مقالات وآراء

هل يترحّم اللبنانيون على نظام المتصرفية؟

} عمر عبد القادر غندور*

هل بات اللبنانيون اليوم، في ظلّ انسداد أفق الحلول لمآسيهم وفقرهم وانهيار بلدهم يترحمون على نظام المتصرفية الذي أقرّته الدولة العثمانية ومعها عدد من دول أور  وعُمل به من العام 186وبا1 حتى العام 1918 وهو نظام جبل لبنان المنفصل من الناحية الإدارية عن باقي بلاد الشام، تحت حكم متصرف أجنبي مسيحي غير تركي وغير لبناني تعيّنه الدولة العثمانية بموافقة الدول الأوروبية العظمى بريطانيا وألمانيا وفرنسا وبروسيا وروسيا والنمسا وإيطاليا. وتميّز عهد المتصرفية بالوعي والعلم والثقافة بسبب انتشار المدارس في جميع القرى والبلدات والمدن، وفي زمانه افتُتحت جامعتان كبيرتان من أكبر جامعات الشرق الأوسط وأعرقها: الكلية السورية الانجيلية التي أصبحت الجامعة الأميركية في بيروت، وجامعة القديس يوسف.

 وهل يُلام اللبنانيون إذا ما عادوا بأفكارهم الى تلك الحقبة من تاريخ لبنان رغم ما فيها من مظالم وآلام؟

 وهل تلك المظالم والآلام أقلّ سوءاً من مظالم وآلام وأوجاع اليوم.

 النظام الطائفي الذي كان ركيزة دولة الاستقلال، أورثنا وإلى أحفادنا، دويلة الطوائف التي لم يبق منها اليوم سوى أطلال محطمة وقبائل متناحرة ديدنها اقتسام المغانم والسرقات باسم الطائفة والوطن !!

 انتظر اللبنانيون بنهاية العام الماضي، وهم في الرمق الأخير، تشكيل حكومة جديدة قبل عيدي الميلاد ورأس السنة، وبشّر بها رئيس الحكومة المكلف بعد اجتماعه برئيس الجمهورية، وسرعان ما تلاشت هذه البشارة، وعدنا الى دوامة اللفّ حول أنفسنا بسبب غياب القرار السياسي، وتجدّدت أزمتنا المزمنة، وراكمتها أوضاعنا الاقتصادية المزرية وارتفاع منسوب البطالة والطائفية وفساد مؤسسات الدولة وانفلات الضباع الكاسرة من التجار الذين لا يخافون الله في قوت الفقراء وفي أدوية المرضى، وفجور الطبقة السياسية وتضخم الدين العام وهبوط الليرة اللبنانية بنسبة 80% في ضوء ملامسة الدولار لعتبة ثلاثة عشرة ألف ليرة وخلافات الطبقة السياسية وتنافسها على السلطة لتناوش المغانم، وفقدان الكثير من السلع الغذائية وارتفاع الأسعار ومحنة وباء كورونا وانفجار المرفأ الذي خلّف مئتي ضحية وجرح ستة آلاف مواطن وتشريد عشرات فقدوا منازلهم، وحتمية الغرق في الظلام لأنّ الدولة لا تملك المال المطلوب لشراء الفيول!

 بينما الدول والجهات المانحة مستمرة في إدارة ظهرها لدولتنا العلية قبل إنجاز الإصلاحات المطلوبة ولا إصلاحات، بل مكابرة وعناد يحول دون تشكيل الحكومة التي تصطدم بعقبات وعقد داخلية وخارجية، وأبرزها مطالبة مكون بعينه بثلث معطل وبوزارتين بعينهما، وهو ما يرفضه الرئيس المكلف.

 ومثل هذه العقدة الكأداء لا حلّ لها ولو استمرّ البلد من غير حكومة لسنواتوالعناد في مثل هذه الحالة لا يلين له جانب في ضوء أحداث خطيرة سابقة فيها المثل والدليل.

 بينما يتواصل انهيار الدولة وهجرة اللبنانية لاكتشاف أرض أخرى توفر لهم العيش بكرامة وأمان، وليس هيناً علينا هجرة مئة طبيب من مستشفى الجامعة الأميركية وهم من الجيل المتداخل بين الأطباء الجدد والأطباء المخضرمين، بينما يتهيّأ غيرهم للهجرة، وفي سجلات نقابة أطباء بيروت 600 طلب إفادات حسن سلوك وخبرة، ويقول النقيب شرف أبو شرف انّ عدد المغادرين هو أضعاف ما هو مسجل، وتقدّر نقابة الشمال انّ 30% من الأطباء وهو رقم غير نهائي لأطباء ينتظرون عروضاً من الخارج وتتراوح أعمارهم بين 35 و 55 وهو العمر الذي يُبنى عليه (خاصة بعد انفجار المرفأ) ومعظم هؤلاء حائزون على شهادات معترف بها في الخارج.

وتقول نقيبة الممرّضات والممرّضين ميرنا ضومط انّ أعداداً منهم هاجروا بالفعل وأخذوا معهم عائلاتهم ولا إمكانية لتعويض غيابهم عن لبنان، لا سيما أنهم كانوا يخجلون من الكشف عن أجورهم، ومعظمهم هاجروا الى أوروبا وأميركا والسعودية والإمارات.

 ولم نتحدث عن هجرة الكثير من القضاة والعشرات منهم الذين تقدّموا بطلبات الإجازة غير المدفوعة، وعشرات المهندسين الذين حملوا حقائبهم ورحلوا وغيرهم من الإعلاميين وأصحاب الكفاءة!

 وتقول لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا انّ نسبة الفقر في لبنان ارتفعت من 28 بالمئة عام 2019 الى 55 بالمئة حتى نهاية آذار من العام 2020.

 لبنان ليس اليوم مهدّداً بالانهيار، بل هو في جحيم الانهيار، ولا تبدو في الأفق بادرة او سانحة او فرصة لتشكيل الحكومة!! كلّ الأطراف المعنية تتحصّن خلف متاريسها المطلبية غير آبهة وغير مكترثة وغير معنية، وما زالت تصرّ على تعنّتها وإطلاق التصريحات والجعدنات والحجج التافهة التي لا تبرّر عدم تشكيل الحكومة منذ خمسة أشهر، ومثل هذا الاستعصاء لم يعالجه اتفاق الطائف ولم تنصّ عليه المهل الدستورية في حالة الاستشارات النيابية ولا تحديد مهل لتشكيل الحكومات.

 والله، مثل هذه اليوميات اللبنانية تدمي القلب، ولا نرى وجوباً لبقاء هؤلاء الأطباء والممرّضين في وطن أساء لهم ولمواطنيهم الصامدين!! ولم يبقَ منه سوى المؤسسة الوطنية للجيش اللبناني والقوى الأمنية كافة.

 وحتى هذه القوى، تعرّضت منذ أيام، لتوصيف أطلقه وزير الداخلية العميد محمد فهمي قال فيه:

 «الأمن في لبنان تلاشى، وكنت قلت قبلها انّ الأمن في لبنان قد يتلاشى، واليوم أقول إنّ الأمن تلاشى، ويعطيكِ العافية» (يقول للإعلامية التي كانت تستضيفه).

 ويمضي معاليه فيقول: «ليس في مقدورنا تنفيذ 90% من مهامنا لحماية الوطن والمواطنينوالله أعلم شو بدو يصير»!

نحن لا نعلم الأسباب التي دعت الوزير لكي يبقّ هذه البحصة!! قد تكون عنده أسباب، ولكنها ليست موجبة على وزير الداخلية او ايّ وزير داخلية كان.

 واللافت انّ كلام وزير الداخلية جاء بعد خطاب قائد الجيش الذي وبّخ فيه الساسة قائلاً: انّ الجنود يجوعون !!

 ولا نقول انّ وزير الداخلية كان موفقاً في تصريحه، ونخشى ان يكون تقدّم بأوراق اعتماد.

 ونرجو لا بل نتمنّى ان لا ينشط اللصوص والمزوّرين وتجار المخدرات والمجرمين ليعتبروا انّ الساحة أصبحت أكثر ملاءمة للممارسة نشاطهم، في ضوء حصول أحداث عنفية تجعل المواطنين بين فكي الجوع والأمن، ومن آخر مظاهر مثل هذه الأحداث الرسالة النارية الواضحة للنائب اللواء جميل السيد!

 في مثل محنة الوطن التي نعيش، نتذكر أزمات لبنان المتراكمة والمتواصلة، ونتذكّر عظماء رجالات لبنان وفي مقدّمهم سماحة الإمام المغيّب السيد موسى الصدر في مناسبة دينية (27 تشرين الأول 1975 المصدر جريدة النهار) في ذكرى الإمام جعفر الصادق بتاريخ 29 تشرين الأول 1975 تنظيم جمعية البر والإحسان في صور وبحضور راعي ابرشية صور للكاثوليك المطران جورج حداد قال فيه:

 «الأحداث المؤسفة التي تعصف في وطننا سببها رجال السياسة عندنا، لأنّ الوطن بالنسبة اليهم كرسي وشهرة ومجد وتجارة وعلو في الأرض، وفساد.. ماذا تعرفون يا تجار السياسة، أيها المتعطشون الى الدماء، يا مصاصي أموال الناس وحرماتهم، ماذا تعرفون أيها المجرمون، يا من ابتليَ بكم لبنان».

 وتابع: «في هذه الفترة العصيبة عندما كنا نريد ان نجعل لبنان سنداً لإدانة إسرائيل ودليلاً ساطعاً على عدالة القضية الفلسطينية، وأنتم أيها السياسيون، آفة لبنان وبلاؤه وانحرافه ومرضه وكلّ مصيبة، أنتم الأزمة ارحلوا عن لبنان، ليس بين المسلم والمسيحي إلا التآخي والتكاتف والمساواة حتى في الحرمان».

بعد 46 سنة نتذكر خطبة سماحة السيد موسى الصدر وكأنها بالأمس

 لم يتغيّر شيء في لبنان، وماذا عسانا نقول او نزيد على كلام الإمام الصدر.

 لله درك يا سماحة السيد وسلام عليك أبداً أينما تكون.

*رئيس اللقاء الإسلامي الوحدوي

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى