أخيرة

عفيف بهنسي ودوره في تعزيز التاريخ و التراث السوري

جومانة محمود الصالح*

تعدّ مدينة دمشق من المدن ذات الإرث الثقافي الغني بشقيه الماديّ وغير الماديّ، وهي إحدى أقدم العواصم ذات التاريخ الضارب في القدم، كانت ولا تزال مقصداً لكبار العلماء والفقهاء والدارسين؛ ففيها نشأت أولى بذور الحضارة، ومنها يفيض التاريخ بحكايات المجد والبطولة، وبأعلام التراث والتاريخ ممن كتبوا وجسّدوا وحفظوا حضارة سورية العريقة وأرخوا تراثها المتوارث من الأجداد إلى الأحفاد الذي أثر في العديد من الشعوب الأخرى بثقافاتها المختلفة ولغاتها على مدى العصور.

ومن الأعلام الدمشقيين الأستاذ الدكتور عفيف بهنسي؛ أحد أهم القامات العلميّة ليس على مستوى الساحة السورية فقط، بل على مستوى العالم العربي والعالمي، هو باحث فريد من نوعه ليس نتيجة المناصب العديدة التي تقلدها؛ إنما لدوره في ربط التراث ببقية العلوم فتجلّى الإبداع الفني في أعماله وكتبه، ومنحه قيمة تاريخية وعلمية، وساهم ذلك في قفزة ثقافية في العالم على المستوى الفكري بسبب نظرياته القيّمة التي قدمت للعالم نمط الحداثة في الفن والتاريخ، فأثر في المجال الفكري والثقافي، ويعتبر بهنسي أول من قام بإعداد أضخم كتاب عن سورية بعنوان (سورية التاريخ والحضارة) بتكليف من الحكومة السوريّة، ويقع الكتاب في ثمانية أجزاء، وصُنف مرجعاً نادراً باعتباره كتاباً آثارياً تاريخياً حضارياً يحتوي على ألف صورة للتراث السوري، وقاد بهنسي الحملات الاستكشافية في المديرية العامة للآثار والمتاحف السورية بالتعاون مع ما لا يقلّ عن ألف عالم آثار من كل أنحاء العالم من أجل البحث والتنقيب عن آثار سورية. هذه الآثار التي أثبتت للعالم أن حضارة سورية حضارة عريقة ضاربة في جذور التاريخ، حيث أكد في لقاء خاص مع سانا «أن اهتمام علماء الآثار في العالم بسورية وحضارتها ليس وليد الصدفة وإنما يعود إلى التنوّع والأسبقيّة في تراثنا وتاريخنا اللذين لا مثيل لهما في العالم، وفق ما أثبتته الكشوف الأثرية التي تعاقبت في سورية، وأنه يجب حفظ هذه الحضارة العظيمة للأجيال القادمة لتعي أنها ليست ضعيفة وأنها قادرة على إعادة صناعة الحضارة بما تمتلك من تراث وما زال موجوداً حتى اليوم».

نشأته في أسرة علماء ومؤرخين

ولد بهنسي في «دمشق عام 1928من أسرة نسبها السيف والقلم، متمثلة بجده الأعلى الأمير المهلب بن أبي صفرة الأزدي جد العلامة الجغرافي الحسين بن أحمد المهلبي، البهنسي الشهرة والأصل، القاهري المولد والمنشأ، الدمشقي الموطن والوفاة»، درس في دمشق وحصل على بكالوريوس في الحقوق، ثم سافر إلى فرنسا لدراسة الفن في جامعة «السوربون Sorbonne» في باريس، حاضر في أكثر من ثلاثين جامعة عالمية، وحصل على ثلاثة عشر وساماً عالمياً،  وكُرّم من قبل جهات محلية وعربية، ولقد ساهم في الإشراف على بناء بانوراما حرب تشرين التحريريّة الذي جاء «آية معمارية تعبر عن الأصالة العربية الإسلامية بثوب عمراني معاصر استلهم الخصائص المعمارية الدمشقية».

ترعرع في بيئة ثقافية تنتمي إلى أجداد من الفقهاء والشعراء والمؤرخين، «نشأ وقد رافقت حياته صعوبات العيش في ظروف الانتداب والثورة، وفي ظروف الحرب العالمية الثانية. كانت هذه الظروف سبباً في انخراطه مع أقرانه من طلاب المدارس في العمل القومي مشاركاً في المظاهرات والندوات المعارضة» ضد الاحتلال الفرنسي، وشارك في حرب تشرين التحريرية خلال خدمته الإلزامية، ومن الجبهة كان يراسل جريدة الثورة يومياً، وما زالت العناوين الكبرى تتصدّر صفحات الجريدة محفوظة في مركز الوثائق تتحدّث عن انطباعات مباشرة للانتصارات التي حققها المقاتل السوري في معركة الكرامة التي قضت على أسطورة التفوّق الإسرائيلي، فقد كان مواطناً سورية وطنياً بامتياز.

القوميّة واقع حيّ وتراث مستمر

أما موقفه من القومية العربية فقد تحدّث عن القومية بعيداً عن الدم والعرق والعصبية حيث اتبع في أفكاره القومية نظريات علم الاجتماع، فقد عدّ الحضارة هي القومية عندما نتحدث عن الإيديولوجية «الأفكار والمفاهيم»، فالحديث عن العصبية كأساس للقومية هو حديث فاسد لا يقوم على واقع. فالقومية «ليست شعاراً أو مثالياً، بل واقع يتمثل بتراث إنسان محدد عبر مراحل التاريخ، هذا التراث هو واقع الأمة الذي يشخّص هويتها عبر التاريخ». فالحضارة ليست كلمة تُقال؛ بل هي واقع مجسَّد في حياتنا وماضينا وحاضرنا، فحضارة المدن السورية كمدينة ماري وإيبلا وتدمر وأوغاريت ليست أساطير أو قصص مختلقة مثل أساطير الإغريق أو الكيان الصهيوني؛ بل هي واقع دل عليه التاريخ أولاً، ثم التنقيبات والكشوف الأثرية ثانياً، فنحن من علّم البشرية كيف تبنى الحضارات، وقد أدرك علماء الآثار في العالم أن التنوع والأسبقية في تراثنا يستدعي كل الاهتمام من قبلهم فوطننا سورية فسح المجال أمام مئات العلماء الآثاريين كي يتعرّفوا على حقيقة بدايات التاريخ، ولذلك ما زالوا يكتبون عن سورية وحضارتها وهناك «مطبوعة سنوية ما زالت تصدر في روما بعنوان (الناري إيبلا) يشترك في إصدارها إثنا عشر عالماً متخصصاً في علم اللسانيات يكتبون ويترجمون الرقم الطينية المكتشفة في سورية حول العادات والآداب والعقائد والعلاقات التجارية والسلطة». فالآثار السورية هي كنوز حقيقية تساعد على معرفة أحوال التراث الإنساني، هذا التراث الذي يعود في سورية «إلى عشرة آلاف عام من تاريخنا، وهو أقدم تاريخ معروف ابتدأ فيه الإنسان بتشييد القرى والبيوت بالفخار كما ابتدأ بفهم الإله، فبداية الحضارة السورية القديمة تمثلت بانتشار صناعة الفخار الملوّن والمزيّن وظهور المدن التي يسودها النظام الإداري والعقائدي والاقتصادي وظهور الكتابة وذلك في عصر 3200 ق.م».

الحضارة السورية أساس العربيّة الأولى والعروبة

 لذا آثارنا تتعرض  إلى تخريب وتدمير ممنهج من قبل الإرهاب والدول الماسونية والكيان الصهيوني الذي يسعى دائماً إلى طمس معالم الحضارة في مدن بلاد الشام، فقد ذكر في كتابه (تاريخ فلسطين) ما جاء على لسان إسرائيليين يعترفون من خلال التنقيبات التي قاموا بها في القدس وأريحا أن التاريخ التوراتي لم يكن حقيقة، وأن علم الآثار الحديث لم يستطع أن يثبت ولا كلمة واحدة من التاريخ التوراتي، وأن علماء الآثار في كل أنحاء العالم يخجلون اليوم من الاعتماد على هذا التاريخ، معتبراً أن مقاومة «إسرائيل» وادعاءاتها الزائفة لا تكون إلا من خلال الكشوف الأثريّة التي تعرّي كذب ادعاءاتهم بحقوقهم المعتمدة على التاريخ التوراتيّ المزيف، ومن الوثائق التي نشرها بهنسي ليثبت حضارة سورية العريقة ويعرّي كذب الصهيونية كتاب (وثائق إيبلا) الذي نشر ملابسات اكتشاف المنطقة العربية في بلاد الشام، وبين الكتاب خطورة الوثائق المكتشفة على الأخبار التوراتية وردّها على المحاولات الطائشة الصهيونية لطمس نتائج الأبحاث المرفقة لها، وبالمقابل الكشف عن افتراءات التأويل المغرضة والمحرفة لمضمون هذه الوثائق، فكان «انتصار العلم على الهجمات المتصهينة حاسماً، لذا لا بدّ من إعادة النظر في مفهومنا للتاريخ القديم الذي أسس التاريخ الحالي، والتخلي عن الخرافات والحكايات والأساطير، واللجوء إلى الرقم والألواح الفخارية التي تثبت حضارتنا العريقة في كل من أكاد وكنعان وآرام وفينيقيا، وهي أصول العربية الأولى، فلا سبيل إلى فهم التاريخ ودور الإنسان الحقيقي في تكوينه الإنسان السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي إلا عن طريق التنقيبات والكشوف الأثرية والوثيقة، وليس الحكايات والأسطورة كما في إلياذة هوميروس وتوراة أحبار اليهود.

ريادة بهنسي

يتقدم بهنسي في صفوف الباحثين العرب الموسوعيين، فلقد تجاوزت مؤلفاته باللغة العربية السبعين كتاباً ومجلداً، بدأ رحلة نشرها عام 1960 ولا زالت مستمرّة حتى وفاته، إضافة إلى أربعة وعشرين كتاباً بأكثر من لغة أجنبية منها: الفرنسية، والإنكليزية، والألمانية، والإسبانية، وجميع هذه المؤلفات تدور حول الفنون التشكيلية والعمارة والآثار في سورية والوطن العربي والعالم، خلال مراحلها التاريخية المختلفة، حيث سعى من خلال الكتب التي قدّمها خلال رحلته العلمية الطويلة في مجال الآثار والعمارة والفنون إلى إيصال فكرة للسوريين بأن «أجدادهم هم مَن صنعوا هذه الحضارة العظيمة، وشدّد على ضرورة الحفاظ عليها وصونها لأننا نمر في مرحلة نحتاج فيها أن نعزز ثقتنا بأنفسنا وأمتنا وكرامتنا وقوتنا وإمكانياتنا لكي نستطيع أن نجابه كل ما نتعرّض له من هجمات شرسة على بلدنا وحضارتنا ولنتمكن من محاورة العالم كله».

توفي العلامة الكبير بهنسي يوم الخميس في الثاني من تشرين الثاني عام 2017 في دمشق عن عمر يناهز التاسعة والثمانين عاماً، وشُيّع يوم السبت في جامع الروضة بدمشق، ودفن في مقبرة الشيخ رسلان.

 

*باحثة في التاريخ.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى