مقالات وآراء

السبيل لمواجهة الأزمة وتداعياتها المستمرة

} ابراهيم ياسين

بعدما تحوّلت الانتفاضة الشعبية إلى احتجاجات وأحداث متفرّقة بين الفينة والأخرى، أخذت طابعاً عنفياً شهدنا نموذجه في وسط بيروت في الأشهر الماضية وحالياً في طرابلس، وبفعل المعاناة الحياتية اليومية التي يعيشها اللبنانيون من جراء الأزمة المالية والاقتصادية والمجتمعية والسياسية، بفعل غياب وعجز الطبقة السياسية عن إيجاد الحلول الناجعة لهذه الأزمة التي أصبحت مستعصية على الحلّ بفعل استمرار وجودها وسيطرتها على كلّ مؤسسات الدولة.

محاصصة طائفية وفساد مستشر لدى الأكثرية الساحقة من السياسيين اللبنانيين على مختلف توجهاتهم السياسية وانتماءاتهم الطائفية، والذين لم يُرَفُّ لهم جفن خاصة بعد انفجار مرفأ بيروت وما تلاه، وما آلت إليه الأمور الحياتية والصحية التي يعيشها معظم اللبنانيين.

الأحداث الأخيرة التي حصلت خلال الأيام القليلة الماضية شكّلت تعبيراً فاضحاً عن حجم الأزمة الاقتصادية والمالية والاجتماعية والسياسية التي يعاني منها جميع اللبنانيينوبلغت في الآونة الأخيرة مرحلة مرهقة للاقتصاد والعجز المتزايد في الموازنة العامة والتردّي الحاصل في الخدمات العامة في الدولة وتراجع التقديمات الاجتماعية والصحية، خاصة بعد استفحال وباء كورونا وتزايد عدد الإصابات والوفيات التي تسقط يومياً من جرائهإضافة إلى الإقفال العام الذي تعيشه البلاد بسبب هذه الجائحة، زاد من تضعضع الدولة وإرباكها فلم تقدّم ما يلزم من مساعدات مالية للأسر الفقيرة والمُعْدمة والمحتاجة والتي تعيش يوماً بيوم.

هذه السياسات التي مارستها الحكومات الحريرية منذ ما بعد الطائف انطلاقاً من تنفيذ السياسات الغربية في لبنان لجعل لبنان أكثر تبعية وارتهاناً للغرب، والتي تَصُبُّ أيضاً في خدمة المشروع الصهيوني والعداء للمقاومة

هذه الأزمة الاقتصادية والمالية التي انفجرت على هذا النحو الكارثي ليست فقط بسبب تراكم الدين العام بل أيضاً بسبب التدمير الممنهج للاقتصاد الإنتاجي، وتخلي الدولة اللبنانية عن مواردها لصالح الشركات الخاصة والمحتكرة والمرتبطة بذاك السياسي، أو بذاك المسؤول الذي هو بدوره مرتبط بهذه الدولة أو تلك، وتدمير وتخريب المؤسسات الخدماتية للدولة على غرار الكهرباء مثلاً.

ونتيجة لاشتداد الحصار الأميركي المالي الذي استهدف مفاقمة الأزمة لاستغلالها عبر ركوب موجة الاحتجاجات الشعبية من أجل إحداث انقلاب سياسي أميركي على السلطة في لبنان على غرار انقلاب عام 2005 على أثر اغتيال الرئيس رفيق الحريري، هدف أيضاً إلى تحقيق التالي:

أولاً: إخضاع القرار اللبناني السياسي والمالي والاقتصادي للتبعية الكاملة للولايات المتحدة الأميركية عبر فرض شروط صندوق النقد الدولي لمنح لبنان بضعة قروض مشروطة لمعالجة أزمته المالية، والتي بانت مؤشراتها من خلال بعض الأوراق التي قُدّمت إلى مجلس النواب من قبل بعض الوزارات بحجة ترشيد الدعم.

وفي حال تمّ إقرار مشروع الموازنة العامّة للعام 2021، والتي تضمّنت من ضمن ما تضمّنته ثلاثة بنود تَنْقَضّ على الحقوق المكتسبة للقطاع العام وتمسّ الأمن الاجتماعي والوظيفي للأساتذة ولجميع الموظّفين في القطاع العام وهي تشمل التالي:

ـ تخفيض التصنيف الصحّي لأساتذة التعليم الثانوي من الدرجة الأولى نحو الدرجة الثانية. (المادة 105 من الموازنة العامّة).

ـ حرمان الموظف الجديد القادم للوظيفة العامّة من المعاش التقاعدي بعد إقرار الموازنة ويُعامَل مُعاملة المنتسبين للصندوق الوطني للضمان الاجتماعي وهذا ما يفتح باب التعاقد الوظيفي (المادة 106).

ـ حرمان ورثة الموظف المُتوّفي من المعاش التقاعدي واحتساب نسبة 40% فقط من قيمة تقاعده (المادة 107).

 وهذا البند يُدمِّر القطاع العام آخر عمود من أعمدة وجود دولة المؤسسات.

ثانياً: فرض اتفاق ترسيم الحدود البحرية بين لبنان والكيان الصهيوني بما يُحقق الأهداف والأطماع الصهيونية بثروات لبنان، وأيضاً لتكون نوعاً من أنواع التطبيع والاعتراف بـ «شرعية» وجود كيان العدو في المنطقة، ويمنع توجه لبنان شرقاً عبر استمرار القطيعة مع سورية والالتزام بتطبيق «قانون قيصر».

ثالثاً: وهذا بيت القصيد، العودة إلى محاصرة المقاومة عبر تجديد الحصار عليها، وتأليب البيئة الشعبية ضدّها بهدف نزع سلاحها لا سيّما الصواريخ الدقيقة التي تُقْلق كيان العدو الصهيوني، وبالتالي التخلص من قوة المقاومة التي تحمي لبنان من الاعتداءات والأطماع الصهيونية وتُشكل سنداً لسورية وكلّ قوى المقاومة ضدّ الاحتلالين الصهيوني والأميركي.

 ومنذ انطلاقة الإنتفاضة في 17 تشرين الأول إلى اليوم هناك قوى سياسية داخلية وإقليمية تنفذ هذا التوجّه الغربي الأميركي عبر استغلال أزمة الناس الاجتماعية المتفاقمة لفرض شروط تتماهى مع هذه الأهداف الغربية الأميركية، وهي التي تُعطّل تشكيل حكومة وطنية، للخروج من الأزمة السياسية ومعالجة الأزمة الاقتصادية والمالية والاجتماعية المتفجرة في البلاد.

هناك ثغرة في أيّ لقاء أو أيّ جبهة أو تحالفٍ لا يلتقي على هذا الأساس، ولا يمكن عندها بلورة إرادة وطنية حقيقية للتصدي لهذه الأزمة والخروج منها، ولا توجد إمكانية لمعالجة هذه الأزمة ووضع حدٍّ للسياسات التي تسبّبت بالأزمة وتشكيل حكومة وطنية إنقاذية جامعة، بدون التصدي للضغوط والإملاءات وللتدخلات الأجنبية ورفض شروط صندوق النقد الدولي، ومعالجة الأزمة بالتوجه شرقاً مع إبقاء العلاقات مع (الغرب حيث تقتضي المصلحة الوطنية)، وحيث تتوافر الفرصة للنهوض بالاقتصاد الوطني وحلّ المشكلات المزمنة التي يعاني منها لبنان.

ـ هذه هي الرؤية التي من الممكن أن تشكل أيّ إطار وطني جامع للتصدي لهذه الأزمة العاصفة في البلاد والنابعة من ضرورة التوصّل إلى ميزان قوى وطني عريض عابر للطوائفولا يمكن التوصل إلى ذلك إلا عبر نضال حقيقي يصنع الأحداث لا أن يَنْفَعِل فيها.

ـ برنامج وطني تغييري يبني ويُرسي دعائم دولة المواطنية، الدولة الوطنية المدنية العلمانية، لا دولة الطوائف والمذاهب والمزرعة.

ـ قيادة وطنية نزيهة وغير مساومة تقود عملية التغيير إلى برِّ الأمان لتحقيق المطالب والأهداف المنشودة.

ـ قانون انتخاب وطني عصري مع النسبية وخارج القيد الطائفي مع جعل لبنان دائرة انتخابية واحدة وتخفيض سن الإقتراع إلى ثمانية عشرة عاماً.

المواجهة ستبقى مستمرة ولا يمكن للتغيير أن يتحقق دون مواجهة ومحاسبة واسترجاع المنهوب أياً كان حجمهوالمطلوب بديل وطني وازن وجامع وعابر للطوائف والمذاهب يصنع الدولة الوطنية الواحدة والعادلة لكلّ الشعب اللبناني.

ولا يُمكن ذلك إلا بقيام تحالف جبهوي واسع وعريض عابر للطوائف يصنع لبنان الوطن الواحد الديمقراطي العلماني.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى