الحبّ عبر العصور: «شهداء» الهوى حيارى يهيمون في نعيم الوجد والجوى والشوق
} ساره طالب السهيل*
العواطف القلبية جزء أصيل في تركيبة بني البشر، وبها تثمر أشجار التواد بينهم للتراحم وإعمار الأرض، ولكن في هذه المضغة القلبية لحظة فارقة تنتظر لحظة ميلاد شيء يبدو غامضاً ساحراً قدرياً، وهي لحظة ميلاد الحب وعندها تتغيّر التركيبة النفسية والعقلية والوجدانية للإنسان 180 درجة، حيث يسقط المحبّ في بحر الهوى والجوى والشوق، وكلما كان الشوق حارقاً كانت اللذة أكبر وأعمق!
ولا غرابة فالحب جنة للعاشق لا يعرفها إلا من ذاق نعيمها، ولذلك فمهما كابَد المحبّ من غرام وسهر وسهد وجوى وهيام وعشق واكتوى قلبه لوعة؛ ظلّ أسيراً لحبه بمحض إرادته، وقد يتنازل عن نفسه التي بين جنبيه لمحبوبه فداء وتضحية حتى لو أصيب بالجنون، أو دفع عمره في عشق مَن يهوى.
فالمحب حين يقع في فخاخ الغرام يشعر أنه فقد أيّ قدرة على الانفلات من هذه الشباك، يبدو وكأنه مستسلم لقدر محتوم في سفين العشاق من دون أن يدري إلى أيّ مرفأ سيصل؟!
لذلك ربط الشعراء والعلماء على حدّ سواء بين حالة العشق والمرض فكلاهما قدر، وهو ما عبّر عنه الشاعر ابن الفارض في قوله:
وضع الآســي بصدري كفه
قال ما لــي حيلة في ذا الهوى
لم يكن الحب القاتل مقتصراً على مجانين الهوى في العصور القديمة كمجنون ليلى، ولكن لا يزال يجد أصداء له في عالمنا المعاصر في قصص الهوى التي أبدعها الشعراء ومنهم نزار قباني في رائعته «قارئة الفنجان» ويقول فيها:
يا ولدي.. لا تَحزَن، فالحُبُّ عَليكَ هوَ المكتوب، يا ولدي، قد ماتَ شهيداً، من ماتَ فداء للمحبوب.
وتبرز في القصيدة كينونة الحب كقدر كتب منذ الأزل، ولا فكاك مما قدّره الله على عباده، ولأنه قدر فإنه يبقى مقدساً، ولذلك فإنّ من يموت فداء لمحبوبته يفنى شهيداً.
مكابدة العشاق لوعاتهم القلبية تظهر آثارها على أجسادهم وعقولهم، كما حللها العلماء المسلمون، والعلماء في الغرب نتيجة المغالاة في الحب، حيث تظهر عليه اضطرابات جسمية مثل النحول وفقدان الشهية وحب العزلة واضطراب النبض، بجانب اضطربات سلوكية قد تدفعه لارتكاب تصرفات غير عقلانية.
وأجمع الأطباء العرب المسلمون، أنّ أفضل علاج وأنجعه لهذا المرض هو الجمع بين العاشق والمعشوق على نحو تبيحه الشريعة.
وأثبتت دراسة حديثة لعلماء جامعة امستردام وجامعة لايدن بهولندا حقيقة تحطم القلب على صخرة الفراق بين العشاق، مؤكدين انّ تعرّض قلب المحب لصدمة الانفصال يؤدّي لتحطم القلب ويسبّب توقفاً مؤقتاً لضرباته.
وأوضحت الدراسة، انّ التعرّض للرفض العاطفي يؤدّي لأذى ويؤثر على كامل الجسم، بما يدفع لعدم الرغبة في الأكل، والنوم وغيرهما، وكلما كان شعورنا بالرفض أقوى تراجعت دقات القلب.
ويحفل التراث العربي والعالمي بالعديد من قصص العشق الخالدة التي لم يُكتب لها البقاء بسبب التفريق بين المحبّين ونتاجه اما الاصابة بالجنون أو الوفاء للمحبوب حتى الموت.
وقصة الفارس عنترة العبسي، وعشقه لعبلة وقد حال لونه الأسود دون زواجه بها في عنصرية قبلية، حيث تتزوّج عبلة من فارس عربي، بينما يعيش عنترة في حزنه، يهيم به الوجد شعراً حتى وفاته.
ويظلّ جبل التوباد الملقب بجبل «العاشقين» في الرياض شاهداً على أشهر قصة حب في التاريخ، ومغارته التي احتضنت قصة الحب العذري بين قيس بن الملوّح ومحبوبته ليلى العامرية بعد أن زُوِّجت ليلى برجل آخر، هام قيس على وجهه في الفيافي، باكياً عشقه بشعر يعكس عذابات الفراق ويعتزل الناس هائماً في الوديان، يزور آثار ديارها وينظم الشعر في حبها، حتى لقب بالمجنون.
من هؤلاء الشاعر المرقِّش الأكبر في العصر الأموي، وقصة حبه لأسماء، وزواجها من رجل آخر، فيُصاب العاشق بالهزال بحثاً عنها حتى يموت.
ومأساة قصة عشق عمرو بن كعب بن النعمان الملك وابنة عمه عقيلة التي زوّجها أبوها من رجل آخر فينهار كعب وينطلق إلى الصحراء هائماً باليمامة، وقد شدّ بصره إلى السماء، حتى أدركته منيته في تيه لم يُعرف مكانه فيه. بينما الحبيبة عقيلة تعيش مع زوجها عذاباً وتدبّ في جسدها الأسقام حتى يضمّها الموت وتلحق بحبيبها.
ومن شهداء الغرام علي بن أديم وحبيبته منهلة، حيث أحب علي منهلة التي كانت جارية عند إحدى النساء وكانت ترسلها إلى الكتاب لتتعلم فرآها علي وظلّ يراقبها حتى شبّت وأراد خطبتها ولكن المرأة التي تمتلكها رفضت تزويجه لها وزوّجتها لرجل آخر، ولم يصبر على فقد منهلة فمات بعد ثلاثة أيام من زواجها.
بينما أحب عروة ابنة عمّه عفراء، وعندما طلب من عمّه تزويجها له، غالت أسرة عفراء في المهر، فراح يضرب في الأرض ليعود بالمهر وعاد بعدما جمع مهرها ليجدها قد تزوّجت بالشام ليفرّق المال بين العاشقين ويمرض عروة بالسلّ ويموت فتتحسّر عفراء وتندبه حتى تلحق به وتدفن في قبر بجواره.
ومن مآسي قصص العشق قصة الملكة غوينفير زوجة الملك آرثر، حين تقع في لانسيلوت، وتعلن عشقها وتهرب معه، ويُحكم عليها بالموت حرقاً بتهمة الزنا ويأتي لانسيلوت لإنقاذها من الحرق، وينتهي الأمر بالعشيقين الى كنيسة بائسة.
كما سجل التايخ قصة عشق سليم ابن الامبراطور أكبر بفتاة تدعى اناركيل ورفض والده الامبراطور اقتران ابنه بها وبذل كلّ محاولة لتشويه صورتها فأعلن الابن الحرب على والده، وهزم أمام جيوش الإمبراطورية وحكم عليه بالموت. وحين حاولت اناركيل إنقاذه من الموت، قام جيش الإمبراطورية بدفنها في الإسمنت المسلح أمام ناظري حبيبها وهي حيّة، قبل أن يقتلوه.
وهكذا… كان الحب مؤدّياً الى العشق الذي يقود الى الجنون او الفراق بالآلام والسقام او الشهادة موتاً في سبيل المحبوب.
*كاتبة وشاعرة عراقية.