ثقافة وفنون

المعلم رشيد

زياد كاج*

 البرد القارس وسكون الليل الموحش، يسرّحان الخيال من عقاله. لكنه وقف بجرأة على الطريق الدوليّة وسط عتمة لم تترك له ونيساً سوى ضوء القمر وصدى دعسات حذائه العسكريّ على الزفت وصوت فقش الموج على الشاطئ القريب تحت. يحب الوحدة وقلبه منحديدمما نجّاه من الكثير من العقوبات بسبب ميله للمشاغبة ومنحه رضى الضابط المسؤول.

 « ما عاد تحرز، قال بصوت مسموع كي يردع نفسه من إشعال سيجارة ستكون رفيقته الثانية الى جانب بندقيّته المتدلية من كتفه الأيمن والرصاصة في بيت النار. الخطر كبير خلال المناوبة ليلاً على الحاجز الذي يُعتبر بوّابة محافظة الشمال. على بضعة أمتار كان رفاقه والرقيب غارقين في نوم عميق على أسرّتهم الحديديّة في خيم خلف حائط حجري غير مدهون. هو فقط الآن مسؤول عن سلامتهم وسلامته الشخصيّة وأمن الحاجز. «شهر وتكون مع الأهل يا رشيد.. شهر فقط”.

 أمضى ما يقارب السنة فيخدمة العلم” (الخدمة العسكرية الإلزاميّة في بلده) براتب رمزيّ كان بالكاد يغطي مصروف المواصلات. يأخذ مصروفه من أبيه بخجل وإحراج لمعرفته بأحوال أبيه الماديّة السيّئة. لم يدخل الجامعة، لكنّه برع في مهنةمساعد ميكانيكي سيارات”. عمل في الكراج المواجه لمكان سكنه تحت إشراف المعلمأبو نزيهالذي علّمه أسرار المصلحة بعد أن اكتشف فيه موهبة وسرعة التعلم. ترك تلك الصنعة وارتدى البذلة العسكرية مجبراً. لكنه لم يندم لاحقاً. فالبعد عن الأهل والإقامة في معسكرات في مناطق مختلفة والتدريب العسكري القاسي ومخالطة شباب من كافة أرجاء الوطن.. كلّها أمور وسّعت أفقه وثقلت شخصيته. خلال الإجازات الأسبوعيّة كان يمضي السهرات الطويلة مع أهله وأخوته الصغار الذين كانوا يستمتعون بقصصه ومغامراته مع رفاقه خلال الخدمة فيبدو لهم كأنه آتٍ من عالم الخيال. الرقيب المشرف على معسكرهم كان ظالماً ومتشدداً. فقرّر رشيد الانتقام منه قبل خلع البذلة مهما كانت العواقب. ففي نهاية يوم تدريب طويل تخلّلته رماية بالأسلحة الرشاشة، خرج من أحد الحمامات التي كانت عبارة عن غرف صغيرة صنعت من ألواح التنك على مسافة من المخيم. سأله الرقيب وهو خارجٌ من الحمام: “كيف المي يا رشيد؟”.

« سخنة سيّدنا.. سخنة متل النار”.

دخل الرقيب الحمام ليستحمّ. كانت المياه باردة جداً وسمع المعسكر سباب الرقيب وهو يركض في الغرف لافاً نفسه بمنشفة غطّت نصف جسده. حُرم رشيد يومها من إجازته لأسبوعين وكان عليه أن ينظّف المراحيض عدا عن تقشير كميات هائلة من البطاطا في المطبخ.

 مرّ على مناوبته في تلك الليلة الباردة أكثر من ساعة ولم تمرّ سيارة ولا شاحنة. الإنسان يتسلّى برؤية الناس، ممكن أن يفتح حديثاً مع أحدهم. صار يتمشّى ذهاباً وإياباً كي يدخل الدفء الى جسده النحيل. “خلص ما عاد بدها”.

 أشعل سيجارة.

 كأنها أطيب سيجارة يدخنها في حياته. يتجنّب عادة التدخين أمام والده احتراماً له. أخذ يتأمل دوائر الدخان الخارجة من فمه وخلفها الأفق البعيد وضوء القمر المنعكس على مياه البحر الداكنة. شعر بضوء آتٍ من بعيد من جهة اليسار. “هلق وقتها!”. كانت سيارة متوجهة نحو الحاجز بسرعة لافتة مما جعل نور أضوائها الأماميّة أقوى. أطفأ السيجارة بسرعة ورماها بعيداً وتموضع خلف المتراس والأصبع على الزناد.

 خفّف السائق من سرعته حتى وصل الى نقطة عليه أن يقف كي يرى الجنديّ وجهه. أضاء الضوء الأماميّ فوق المرآة حسب الأصول، لكنه لم يُنزل الزجاج. حدّق رشيد في وجهه وأطال: “وين شايف هالوج مش غريب عليي

 ترك المتراس واقترب من باب السائق، وأشار اليه بإنزال الزجاج احتراماً للبذلة. استجاب السائق الخمسيني، لكنه قال متذمراً:

« إذا بتعمل معروفهاي وراق السيارة وهويتي.. أنا مستعجل”.

حدّق به مدققاً فحضرت كلالعفاريتفي رأسه دفعة واحدة.

« ما عرفتني إستاذ؟».

« لا والله مين حضرتك؟، قالها وعلامات الضيق بدأت ترتسم على وجهه الأمر الذي أزعج المجنّد الشاب أكثر. فقرّر أنيمسّح به الأرضبطريقة لن ينساها. كان بينهما حساب قديم نسيه السائق.

« افتح الصندوق، أمره، ففعل. طلب منه نكش كل الأغراض: كبيرها وصغيرها. ثم طلب منه بعد ركن السيارة الى جهة اليمين وإطفاء المحرّك أن يفتح الغطاء الأمامي. استغرب الرجل وبدأ بطرح الأسئلة. “أوامر، كان يردّد رشيد مع طرح كل سؤال. دقّق أكثر بأوراقهلوين رايح؟، ومن وين جايي؟”.. أسئلة خرجت ببرودة ولؤم من فمه زادت من توتّر الرجل. لعب على أعصابه حتى تعرّق في ليلة باردة. أمره بتحريك المقاعد وكل ما في السيارة. استمر رشيد يتسلّى بضحيته لأكثر من ساعة حتى فقد الرجل أعصابه وبدأ بالصراخ مهدداً بالاتصال بضابط كبير من أقاربه. خوفاً من أن يستيقظ الرقيب، طلب منه الصعود الى السيارة والاتكال على الله”.

 « ما تذكّرتني استاذ؟سأله وهو يتكئ على باب السيارة ووجهه يكاد يدخل الشباك.

« لا واللهمين حضرتك؟، أدار المحرك بعصبية.

« أنا رشيدتلميذك بالمدرسة الرسمية بالضيعة”.

 أنطلق الرجل بسرعة من دون إجابة ليكمل مشواره شمالاً، ورشيد يتأمل السيارة تصغر وتختفي في بُعد المسافة وعتمة الطريق.

  كان هذا الرجل أستاذ مادة الرياضيات في المدرسة الرسميّة في قرية رشيد يوم كان تلميذاً يتابع دراسته الثانوية. كما القرية التي كانت مختلطة وتتعايش طائفياً، كذلك كانت المدرسة المختلطة. الجميع كان يطلب رضاه، لأنه كان تلميذاً متفوقاّ خاصة في مادة الرياضيات. الإدارة والطلاب توقّعوا له أن يحتلّ المرتبة الأولى في امتحانات الباكالوريا على مستوى المحافظة. قصة حب كانت قد انتشرت أخبارها في المدرسة بينه وابنة أستاذ مادة الرياضيات المعروف بتعصبه لأبناء ملّته. الإدارة كانت تتلقى شكاوى ضد هذا الاستاذ لكنه كان مدعوماً وممنوعة محاسبته أو نقله. كبر الحب بين رشيد وابنة الأستاذ وتخطت أخبارهما أسوار المدرسة وصولاً الى القرية. فصار الأستاذ يكره رشيد لسببين: حبه لابنته الذي صار على كل لسان ولكونه من طائفة أخرى. حذّر ابنته مراراً من دون جدوى، فصار يعطى علامات لها أفضل من حبيبها كي يبثّ بينهما التفرقة. كان الشاب الطموح أشطر من حبيبته في تلك المادة بكثير، لكنه كان يرضى بعلامات أقلّ كي لا يخسرها. حقده على معلمه المتعصّب كبر مع امتداد نيران الحرب الأهلية الى منطقتهم. اُغلقت المدرسة أبوابها، هُجّرت القرية، وهرب أهل رشيد الى ضاحية بيروت الجنوبيّة.

  بقي رشيد مولعاً بمادة الرياضيات ونسي مع الأيام تلك الفتاة. كان عليه أن يساعد أبيه في مصاريف البيت. فارتدى ثياب البالة ونزل الى كاراجالمعلم أبو نزيهبصفة صبي مساعد.

 تدحرج الزمن بسرعة أمام عيني الشاب الذكيّ والعنيد. صار يُدعىالمعلم رشيدبعد أن افتتح كاراجه الخاص الذي يقصده الزبائن باكراً لتصليح سياراتهم عند ميكانيكيآدمي وشاطروهي صفة نادرة تشبه البحث عن إبرة في كومة قش البلد ونفاقه.

 انتهت الحرب وسكت المدفع. ناداه الوطنالمشروع فلبّى نداءخدمة العلم”. وفي ليلة قدرية على ضوء القمرتفوّق على أستاذهفي مادة الرياضيّات واستعاد في ساعة كل علاماته المنهوبة، واستعاد حبيبته وكرامته.

فاستحقّ وبجدارة لقبالأستاذ رشيد”.

 *روائي من لبنان

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى