ثقافة وفنون

جوهر الأمومة

} سكاف النزق*

الأم نبع عطاء وتضحية وحنان. حينما تضم الأم طفلها لأول مرة بعد ولادته، وترمقه بأولى نظراتها، تشعر وكأن الكون بات كتلة صغيرة بين ذراعيها، يشعّ منها نور يكاد يشبه نور الشمس فيبهر ناظريها. تبدو لها دقات قلبه أوتار قِيثارة تعزف نغمة الأمومة، فترقص مشاعرها حباً، وتلمع السعادة في عينيها.

في الوقت الذي تفعم الفرحة قلبها، يُرفع الستار عن إحساسها الباطني بالمسؤولية، وبشيء من اللاشعورية تفطن أن هذا الطفل البريء، هو أمانة غالية في يديها ويدي والده، وإنهما، هي وشريك حياتها، مسؤولان عن حياته وتنشئته، لكل منهما دوره في رعايته وتربيته، إنما دور الأم أكبر لأنها تلازمه في كل الأوقات، خصوصاً في المراحل الأولى من عمره.

والأم رسالة ومدرسة في التفاني والمحبة والإخلاص. وهي تعرف كل المعرفة أن مسؤوليتها لا تكمن فقط في تغذية جسد طفلها لينمو ويصلب عوده، بل أيضاً في تنمية أفكاره، وبلورة شخصيته. وهي تعي أنه عندما يكون عقل طفلها نقيّاً ناصعاً كلوحة بيضاء يكون بوسعها هي، وبمؤازرةٍ من الحياة بكل دروسها، أن تنقش عليها الأفكار النيّرة التي ستمكّنه من تحقيق أحلامه. وهي تعلم علم اليقين أنها حين تسدل محبتها ورعايتها عليه منذ طفولته تنمو المحبة في قلبه كما ينمو الوعي في فكره، والثقة في سعيه من أجل إدراك مبتغاه، فتسهل عنده مواجهة المجهول بعزيمة وإرادة صلبتين.

عليها أن تعلمه الدقة في تحديد الأهداف، والصلابة في مواجهة الصعوبات، والمواظبة الدؤوبة على العمل، لأن طريق النجاح وعرة المسالك، ولن يظفر بالنجاح إلاّ من مضى إليه بإرادة قوية.

هي الأم التي تحث ابنها لإطلاق العنان لأحلامه، وتوسيع مدارك أفكاره، وإلغاء كلمة «مستحيل» من قاموس كلماته، ودفعه للغوص في بحار العلم والمعرفة، ليستخرج أنصع لآلئها التي ستضيء له دروب الحياة، وما قد يخبئ له المستقبل من منعطفات مظلمة. فإذا كان النجاح يبعث نشوة الفرح، فإن التفوّق يغدق غبطة الانتصار.

الأمومة إذن هي المحفّز لأولادها كي يبذلوا قصارى جهودهم في سبيل نيل أهدافهم وتحقيقها. هي زارع الثقة في نفوسهم فتولد لديهم قوة كامنة لا بد وأن تفعل وتنطلق فيكونون النبت الصالح في المجتمع. هي العامل الأساسي في توسيع آفاق طموحاتهم ومداركهم. هي مصدر انبعاث مبادئهم الصحيحة التي ستؤهلهم لاتخاذ القرارات الصعبة والصائبة.

الأم ترشد طفلها ولكن لا تتحكم به، وتؤجج طموحاته لكن لا تُحبط آماله، وتنتقد أخطاءه نقداً بناء، وليس نقداً لاذعاً كي لا تحطم شخصيته.

الأم للطفل مصدر حنان وملاذ أمين، ترعاه بمحبة مرفقة بحذر وخوف، ليعبُر الى الحياة بشهامة ورأي رصين، حتى يكون للوطن حصناً متيناً وحامياً للعرين.

صدق حافظ إبراهيم حيث قال:

الأُمُّ مَدرَسَـةٌ إِذا أعدَدتَها          أَعدَدتَ شَعباً طَيِّبَ الأَعراقِ

الأُمُّ رَوضٌ إِن تَعَهَّدَهُ الحَيـا       بِالرِيِّ أَورَقَ أَيَّما إيراقِ

الأُمُّ أُستاذُ الأَسـاتِذَةِ الأُلى          شَغَلَت مَآثِرُهُم مَدى الآفاقِ

عندما تزهر الأم عطاءً، سيثمر الأبناء نجاحاً.

 

* الكاتبة زكية سكاف النزق محامية من عدبل (عكار) اللبنانية، مقيمة منذ عام 1994 في مدينة ملبورن، أستراليا. صدر لها كتاب «ركائز الحياة» عام 2015.  

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى