مقالات وآراء

الكورونا..
وسواس الخوف من الموت

} د. عيشة أحمد حبلص*

كورونا الواقعة والحقيقة التي اقتحمت أجساد البشر وأرواحهم وتغلغلت في النفوس والعقول مزعزعة أسلوب الحياة الطبيعي، حيث تحوّلت البشرية الى نوع آخر من الحياة، عنوانه القلق والخوف من الموت ما أعاد لغريزة البقاء وجودها في خلايا التفكير بعد أن سيطرت السخرية وعدم المبالاة على طريقة التعامل مع كوفيد 19. لنرى بعد اقتحام الفايروس وسرعة انتشاره تحوّلاً كبيراً نحو حالات القلق والخوف والهلع.. الأمر الذي استدعى التعامل مع هذه الظاهرة بشكل علمي، خاصة انها شاملة لمفاهيم عديدة ونظريات قديمة وجديدة..

 إلا ان التفسير العلمي لهذه الظاهرة الواقعة، يضعها في خانة الأزمة أولاً. فالأزمات ستظل دائماً المحفز الرئيسي والقوة الدافعة لتشكيل المفاهيم وصياغة النظريات الاجتماعية، بما يجعلها بمثابةنوافذ فرصزمنية للبحث عن إجابات حول تحديات وظواهر مقلقة يعيشها الوجود الإنساني في لحظة ما أو فترة زمنية معينة. ولعل أزمة انتشار فيروس كورونا المستجدّ خير برهان على تلك الفرضية التي طالما أثبتت مجريات العصور صحتها حتى لحظتنا الراهنة.

فمع تفشي الوباء الذي غير مجريات الحياة في العالم، ظهرت أطروحات معرفية في إطار ما يمكن وصفه بـأبستمولوجيا الأزمات، وهي المعرفة النظرية والتطبيقية التي تخرج من رحم الأزمات والملمّات واسعة النطاق والتأثير على الأفراد والمجتمعات والدول. صحيح أن وقع الأزمة وانشغال الناس بوقعهاالمميتربما لم تفرز بعد الإطار المعرفي المتماسك حول تلك الظاهرة وتداعياتها، لكنها تتجه رويداً رويداً نحو مزيد من البحث عن مفاهيم ومصطلحات لوصف الواقع الجديد.

 ووفقاً لورقة بحثية منشورة بالدورية الأميركية لعلم الاجتماع، يرى العالم غابريال تارد أن من الممكن تعميم ما يُسمّى بـعملية الاقتراح والمحاكاةلفهم ظواهر اجتماعية مختلفة، حيث إنهبقيام الإنسان بسلوك ما يقدم اقتراحاً يمكن للأخرين محاكاته، وأن عملية الاقتراح والمحاكاة تقدم تفسيراً لقدرة الأشخاص على التأثير على بعضهم البعض، وهو ما يفسر بالتالي التغييرات التي تحدث في المجتمع.

أما أبرز التغييرات التي سببها فايروس كورونا في المجتمع فهي الانتقال الى علاقات اجتماعية جديدة عنوانها التباعد الجسدي والتقارب الافتراضي.. بالإضافة الى الحجر المنزلي الذي أعاد الروابط الأسرية والتضامن بين الأهل والأبناء.. وبالتالي الابتعاد عن المتنفس الطبيعي للإنسان من العمل الى الأصدقاء فالأقرباء.. بالاضافة الى الأماكن الأخرى التي كانت تمثل مسرح الحياة..

أما المقاربة العلميّة هنا، فتفترض التغييرات الحقيقية في السلوك الإنساني وفي واقعه الاجتماعي والنفسي.. وبالتالي سنأخذ الشق النفسي باعتباره أحد أبرز النتائج السلبية والمستمرة للجائحة. “فالضغط النفسي والخسائر الكبيرة الناجمة عن حالات الطوارئ الإنسانية قد تولد الحزن والخوف والذنب والعار واليأس، فترفع من خطر الإصابة باضطراب اكتئابي معتدل إلى حاد”. وهذا واقع فرضته الجائحة على البشرية جمعاء، فبات الخوف من الإصابة بالفايروس حالة شاملة يمكن تعميمها على كل المجتمعات الانسانية، وبات القلق جزءاً لا يتجزأ من حياة كل انسان عاقل مدرك طبيعة الأزمة وخطورتها. والأخطر من هذا هو حالة الضياع التي رافقت التفكير الانساني الذي بات يتخبط بالهلوسات والوهم والأفكار والاحتمالات والتوقعات.. 

يقول ادغار موران: «إن الأزمة لا تظهر فقط عند حدوث انكسار داخل اتصال، أو عند حصول زعزعة داخل نسقٍ يبدو ثابتاً، لكنها تظهر أيضاً عندما تتكاثر الاحتمالات وبالتالي التقلبات”. وعليه نرى أن حالات الخوف من الموت كانت طاغية على كل الاحتمالات الأخرى على الرغم من استبعاد البعض لهذا الاحتمال باعتبار الوازع الديني والالتزام بمشيئة الخالق.. ومع ذلك نرى أن وسواس الخوف من الموت كان وما زال المفهوم الأبرز الذي عمّقت وجوده جائحة كورونا.. باعتبار أن الموت حقيقة تهدّد وتخيف الكثير من الأشخاص، إنّ لكل شخص نظرتُه وطريقته في التعامل مع فكرة الموت، إلّا أنّ الوسواس من هذه الفكرة يعتبر من أنواع مرض القلق، من المُمكن أن تصل في بعض الحالات لأن تمنع الشّخص من القيام بنشاطاته اليوميّة وعيش حياة طبيعية، هنا يُصبح الخوف من الموتِ مرضاً يحتاج لمتابعة وعلاج.. 

أما ابرز النظريات التي أعادها فايروس كورونا الى التداول والتي ترتبط بشكل مباشر بالنظريات المفسرة لوسواس الخوف من الموت نظرية تدبر الهلع: تنسب هذه النظرية الخوف من الموت لقدرة الفرد على التحليل وإنشاء التوقعات وكيف ينظر لنفسه، حيث إنّ هذه الأمور تزيد من وعيه بالموت وتقوم بإظهار استجابات انفعاليّة خاصة به، من الممكن أن تتطوّر لتصبح وسواس خوف من الموتِ..

من هذا المنطلق، نرى أن هذه النظرية باتت الأكثر تداولاً منذ لحظة التفشي المجتمعي لجائحة كورونا.. فبعد فقدان السيطرة على احتواء الفايروس والعودة الى الالتزام بالحجر المنزلي اقتحم الوسواس العقول وحولها الى منصة للخوف والقلق. كما أن الإمعان في العزل الاجتماعي، والوحدة، والقلق، والتوتر، هي بمثابة عواصف قوية تجتاح الصحة النفسية للناس. لذلك الأولوية يجب أن تكون مراقبة معدلات القلق، والاكتئاب، والإضرار بالنفس، والانتحار وغيرها من الأمراض التي تصيب النفس

في النتيجة، هناك أزمة حقيقيّة يعيشها العالم اليوم في ظل تفشي وانتشار كوفيد 19.. وستكون هناك مقاربات ونظريات ومفاهيم عديدة قديمة وجديدة.. إلا أن التحليل السوسيولوجي والنفسي سيحتاج لدراسات وأبحاث معمقة للوصول الى النتائج الحقيقية لما سببته الجائحة على كل المستويات الانسانية والحياتية.. فالنتائج العلمية الدقيقة وحدها كفيلة بتقديم الإجابات عن كل الأسئلة والهواجس.. وبإمكانها أن تساعد في التخفيف من وطأة الخوف والقلق وتسهّل طريق العودة إلى الحياة الطبيعة..

*كاتبة وباحثة اجتماعية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى