ثقافة وفنون

سيرة البدوي ومشاغله

 

} مصطفى بدوي ـ المغرب

حسن في السينما:

في غمرة العنفوان الطفوليّ وفي غياب المغريات عدا المدرسة، كانت السينما عالماً ذا جاذبية سحريّة في مخيالنا الجمعي.

كان تداول الأفلام يمتدّ أسابيع طويلة في جدالنا اليومي ونحن نلتقي في زاوية قصية من الدرب تحت عمود الإنارة الخشبيّ الذي من فرط قضمه وتقشيره صار نحيل الخصر، ضامر الجهة السفلى منه.

كان «حسن الصواب» أحد دهاقنة السخرية والمستملحات في ذلك الزمن وكان يكبرنا بسنوات عجاف. غادر المدرسة في سنة الشهادة الابتدائية وكان رساماً عصامياً، موهوباً في صناعة الفرح والكلام كما قد لا يتخيّل أحد. كان ينام غالباً أثناء النهار ولا يظهر إلا بعد الأصيل لنتحلّق حوله في ما يشبه حلقة براغ أو موسكو الشكلانية. كانت حلقته شبيهة في تمثلاتي الراهنة الآن بتلك الحلقات لأنه كان فعلاً «يشكل» علينا بشطحات خيالاته ويسبح بنا في عوالم غرائبية من بنات أفكاره المستلهمة مما يوحي به له غليون «الكيف» الكتامي. يحكي لنا عن عجائب أسفاره في غرائب الأمصار وعجائب الأحراج وطرائف النظار. وبالفعل، كان يغيب لمدد قد تصل الثلاثة أشهر حتى لنكاد أن ننساه ويدخل في دائرة الذكرى حيناً وغياهب النسيان حيناً آخر. الأهم، كان «حسن الصواب» حكواتياً مفوّها وسارداً من طراز نادر. لم يكن أحد في «الحومة» يقوى على مجاراته في بلاغة الحكي، إذ كان يسيطر على الأنفاس ويتحكّم في إيقاعاتها وهو يروي لنا نحن الحيارى الصغار والمراهقين فتوحاته في حله وترحاله، في أسفاره وعجائب مشاهداته وفتوحاته. كان يمتلك قدرة نادرة في شحن قصصه بتوابل الخيال الساخر مما كان يضفي عليه هالة كاريزميّة قلّ نظيرها، باختصار.

ومن إبداعات «حسن الصواب» أنه اقترح علينا نحن الصغار أن نجمع فيما يشبه الاكتتاب ما يكفي في كل أسبوع كي نوفر له تذكرة سينمائية ليحكي لنا بحكم موهبته الفيلم الذي اشتركنا في أن يحظى هو الألمعي بمشاهدته. كنا ننتظر عودته بترقب شديد بعد انتهاء الفيلم فيما يشبه حال من ينتظرون عودة البطل الإشكالي وكلنا رغبة في معرفة ما سيتكرّم به حسن المغوار علينا من حكي جذاب. كانت عودته مشوبة بإجلالنا لشخصه الكبير وجنابه الموقّر. يقرئنا حسن السلام وهو يتفرّس في وجوهنا واحداً.. واحداً ليقرأ أفق انتظار كل من يمتلك سهماً بحكم المساهمة أولا،ً وليطرد من لم يساهموا في الاكتتاب المقدس من حضور السهرة الميمونة المباركة.

يبدأ الحكي بأغنية «الجينيريك» وطبعاً ليس من حق أحد أن يناقش كيف حفظها ولا متى حفظها ثم يبدأ الحكي ونحن فاغرون أفواهنا أمام جلال المسرود. يتخلل حكي حسن صمت رهيب لا يكسره سوى تنهّده بين الحين والآخر من دراماتيكية ما يحكي.

كانت أمهاتنا يعرفن في تلك اللحظات السينمائية التاريخية أننا في حلقة ذكر سينمائي في راس الدرب مما كان يغنيهن عن السؤال عنا في غالب الأحيان. كن يسلمن بان حضور حلقة حسن تدخل ضمن الإحساس بالأمان النفسي لنساء الحومة.

كانت حلقة الحكي تستغرق أحياناً أكثر من مدة الفيلم بسبب عملية التقطيع السردي الموازي التي كان يقوم بها حسن واستئذانه لنا بشحن رأسه بجرعات إضافية من غليونه الذي لا يفارقه. كنا نستغل تلك الهنيهات للتعبير عن إعجابنا بما يحكيه حسن وعن سعادتنا بما منحته لنا الأقدار من موهبة فنية قلما توافرت لجهات أخرى أعني لـ»حومات» أخرى. بمجرد ما أن ينحنح حسن تتجمّد الحلقة فنعود الى متابعة ما تبقى من تفاصيل الفيلم.

كان حسن غالباً ما يُنهي الحكي بأغنية «الجينيريك» مستودعاً ايانا على أمل اكتتاب آخر..

لقد كان حسن سيد الحل والعقد في مخيالنا، لأن مجيئه كان يعني تجمعنا وانصرافه يمثل تصريحاً وأمراً بانصراف كل واحد منا إلى غايته أو بيته وهو يجترّ ما كان يحكيه حسن أو يفكر في عبقرية حسن أو يقلد أغنية «جينيريك» حسن..

(زهور) وعز الطفل البورجوازيّ:

 وسوس لي ماركس مبكراً بالصراع الطبقي قبل أن يلعلع اسمه على صفحات مادتي الرمادية، اذ وعيت ان هوة سحيقة تفصل بين ما أحياه مقارنة الى عبد القادر ولد (زهور) الذي كان أبوه مديراً جهوياً في أحد القطاعات الحيوية وجدته لأمه هولندية أسلمت ذات ايمان بعيد في سياق مجهول..

كانت زهور أنيقة حتى التعب وجمالها يشبه الى حد بعيد  جلال حسناوات الأربعينيات في السينما المصرية. لست أبالغ إن زعمت ان قوامها نازح من أرض الخيال المجنح بالترانيم وفواكه الهذيان.

في بيت زهور ذي الطابع الكولونيالي المذهل، المتداخل الغرف، ذي الحديقة المشذبة بعناية، رأيت لأول مرة جهاز التلفزيون بالأبيض والأسود فيما كانت عيناي ترى (زهور) بالألوان التي لا حدّ لها.

لحد الآن، تتملكني تلك الرائحة المسكرة ذات المنسوب الشبقي العالي وتلفح خياشيمي بقوة لا تقاوم. كلما رشقتني ذكرى زهور تتأوه خلايا الطفولة في معصم الذكرى وتهتز في جوانحي مدائن شتى..

في بيت زهور اكتشفت أن عوالم السينما المغرية حاضرة مادياً في بيوت المترفين.

كنت أمقتُ المغيب لأنني مضطّر أن أسحب خطاي بتثاقل نحو بيتي حيث لا رائحة زهور ولا بذاخة هناء ولا لعب عبد القادر ذات المنهل الهولندي؛ فارحل وأنا ألوذ بالفراش في استدعاء عذوبة زهور لأحلق عالياً في أمداء لا يراها سواي إلى أن يأخذني على كتفيه حفيف المنام.

كانت زهور تصرّ على استدعائي الى بيتها كي أؤنس وحدة وحيدها المدلل الذي كان يغار منه الأشقياء من أبناء الأعاريب فيعمدون الى البطش به انتقاماً من نعم الله التي كان يرفل فيها تلك التي لا تعدّ ولا تُحصى..

كنت أستغل هذا الوضع الاعتباري أو العشوائي لأقضي سحابة أيامي في بيت زهور حيث الثلاجة العامرة بأنواع الجبن المستوردة والمربى الشهي والشوكولاتة القانية السواد وقناني العصائر المتراكمة والفواكه الباذخة وهلم خيراً، كنت ألتهم بل ازدرد غالباً كلّ ما قد تقع عليه عيناي لأن زهور كانت متأكدة أن الطفل الشقي الذي أمامها في حاجة الى رشوة كي يدمن على المجيء.

مضت ثلاث سنوات بسرعة البرق عشت خلالها في بحبوحة العيش إلا اني فوجئت ذات خميس أسود فيما اذكر بشاحنة أتت على بورجوازيتي الطفولية أو الطفيلية (سيان!)..أفقت عليها تقف امام بيت زهور ليشرع عمال الشحن العبوسون في إخراج الأثاث وتوضيبه بعناية وسرعة في الشاحنة التي انطلقت بعد إحكامهم إغلاق الباب الخارجي.

جرجرت خطاي وانا لا ألوي على فهم ما جرى ولا استيعاب ما حدث أمام عيوني المنكسرة من فرط الألم.

تمنيت وأنا أسند رأسي إلى الوسادة قبل المنام لو القيت نظرة أخيرة على زهور وهناء وعبد القادر، الا ان ما حدث علمني ليلتئذ أن الحياة شبيه أهلها بركاب قطار سريع لا يخبر الواحد الآخر بالمحطة التي ينوي الهبوط فيها لتبتلع جثته وذكراه.

علمتني الحياة ليلتئذ أن مياهاً جديدة جرت تحت جسر أيامي وأحلامي؛ لأولم نفسي لحياة لا رائحة فيها لزهور وعطورها وهناء وبراءتها وعبد القادر ولعبه التي لا تُحصى والثلاجة وهباتها التي ما نسيتها.

لا أذكر تفاصيل تلك الليلة الجارحة إلا أن كل ما أذكره أني أسبلت على القهر جفوني واحترقت..!

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى