاثة أرباع، وهرب. عرفنا أنَّه سافر الى بلاد بعيدة. ومنذ أيَّام، وأنا اتابع أخبار الحاج صائب وأخبار زوجته وأولاده، اكتشفت، ولا تسألني كيف، فهذا سرُّ المهنة، أنَّه هو ذلك السمسار الهارب فالح الرَّبحان. ويبدو أنَّه عاد من السفر، بعد أن غيَّر هيئته واسمه، ونشط في الأعمال التجارية والحرفيةوالخيرية، أو أنَّه اختفى مدَّةً، ثم ظهر في هيئةٍ جديدة واسمٍ جديدوصار أبا الخير المعروف. ومنذ ذلك اليوم الذي اكتشفت فيه هذه الحقيقة، وأنا لا أعرف ماذا أفعل، وجئت اليك لترشدني الى الرَّأي الصواب.

سوَّى الشيخ جلسته، فصار وجهه مقابل وجه جليسه، وقال: هل كنتم تعرفون ما يحدث في البلاد؟ وللعباد؟ أجاب ساهر: كنَّا نعرف. قال الشيخ: وماذا كنتم تفعلون، ومال السلطنة يُنهب ومشاريعها تخرَّب!؟ قال ساهر: كنَّا نفكِّر، ونقرِّر أن نُغيِّر، ثم لا نجد فرصاً وأنصاراً للتنفيذ، فننتظر. سأل الشيخ: أما سألتم أنفسكم كيف تجدون الفرص والأنصار؟ هذه هي المشكلة الكبرى التي يجب أن تجدوا لها حلَّاً. قال شيخ الشُّطَّار: أريد حلَّاً للمشكلة التي جئت من أجلها، أمَّا تلك المشكلة فحديثها طويل.

 قال الشيخ: سأسألك بعض الأسئلة، وتجيبني عنها، وعندما ننتهي تتَّخذ أنت قرارك. قال ساهر: لا تصعِّب أسئلتك. وراح الشيخ يسأل، وشيخ الشطَّار يجيب:

أنت، ما الذي يدفعك الى كشف أمر هذا الرجل؟

 إعادة الأموال المسروقة أوَّلاًو أخذ الجوائز ثانياً، وانزال العقاب بالسارق ثالثاً

اذا تمَّت مصادرة الأموال المسروقة، لمن ستعود؟

للسلطان والوزير وأركان السَّلطنة.

هل يبقى المال مسروقاً ً؟

يبقى.

واذا كشفت أمر الرجل، واعتُقل، ماذا يحدث؟

تُصادر ممتلكاته. وتُقفل مبرَّته المخصَّصة للأيتام، ومؤسَّسته لتعليم أبناء الفقراء المتفوِّقين، ومؤسَّسته الثَّانية، للعناية بالمرضى المُعوَزين والمعوَّقين، وتصادر محالّه وبساتينه المخصَّصة أرباحها لهذه المؤسسات الخيرية، ويُشرَّد عُمَّالها

من يأخذ هذا كلَّه، عندما يُصادر؟

السلطان ووزيره وأركان السَّلطنة.

وماذا يفعلون بها؟

ما يفعلونه بثروات السَّلطنة. ينهبونها، ويصرفونها كما يشاؤون.

أليس هذا سرقة؟

بلى.

كلاهما اذاً سارق.

صحيح.

أيُّ سارقٍ منهما أفضل من الاَخر؟

هل يوجد سارق فاضل؟

المسألة نسبية. سأسالك سؤالاً اَخر، لأوضح ما خفيَ عليك. هل وُظِّفت سرقة صائب في خير الناس والمجتمع؟

وُظِّفت. لكن يبقى الشرُّ شرَّاً، وان وُظِّف في صنع الخير.

ولمَ تعدُّ ما فعله صائب شرَّاً؟

لأنه سرقة. والسرقة شرٌّ.

 – صحيح، لكن، ألا ترى أنَّ صائباً سرق أموالاً مسروقة كانت ستُبدَّد، ووظَّفها في إقامة مؤسسات خيرٍ دائم؟

بلى.

هل من الصَّواب ومصلحة الناس أن تُقفل تلك المؤسسات؟

عليك أن تجيب عن هذا السؤال.

السؤال صعب.

وأمامك سؤال أكثر صعوبةً.

ما هو؟

هل الطريقة التي اتَّبعها فالح الرَّبحان هي الطريقة الأصوب للتخلُّص من السرقة والسارقين؟

لا.

 – ما هي تلك الطريقة؟

وقف شيخ الشطَّار، ومشى، وهو يقول: ماهذه الليلة التي لن أخلد فيها الى النَّوم!؟

فقال الشيخ: منذ الصباح الباكر، اذهب الى صائب الفلحان، وتحدَّث اليه طويلاً، فقد تجد لديه أجوبةً تبحث عنها.

قال ساهر: قلت، يا مولانا : صائب الفلحان، وسيبقى كما قلتَ، وكما أقول… وغداً، في الصباح الباكر، أذهب اليه، ويكون لنا معه، ومع أمثاله، حديث يطول.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى