نقاط على الحروف

بايدن وترامب وجهان لعملة واحدة: كلام غير كافٍ وغير سياسيّ

 

 

 ناصر قنديل

ينقسم المتابعون للحدث الأميركي المتمثل برحيل الرئيس السابق دونالد ترامب وبدء ولاية الرئيس جو بادين، بين مرجعيتين فكريتين سياسيتين، واحدة مساندة لمحور المقاومة وأخرى مساندة لمحور ثنائي حكومات الخليج وكيان الاحتلال. وفي الفريق الأول تياران، واحد يقارب الموضوع من خلفية مبدئية غير سياسية، وغير مطروحة للنقاش، وعنوانها أن الإدارتين وجهان لعملة واحدة، ورغم صحة العنوان إلا أنه غير سياسيّ وغير كافٍ لمن يريد فهم الأمور في السياسة. فإدارة أوباما وإدارة ترامب ينطبق عليهما الوصف ذاته، لكن واحدة منهما أبرمت الاتفاق النوويّ والثانية ألغته، وقد تصرفتا بالعكس في ملف سورية. فواحدة جرّدت الاساطيل لشنّ حرب، وهي إدارة اوباما، والثانية اكتفت بعمليات حفظ ماء الوجه، رغم أنها ختمت ايامها بقانون قيصر للعقوبات، أما التيار الثاني في هذه المجموعة، فيُخشى اتهامه بالرهان على بايدن وإظهار ذلك كضعف لمحور المقاومة وتصويره ساعياً لتقديم أوراق اعتماده لدى إدارة بايدن بحثاً عن مخارج من نظام الحصار والعقوبات، فيقدم في السياسة ما يقول إن ادارة بايدن لن تغير شيئاً عن إدارة ترامب في مقاربة ملفات المنطقة. اما في الضفة المقابلة فتياران أيضاً، الأول يريد الترويج لقراءات وتحليلات عن ثبات بايدن على خيارات ترامب، وإقفال الباب أمام فرضيات أي تغيير، وكل ذلك ضمن مستلزمات حرب إعلامية ونفسية لحماية معنويات جمهورها القلق من حدوث هذه التغييرات، وتيار ثانٍ يريد خلق مناخ إعلامي وسياسي يقدم مواقفه برفض الاتفاق النووي ودعوته للتصعيد يوجه محور المقاومة بصفتها تعبيراً عن حلف يجمعه مع الإدارة الأميركية الجديدة لإحاطة هذه الإدارة بمناخ إعلامي يعقد عليها مهمة التغيير. وبحصيلة هذا المشهد يقفل باب السياسة، ويردّد الجميع مقولة واحدة، لا شيء سيتغيّر. والمصيبة انه عندما يتغير شيء يخرج هؤلاء جميعاً ويقولون، لقد كنا أول من توقع حدوث التغيير.

القراءة السياسية مطالبة بالابتعاد عن المخاوف وعن الرغبات، ويجب أن تقوم على الوقائع المجردة بعيداً عن الخيار السياسي والعقائدي، ومهمتها أن تلاحق أبسط التفاصيل وتحاول ملاحظة المسارات التي ترسمها، وعندها يعود لصناع السياسة أن يبنوا خياراتهم وأن يقيموا حساباتهم، وأن يصنعوا خطاباً إعلامياً له الحق بأن يُخفي حساباته بلغة ترفع سقوف التفاوض أو أن يمدّ عبرها الجسور، والقراءة السياسية المنطلقة من خلفيّة موقع كحال المنتمين لمحور المقاومة، مطالبة بعدم التهوين من قيمة ما أنجز هذا المحور، أو من قيمة وعمق المأزق الأميركي وفشل سياسات ترامب في تحقيق أهدافها وتأثيرات ذلك على رسم السياسات الجديدة، من دون خشية وقوع ذلك في دائرة توصيفه كنوع من الرهان على غير قوة المقاومة وصمود محورها، ورصد كل تغيير بصفته نتاجاً لهذه القوة لأنه فعلاً كذلك، وإلا ما قيمة الانتصارات ما لم تصنع في عقل صنّاع القرار على الضفة المقابلة اليأس من رهاناتهم والاقتناع بفشل سياساتهم. وهذا يعني البحث عن بدائل، ألم يكن ذهاب إدارة أوباما الى الاتفاق النووي تعبيراً عن ذلك، كما قال أوباما نفسه، بأنه إذا كانت الأولوية هي عدم امتلاك إيران لسلاح نووي، فإن لذلك طريقاً وحيدة، هو الاتفاق الذي يترجم بضوابط تحكم الملف النووي الإيراني، مقابل رفع العقوبات؟

لا يمكن استنتاج الاستراتيجية الجديدة لإدارة بايدن من خلال الاكتفاء بالخطاب المشترك بينها وبين إدارة ترامب وإدارة أوباما وكل ادارة أميركية أخرى، مثل التحالف مع كيان الاحتلال والعداء لمحور المقاومة، ورفض السلاح الصاروخي لإيران، ورفض تحالفاتها الإقليمية، والسعي لتعديل الاتفاق النووي نفسه، وتوصيف حركات المقاومة بالإرهاب، بل يجب البحث عن الأمر الجوهريّ الذي يرسم السياسات وهو الإجابة على سؤال، كيف ستتحقق الأهداف وما هي الأولويات المرسومة بينها، وهنا كان واضحاً ان ادارة اوباما وضعت الاولوية بعدم حصول إيران على السلاح النووي بعدما جربت تخديم كل الأهداف معاً، ووصلت بعد اختبار العقوبات الى أن السبيل الوحيد هو الانخراط في الاتفاق النووي، وفي الجواب على السؤال نفسه يقول توني بلينكين وزير خارجية بايدن في كلمته أمام لجان الكونغرس طلباً للتصديق على تعيينه أن بين الأهداف المطلوبة في مواجهة إيران، يشكل منع امتلاك إيران للسلاح النووي الأولوية، وان الاتفاق النووي مع إيران ورفع العقوبات حققا بقاء إيران على مسافة سنة من هذا الخطر، بينما سياسات ترامب بالانسحاب من الاتفاق والعودة للعقوبات جعلتها على مسافة ثلاثة شهور فقط، ومهلة الثلاثة شهور تستدعي رسم سياسات عاجلة للعودة الى مسافة السنة الفاصلة، وليس خططاً طويلة المدى او حتى متوسطة المدى.

نشرت الغارديان وتداولت وكالات الأنباء، خبراً عن اتجاه بايدن لتعيين روبرت مالي مشرفاً على ملف إيران في إدارته، ومالي صديق شخصي لبلينكين والمتشارك معه في الكثير من الرؤى والخيارات غير الثقافة الفرانكفونية التي تجمعهما بعدما تشاركا التعلم والدراسة في فرنسا في مدرسة واحدة، وهو من أبرز مفاوضي ادارة اوباما بايدن في صناعة التفاهم النووي مع إيران، وقد تحدث عن صعوبات العودة للاتفاق النووي بالنسبة للفريقين الأميركي والإيراني لكنه حسم حتمية هذه العودة، لأنها ممر إلزامي لا غنى عنه، مضيفاً ملامح أخرى للاستراتيجية التي أنضجها فريق بايدن للسياسة الشرق أوسطية، اهمها رفع العقوبات عن انصار الله في اليمن، والضغط على السعودية والإمارات لوقف حرب اليمن، والتراجع عن الاعتراف بالسيادة المغربيّة على الصحراء الغربية بصفتها رشوة غير قانونيّة لدفع المغرب نحو التطبيع معاسرائيل، وإيقاف السماح ببيع دولة الإمارات طائرات الـ أف 35 للسبب ذاته، وسحب مشروع صفقة القرن كإطار لحل القضية الفلسطينية، وبالمقابل تعزيز دعم الأكراد في سورية، ورسم تصورات لم تتبلور بعد للأوضاع في سورية والعراق وافغانستان.

مناقشة وتحليل المسارات التي سترسمها مواقف بايدن وفريقه بعيداً عن المخاوف والرغبات، وبعيداً عن الخوف من الوقوع تحت إرهاب التصنيفات، شرطان لامتلاك تصور دقيق عما سيحدث، أما مهمة أخذ المواقف فهي لصناع السياسة الذين يستفيدون من قراءة التحليلات الدقيقة لبناء مواقفهم.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى