أخيرة

لم أسمح للعمر أن يحول بيني وبين حلمي بالتعلم ودخولي إلى الجامعة السوريّة نجلاء برغل طالبة ثمانينيّة جامعيّة: سأتابع تعليمي حتى آخر يوم في عمري ما دام في الحلم بقيّة

 

في نهاية عقدها الثامن، أطلقت نجلاء برغل العنان لحلمها الدفين بدخول الجامعة كي يصبح واقعاً ممزوجاً بشغف ربيع الشباب المقبل على الحياة والعلم بوصفهما متلازمين لا يفرّق بينهما سوى الموت.

وقالت نجلاء (الطالبة في السنة الرابعة)، التي أرادت لسنواتها الـ 79 أن تتنحّى جانباً عن طريق حلمها، وبعنفوان لوكالة «سبوتنيك»: «لم أسمح للعمر أن يحول بيني وبين حلمي بالتعلم ودخولي إلى الجامعة»، وبغصة تضيف: «كنت أرغب بدراسة قسم رياض الأطفال، لكني لم أستطع لظروف معينة، لكني استطعت أن أحقق رغبتي بدراسة قسم المكتبات.. القسم الآخر الذي أحببته وتمنّيت دراسته، وها أنا اليوم على أبواب التخرّج».

وروت نجلاء، أنها كانت تعيش مع عائلتها في حي القابون في مدينة دمشق عندما أجبرها المسلحون على مغادرة منزلها بعد أن فقدت ولديها في الحرب التي أدمت قلبها، لتهيم مع عائلتها بعد التهجير إلى مكان يأويهم بعيداً عن النار والدم، فقصدوا حديقة تشرين وسط دمشق، وناموا هناك أربعة أيام، قبل أن ينزحوا إلى محافظة اللاذقيّة ويستأجروا منزلاً في ضاحية بسنادا على أطراف مدينة اللاذقية.

وبدأت تحقيق حلمها في تحصيل العلم، عندما كانت في الـ54 من العمر، وقتها حصلت على شهادة محو الأميّة ومن ثم شهادة التعليم الأساسي التي حرصت على إخراجها من منزلها تحت تهديد المسلحين، لتكمل مشوارها في اللاذقية وتحصل على شهادة التعليم الأساسي بعمر 69.

وتابعت نجلاء: «رغم أنني رسبت سنتين متتاليتين في امتحانات التاسع، لكنني لم أيأس فقد كان إصراري على تحقيق حلمي أكبر من أي شعور بالخيبة والتراجع، وبالفعل نجحت في المرة الثالثة، وفي السنة التالية قدّمت على امتحانات الشهادة الثانوية ونجحت وحصلت على علامات أهّلتني للتسجيل في قسم المكتبات الذي أحب».

وأضافت متحدثة عن ذكرياتها مع زوجها: «رغم ذلك كان يشجعني ويفرح عندما أنجح، وكنت أرى السعادة في عينيه وهو يقول لي «شاطرة ما بينخاف عليكي»، لتغصّ بالدمعة التي كتمتها قبل أن تتسلل إلى خديها فتسلب منها عنفوانها، وتكمل: «إلا أن فرحتي بنجاحي بالبكالوريا كانت ناقصة لأنه لم يشاركني بها، فقد توفي قبل إعلان النتائج بثلاثة أيام».

ووصفت مشاعرها تجاه العلم قائلة: «في الدراسة أفجّر كل الحزن والغضب والقهر المزروع في داخلي جراء فقد أولادي في الحرب وتهجيري من منزلي أنا وعائلتي وأيام المعاناة التي عشناها ونحن نبحث عن مأوى».

ورغم كل ما مرّت به من ظروف قاسية لم تسمح نجلاء لأي شيء أن يحول بينها وبين تحقيق حلمها، سواء تعليقات بعض الأشخاص الذين تنمّروا عليها وأسمعوها كلاماً جارحاً حول معنى أن تدرس في الجامعة وهي التي أكل الشيب شعرها، أو ظروفها المعيشية التي تجاوزتها بالعمل، إذ تقول: «رغم كل شيء لم أنكسر ولم يأكل اليأس قلبي، ولم أمدّ يدي للناس حتى لأستدين المال، بل عملت ولا زلت في جني الليمون والزيتون وغيره من الأعمال التي تحفظ لي كرامتي وتساعدني على مصاريف الجامعة».

الحديث عن الجامعة حديث ذو شجون لدى نجلاء التي تحرص على اختيار الكلمات وتنميقها بالتعبير الذي يعتمر قلبها وتريد البوح به بأبهى حلة تليق بحلمها وجامعتها التي وهبت لها نجلاء عمرها ووقتها وجعلت منها طقساً يومياً تحاول أن تحتفل به كل يوم على طريقتها. ففي الصباح، كما تروي نجلاء، عندما تسير إلى الجامعة تحث الخطى إلى المكان الذي تراه عشقها وحياتها التي فصلتها على قياس أحلامها.

ولا يعكر سعادة نجلاء في دراستها، بحسب تعبيرها، سوى أنها تعاني قليلاً باستيعاب المنهاج وأنها بطيئة في الكتابة، لكن هذه المعوقات تستدركها نجلاء على عجل لتصفها بأنها تتغلب عليها بالدراسة والتمرين والصبر.

لم يكن في بال نجلاء عندما دخلت الجامعة أن تحصل على فرصة عمل بعد التخرّج لأنها تعرف أن ذلك ضرب من المستحيل فعمرها وصحتها لا يسمحان بذلك. وأوضحت سبب اختيارها قسم المكتبات، شارحة: «المكتبات، تعني العلم والثقافة كما تعني التاريختعني عشقي الصغير وحلمي الكبير الذي أحققه بشغف الصبايا وعنفوان الشباب».

وخلصت: «حلمي لا ينتهي بالتخرّج من قسم المكتبات، فأنا أطمح لدراسة الماجستير بعد التخرج. سأتابع تعليمي حتى آخر يوم في عمري ما دام في الحلم بقية».

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى