أولى

الرقص على غيبوبة وطن!

 د. عدنان منصور*

 منذ مئة وستين عاماً، وبعد إنشاء عهد المتصرفيّة عام 1861، على يد الدول الأوروبية الست روسيا، بروسيا (ألمانيا)، ايطاليا، النمسا، فرنسا وبريطانيا، يبدو أن الحكام والزعماء، آثروا في كلّ أزمة، على أن يرموا حملهم الثقيل على الدول الخارجية الكبرى، لتكون عوناً ونصيراً، وراعية لهم، وجالبة الحلول لمشاكلهم.

لم يتعلم القادة والمسؤولون اللبنانيون على مدى عقود، أنّ من ليس جديراً بالحكم وإدارة الدولة طيلة سنين، لن يستطيع الرهان على الغير، إذ سيظل عاجزاً، فاسحاً المجال أمام الدول للتدخل في شؤون بلده الداخلية، ولتوجد موطأ قدم، تعزّز نفوذها ومصالحها فيه.

 متى يتعلم اللبنانيون وزعماؤهم أنّ الحلّ الدائم لأيّ مشكلة تعترض طريقهم، ينبع من الداخل، ولا يأتي من الخارج، هذا إذا افترضنا انّ المسؤولين هم على مستوى الأزمات، والمسؤولية الوطنية؟

متى يدرك زعماء هذا البلد، أن الحلول التي تأتي بها دول الخارج، حلول موضعية، ومفاعيلها مؤقتة، مخدرة، ما ان ينتهي مفعول المخدر، حتى تعود نوبات الشعب من جديد، لتدخل الوطن بعد ذلك في نفق مظلم، وأتون صراعات وعداوات، وكراهية وأحقاد، تفعل فعلها المدمّر داخل المجتمع اللبناني، لتعيده الى الوراء، وتجعله يلهث من جديد، وراء الحلول للخروج من أزماته؟

 اليوم ونحن أمام أزمة داخلية حادة، تشكل تحدياً كبيراً مباشراً للبنانيين في وحدتهم، وأمنهم، ومعيشتهم وحياتهم، ومالهم، وصحتهم، ومستقبلهم، نسمع من حين الى آخر، من ينادي ويرى في حلّ قضايا الوطن بالحياد، أو التدويل، او الفدرالية، حيث يجد فيها الحلّ الأمثل لمشاكل لبنان الداخلية.

 ربما البعض لم يتعلم من عبر التاريخ وحقائق الجغرافيا، ودروس الأحداث، وسلوك الدول الكبرى حيال الشعوب، وما فعلته بحقها خلال قرون، أثناء هيمنتها وتسلطها واستعمارها بلداناً عديدة في العالم، من ممارسات وسياسات أدت الى تقسيمها، وتقزيمها، وتحجيم البعض منها، وزرع بذور التفرقة والانقسام داخل المجتمع. لتنبت في ما بعد العداوة، والكراهية التي تتغلغل في عقل الشعب الواحد.

 لماذا نريد اللجوء للغير ونتركه في كلّ مرة يقرّر عنا؟ ألأننا قاصرون! أم عاجزون! أم فاشلون أو غير مؤهّلين لبناء دولة وصون شعب؟! ألأننا غير قادرين على بناء وطن متماسك ومؤسسات سليمة، وإرساء دولة القانون! أم لأننا غير مستعدّين للتخلي عن أنانياتنا، وعن مفاهيمنا الإقطاعية السياسية، والطائفية، والمناطقية، والامتيازات الطبقية والمالية التي تتمتع بها حفنة متوحشة، آخر همّها بناء دولة، وحماية مؤسسات! أم أننا أدمنّا على الفشل، وعلى الزحف الى القوى الخارجية، كالطفل الذي يريد البقاء في حضن أمه؟! فمن أي نوع وأيّ جينة هي جينات زعماء لبنان الزمنيين والروحيين، وقادة الأحزاب الذين توالوا على الحكم، طيلة قرن من الزمن، ولم يستطيعوا أن يحافظوا على وحدة شعب، واستقلال وطن، وكرامة انسان من خلال مفهوم قومي وطني جامع موحد، لكل أطياف الشعب ومكوناته، وإرساء دولة المواطنة والقانون والحكم الرشيد!

 إن الذين يطالبون اليوم بالحياد والتدويل والفدرالية، انما يضعون البلد أمام رياح ساخنة تلسع الجميع، ويجرّون اللبنانيين الى الفوضى، والتقسيم والانتحار الجماعي، وإلى مواجهات داخلية، ستكون نتائجها ولا شك، مدمّرة للجميع.

كيف يمكن سلخ لبنان عن واقعه القومي والجغرافي والتاريخي، وانتمائه الى منطقته المشرقيّة، فكراً، وسياسة، ونسيجاً، وأمناً، وروحاً، وجسداً! وهل يتصوّر عاقل ان الحل للبنان يأتي عن طريق التدويل؟! وأيّ تدويل؟! هل الدول التي أنشأت نظام المتصرفية مهّدت وأسّست لدولة متماسكة؟! وهل أسس الانتداب الفرنسي عام 1920، دولة المواطنة الحقيقية، أم أسّس لاعتبارات عديدة أرادها، لدولة طائفية مفصلة على قياس محدّد، لا زلنا نحصد مشاكلها،

ومآسيها، ورواسبها حتى وقتنا الحاضر! وهل اتفاق الطائف عام 1989، الذي جرى برعاية المملكة العربية السعودية، وفّر للبنان في ما بعد، الاستقرار السياسي، والوحدة الوطنية، والعيش الواحد، وبناء الدولة القادرة المقتدرة؟! لماذا نريد أن نشعر العالم أننا فاشلون، فاسدون، انتهازيون، منافقون، مراوغون وصوليون، حتى إذا ما انهالت المشاكل علينا، التي نحن السبب فيها، وعجزنا

عن حلها، نجول على الدول الفاعلة المؤثرة، نستجديها لتقديم الترياق لنا؟!

 إنّ مفعول حلول الخارج مؤقت، لأنها ليست العلاج الملائم، ولا تعبّر عن إرادة اللبنانيين، وواقعهم وتطلعاتهم القومية الوطنية، ولا تشخص المرض الذي يعاني منه اللبنانيون، وهو مرض متأصّل يكمن في النظام الطائفي، والإقطاع السياسي، والمالي، والاقتصادي، وغياب استقلالية القضاء، وعدم تحقيق الإنماء المتوازن، واستفحال الاحتكار للثروات والمشاريع، وحصرها في جيوب جهات معينة، وإلحاق الغبن بشريحة واسعة من أبناء الشعب.

 إنّ الحلّ أيها السادة، يأتي من الداخل، ولا يأتي من الخارج. خذوا العبرة من الماضي البعيد والقريب، ولا تجرّوا الوطن والشعب الى الانتحار الجماعي. فحذار حذار، حيث لن يكون هناك رابح مع أيّ حلّ سياسي يأتي من الدول الأجنبية أو غيرها، التي عانينا منها، وعانت معنا دول المنطقة من سياساتها المستبدة، ومن زجّ نفسها في شؤوننا الداخلية، وابتزازها، وقيامها باستقطاب فئات وتحريضها على فئات أخرى.

 إنّ الرهان على الخارج، والاستقواء به، والشحن الطائفي، وإثارة النعرات على مختلف الصعد وتأجيجها، لن يحقق للبنانيين الأمان والاستقرار، ولا الوحدة. بل سيجرّهم الى المزيد من الفوضى والتخبّط والانهيار.

 لبنان اليوم بغنى عن الطروحات المفخّخة المتفجّرة، لأنّ العلة تكمن في داخلنا، في العقول والنفوس، والسياسات البالية الفاشلة. فإنْ كنتم فعلاً أيها السادة، جادّون وتريدون بناء وطن، فأزيحوا عن أكتافه نظامه الطائفي، وأقيموا الدولة العصرية القوية لتحافظوا على سيادة الوطن، وحماية أرضه وشعبه من أطماع «إسرائيل» في أرضه، وثرواته المائية والطاقوية، عندها لا داعي بتاتاً للحياد الهش المشبوه، الذي سيكون عرضة في أيّ وقت للاهتزاز والتصدع. ولنا في ذلك عبرة من حياد بلجيكا واللوكسومبورغ، حيث لم يمنع هذا الحياد الجيش الألماني، بعد عام واحد من اندلاع الحرب العالمية الاولى، من اجتياح أراضيهما واحتلالها أمام مرأى الدول الكبرى والعالم كله، الذي بقي مكتوف اليدين أمام المشهد الألماني.

 إنّ من يتطلّع ويراهن على التدويل، والحياد، والفدرالية والتقسيم، إنما يسير في عكس التيار، ولن يستطيع لا اليوم ولا الغد، تجنّب الغرق. فلماذا تجاهل وقائع التاريخ، والإصرار على الانتقال من رحاب المنطقة المشرقيّة الى الملعب الضيق؟!

كيف يمكن سلخ لبنان عن محيطه بذريعة الحياد والتدويل والفدرالية التقسيمية؟! ولماذا هذا الانتقال من الفضاء الواسع، الى أجواء الغيتوات، والانعزالية، ولمصلحة مَن؟!

 أيها السادة! إنّ بناء لبنان الواحد والحفاظ على سيادته واستقراره والبحث عن الحلول لأزماته، لا تتحقق عبر القوى الكبرى، ولا عبر المؤتمرات الدولية، فعندما تلتزمون بروح الانتماء الجغرافي والقومي، والمواطنة الحقيقية، والعدالة الاجتماعية، واحترام القانون وتطبيقه نصاً وروحاً، والسير به في مجال التنمية المستدامة، ووضع حدّ للامتيازات الطبقية الظالمة، واستغلال أصحاب رؤوس الأموال،

واستئصال الفساد من جذوره الذي أنتم سببه، وتتحمّلون مسؤوليته، وسنّ قانون انتخابي عصري، يؤدّي الى تحجيم الإقطاع الانتخابي والسياسي، والمالي، ويتيح التمثيل العادل لمكونات المجتمع كافة، ومشاركتها في صنع القرار السياسي والسيادي، والإقرار فعلاً لا قولاً بانتماء لبنان الى محيطه الجغرافي والقومي، والتفاعل معه تاريخاً وسياسة واقتصاداً وأمناً وواقعاً، عندها لن يكون هناك من هواجس او خوف البعض من متغيرات ديموغرافية، او وجودية، تقلقهم وتشكل لهم هاجساً ووهماً دائماً، طالما انّ الجميع سيكونون تحت سقف الوطن الواحد، وفي ظلّ القانون العادل، ومتساوين أمام الحقوق والواجبات. حينئذ لن يكون هناك من دواع للمطالبة بالتدويل، أو بالحياد او بالفدرالية.

 مَن يريد أن يلجأ للخارج، لن يبني بلداً ولن يصونه لا اليوم ولا غداً. وليكن في علم الجميع، أنه لا يمكن لأيّ جهة داخلية، أو دولية في العالم، مهما علا شأنها، أن تسلخ لبنان عن واقعه القوميّ والجغرافيّ والتاريخيّ، والأمنيّ، بذريعة أنّ التدويل، والفدرالية هما الحلّ الأمثل لمشاكل لبنان.

 انّ قادة لبنان الزمنيين والروحيين أمام مسؤوليتهم التاريخية، وهم يشاهدون بلدهم يهوي ويترنح. إنهم مدعوّون الى إنقاذ الوطن والشعب من الداخل، والابتعاد عن الحسابات الخاطئة، والمصالح الفئوية الضيقة، والنزعات الانعزاليّة، والرهانات الخاسرة، والدعوات الملغومة.

فإما أن يتوقفوا عن الجري وراء الدول الكبرى، والاعتماد عليها والرقص معها على إيقاع غيبوبة وطن، وإما على لبنان وشعبه السلام

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*وزير الخارجية والمغتربين الأسبق.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى