ثقافة وفنون

النسق الأنثويّ
في مجموعة «نفحات من جليد ونار» لـلشاعرة لودي الحداد

 

 

د. فوزي ثعبان الموسوي

(الجامعة المستنصريّة)

تشتغل المقاربات اللغوية في نصوص (لودي) على شحن جذوة المدّ العاطفي، وتفعيل آلياته التعبيرية عبر منظومةٍ معالجاتية تتحشد فيها الإحالات الأنثويّة بمسارات متنوّعة، ومن هذا المنطلق تستفيد (لودي) من خاصية الاستقطاب والمشاركة الذي يستبطنهُ المزاج الأنثويّ لدى ذائقتنا الفحوليّة، ومن هنا جاءت هذه السطور لتكشف عمق الأنساق الأنثويّة وتأصلها في تجربة شاعرة جريئة تنبعث من تجربتها رائحة المرأة المفعمة وصفاء مكنوناتها الانفعالية.

إذ ثمّة مهيمنات كافية في النسق البنائي لنصّ (لودي) ولعلّ من أبرز تلك المهيمنات حالة الظمأ الشعوري الذي يضرب أودية الروح العاشقة ويصيح في خلواتها:

في غيابِكَ…!

تسلَّلَ الزَّمهريرُ

إلى أثوابِ الذَّاكرةِ

هرولتُ إلى العراءِ

أتدفَّأ بحنين الأمطار

……………..

أشعلْتُ اللَّهفةَ

في مواقدِ الرُّوحْ

رويتُ أغصان الحلمِ

بالدَّمعِ المبحوحْ (1)

فتتشظى الشاعرة بين صرير البرد وتداعيات الظمأ، لكنها لفرط امتلائها بكبريائها الأنثويّ، تأبى أن تسلك سبيل التصريح، وكأنّها تصرخ (وفي النفس حاجاتٌ وفيك فطانةٌ) فعلى الرغم من مشهدية الانجماد، التي عبرت عنها بتسلل الزمهرير إلّا أنْها لم تلفظ كلمة (البرد) وهو المقابل الموضوعي للدفء الذي تحتاجه الشاعرة، حتى أنها نسبت الأثواب الى الذاكرة، فالزمهرير ربما يُفقِدها شيئاً فشيئاً حرارة الشوق في إشارة بارعة الى إمكانياته نسيان الحبيب ولا يُخفى عنصر التحذير من مغبة استمرار مسلسل التجاهل، حتى انّ (هرولتُ) لا تدخرُ جهداً في إبراز مدى تمزق الشاعرة روحياً، محتفظة بعنادٍ صلب على اتقادها الذاتياشعلتُ اللهفةَ في مواقد الروحومن جانب آخر يطلُّ الظمأ برأسه حيياً عبر مسارات ضيّقة غاية في التجريد والانزياح، فأغصان الحلم لا بدّ لها من ارتواء، ولكن بدمعٍ مبحوح، ولا يخفى التقابل التشخيصي بين (الأغصان / الدمع) والتجريدي بين (الحلم / المبحوح) إذ تفضي تلك المشهديّة في نهاية المطاف الى امرأةٍ بمواصفات استثنائية، وفي نص آخر:

أعتقْني أيُّها القدرُ

ألمْ ترتوِ بعدُ

من عصارةِ الألمِ…!؟

أثقلَ جفنيَّ الكرى

تتوقُ الرُّوحُ

الى الحلمِ السَّرمدي

أمطرُ الحبَّ

لأرويَ ثغورَ اليقينْ

كأنَّني كنتُ أكتبُ

بحبر الماءِ وألوِّنُ

على أوراق الأثيرْ…! (2)

إذ تكابد الشاعرة عبر مسارات الحياة الكثيرة من الحواكم التي تفترس نقاءها وتهيمن على عوالمها الأثيرة، ولعلّ الأقدار من زاوية (لودي) لا تنفك تمتصّ رحيقها، وتُذبِل أزهار الحياة في عروقها، فامتصاص القدر لعصارة الألم في حشاشتها، تقابله ضارعةً بهذا التساؤل البريء الذي لا يصدر إلّا عن أنثى معطاء (ألم ترتوِ بعد من عصارة الألم؟) وتضيفعلّه يرقُّ لها – (أثقلَ جفنيّ الكرى / تتوقُ الروحُ/ إلى الحلم السرمديّ) فكل تلك المقدمات إنما تستبطن في داخلها رسائل مشفرة، كأنّها تعلن: أثقل جفني الكري (ولم أنم) وتتوقُ الروح الى الحلم السرمديّ (ولم يأتِ) في إشارة إلى رغبة عارمة بالموت، الموت الذي يمثٍل حلماً سرمدياً، ربمّا يشكل نهايةً لآلامها، ومن ثم تختممعتذرةًعن ذلك بأنّها كانت تمطرُ الحبُّ لتروي ثغور اليقين، مكتشفةً انّها انمّا كانت تكتبُ على صفحات الماء وتلونّ على أحداق الأثير في اشارة الى عبثية المخرجات.

وربّما تشكل ظاهرة الاستلاب ملمحاً واضحاً لدى (لودي) في مجموعتها هذه لكونها في النهاية امرأة شرقيّة، يقابلها رجلٌ شرقيّ يجيدُ سطوةَ الفحولة ويُحسنُ اقتناص خمائلها المورقة:

غفلْتَ عنِّي

عندَما تكسَّرتِ الأمنياتُ

على الصُّخورِ والرَّملِ

أنهكَني السَّفرُ

فاستلقيتُ بين الأحرفِ الأسطرِ

أنا قصيدةُ الخيالِ (3)

فبعد أن يستنفذ منها الذي يطلبه (يغفل عنها) فالغفلة بارقة أمل تبذرها (لودي) في صحراء من الحقائق المرّة، علّها تثمر ولو صدفةً، وتنكسرُ الأمنيات في حالة من الانسحاق الأنثويّ ثمّ (أنهكني السفر) فهي منهكةٌ بأمنيات منكسرة ومغفول عنها، لذا لا بدّ لها من أن تستريح ولو (بين الأحرف والأسطر) ففي نهاية المطاف هي (شاعرة) يمكنها أن تهرع الى عالمها الافتراضيّ (الشعريّ) في محاولة لتجاوز حالة الاستلاب تلك والإفلات من قبضتها، لتستجير به مما ألمّ بها بعفويّة خصبة واسترسال مطلق، إذ لا يمنعها ذلك على الرغم من بشاعته من استساغة منحنى الالم ذلك، تقول:

دعني…!

أتدفَّأ في صمتِكَ

أتلوَّن في حبرِكَ

أتلاش بينَ الضُّلوعْ

…………….

خذني إليكَ…!

أولد فيكَ

استحمّ بالشَّمسِ

على روابيكَ

أنتَ الحقيقةُ

الكاملةُ السُّطوعْ…! (4)

إذ يفقد فعل الأمر (خذني) عمقه الطلبي، ليقف على حافة الرجاء في مشهد لا يخلو من الإثارة، فيما تأبى نفسها الكبيرة تكرار (دعني) مكتفيةً بالإيحاءات الأسلوبيّة، إذ نجدها تكتفي بتجريد أفعال من قبيل (أتدفأ، أتلّون، أتلاشى، أستحم) ولا يخفى وقوع تلك الأفعال في ظل الفعل الطلبي (دعني) أسلوبياً ونحوياً، إذ تتدافع تلك (الحركية) التي توفرها الحالية الزمانية متخذةً نسقاً تصاعدياً يتناسب طردياً مع (حياء) المرأة وعزة نفسها في آن واحد، فـ(أتدفأ) تسمح لنا بقياس مدى الحاجة الأنثويّة ومكنوناتها الغريزية، في حين يتجه (أتلوّن) صوب الاندماج الذاتي مع المحبوب، ومن ثمّ يأتي (أتلاشى) ليحقق حتمية ذوبان الهوية الشخصية والانسحاق الكلي (بين الضلوع) ولم يبقَ سوى الاستحمام بالشمس (استحمّ بالشمس) بعد بلوغها غاية المطاف، وهكذا تعلن لودي عن ولادتها الأنثويّة الكاملة معللةً كلَّ ذلك بوقوفها على عتبة الحقيقة الكاملة السطوع، مستفيدةً من عنصر التجريد الذي أحال كل شيء ممكناً في لحظة الحقيقة تلك، ولا تبتعد كثيراً في قصيدة (مذبح النقاء) من حيث زاوية النظر وعلائق الحضور والعدم، تقول:

وتراءى ليَ وجهُكَ

قوسَ قزحٍ

يعانقُ الأثير…!

غيثٌ من الأشواقِ

انهمرَ

على حقول الأيَّامْ

تفتَّحتِ السَّنابلْ

………….

أنا الآن أجثُو

أصلِّي

أضحكُ

وأبكي

أمامَ مذبحِ النَّقاءْ…!! (5)

ينهض المشهد برمّته على ثنائيّة (الرؤيا/ الحقيقة) التي تلملمُ أطراف المشهد الشعري، فحينما تغتصبُ الرؤيا الواقعَ عبر إطلالة وجه المحبوب بهذه الكيفية الأنثويّة في رؤية الأشياء ومن خلال حاستها البصرية، التي تختزن الطيف الشمسي، وفي الوقت ذاته تنهض مشهديّة أخرى مقابلة ومحاذية للمشهد الأول معاضدةً لها ومتأثرةً بها إذ تشكل مَخرجاً من مخرجاتها، فترائي المشهد الأول يدفع بالشاعرة الى حافة الشوق، لتعلن عن أنوثتها عبر غيث من الأشواق لتفتح بعدها السنابل، الّا انّها سرعان ما تكتشف (حلمية) تلك (الرؤيا) فالحقيقة هي (مذبح النقاء) اذ لا تملك امام تلك الحتمية إلّا ان تتصرف كما كل انثى، تبدأ بـ (أجثو) وتنتهي بـ(أبكي) وما بينهما مشاهد جزئية مختزلة ومكثفة تختزلها بفعلين (أصلّي/ أضحك) مثلاً. مشهد غريب يطل برأسه بين رجاء (أجثو) وحتمية (أبكي).

وبالحديث عن الشظايا المشهدية، تقودنا لودي في قصيدة (فخامة الصمت) الى تلك الاستراتيجية المحببة لديها:

تروقُنا السَّكينةُ

ونوقدُ البخورِ

أمامَ معبد الكآبةِ المقدَّسةِ

نغمضُ أعينَنا

فتتراءَى لنا

مرآةُ الرُّوحِ الخرساءِ المشتعلةِ (6)

تتحشد جزئيات الصورة الأنثويّة بوصفها شظايا غير سائبة، قد تبتعد أو تقتربُ، لكنها تشكل في النهاية صورةً كليّة، وهذه الشظايا بمجملها تحملُ مسحةً أنثويّة لا تنفكُ تشي بانتماءاتها للعالم المخملي، عالم المرأة، المرأة المعذبة، فالسكينةُ ولع الأنثى المُحبّة والغيورة، و(النجود المتقد) يمثّل توسلها الروحيّ واحتراقها الصوفيّ في حضرة الموقف، ناهيك عن تلك الإغفاءة المحببة التي تصطنعها الأنثى حيثما تحلمُ واعيةً لترى من خلال تلك الإغفاءة أو الإغماضة (مرآة الروح) ولست بحاجة الى الإشارة الى أنّ (المرأة) من لوازم الأنثى وضرورةٌ من ضروراتها الشكلية، نعم إنها خرساء لكنها مشتعلة، وفي هذا الاشتعال ما يغني عن التصريح.

لكنها في قصائد أخر تلجأ الى الاعتراف مضطرةً شأنها في ذلك شأن كل النساء اللواتي يدفعهن الموقف الى الاعتراف، ولكنه اعتراف أنثويّ صورة ورؤيا ومعالجة:

باتَتْ أوراقي المترنَّحةُ

تشبهُكَ أيُّها الخريفْ

تلمعُ كسبائِكِ الذَّهب

تحتَ أجنحةِ الشَّمسِ

وفي طيَّاتِ اللَّيلِ

تترنَّم على أمواجِ الألمِ

ثمّ تهوي متأوِّهةً

على قارعةِ الرَّصيفْ…!(7)

اذ لا تجد (لودي) مفراً امام سطوة الواقع وقسوته، إلّا ان تبوح بضعفها الذي يكتنف نوعاً من (الانكسار) الأنثويّ المحبّب وليس الخضوع، وتتوسّل من أجل تحقيق روايتها الشعرية بالفكرية التعبيرية التي تتماهى مع طبعها وصفاء كينونتها المتشابهة مع الخريف، وتقابل أوراقها المترنّمة مع أوراق الخريف الصفراء، عبر حالة من الإسقاط الذهني والتعبيري الحي والمتحرك. فالمشهد الأنثويّ يتكرر نفسه في اللوحة الثانية (الليليّة): وفي طيات الليلاذ تترنمُ أمواج الألم لكنها في النهاية تهوي، كما هوت في اللوحة الأولى لكنّ الفارق أنّ (حاليّة) اللوحة الأولى (تلمع كسبائك الذهب) تشي بنوع من الكبر والعنفوان، بخلاف اللوحة الثانية (متأوّهة على قارعة الرصيف) التي تنبئ بحتمية الضياع، ضياع الأنثى وانكسارها أمام خريف لا يرحم.

لا تخفي (لودي) ضعفها الأنثويّ إلّا بقدر ما تخفي الأنثى مفاتنها، إنّها تستجيب بشكل فطري لهذا الكم الهائل من خزين الأنثويّة، الذي يتراءى خلف ستار شفيف من الصنعة التعبيرية التي تجيد لودي اللعب على أوتارها بحرفية عالية.

 

الهوامش

1 – نفحات من جليد ونار : 55-56.

2 – نفحات من جليد ونار : 101.

3 – نفحات من جليد ونار : 28.

4 – نفحات من جليد ونار : 90.

5 – نفحات من جليد ونار : 97-98.

6 – نفحات من جليد ونار : 18.

7 – نفحات من جليد ونار : 43.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى