أولى

الحلّ النقديّ
عاجز كأصحابه

 بشارة مرهج*

 

منذ أيام، وبعد عودته من أوروبا، أبلغ رياض سلامة، حاكم البنك المركزي، كبار المسؤولين في الدولة قراره إعادة سعر صرف الدولار إلى بيت الطاعة بعد انفلات هذا السعر وصعوده المفاجئ إلى مستوى الخمسة عشر ألف ليرة لبنانية، مما هدّد ما تبقى من احتياط هزيل واستقرار تُغطيه قشة.

والسؤال الذي يطرح نفسه اليوم في هذا المجال هو: لماذا تأخر الحاكم حتى وصلت الأمور الى مرحلة الانفجار وعودة الثوار الى الساحات كي يطمئن المسؤولين ويخبرهم أنه سيستخدم سلاحه السحري لتهدئة الأحوال وتخفيض سعر صرف جامح يسبح في جو عاصف من دون سقف ومن دون حدّ أدنى من أدوات الحماية والإنقاذ؟

ترى هل كانت في الأمر رسالة مبطنة من الحاكم الى الحكام بأنّ ترحيله هو دعوة مباشرة للفوضى والاضطراب، وأنّ أفضل الحلول هو الامتناع عن المسّ بموقعه رغم الغضبة الشعبية العارمة عليه، ورغم غرقه في بحر من التحقيقات الرسميّة سواء في الداخل أو الخارج؟!

هذا الأمر ستكشفه الأيام المقبلة مثلما كشفت عن تطميناته الجوفاء التي أطلقها في مواسم الخداع بأنّ الليرة بخيرـ وأن لا داعي للقلق، وأنّ القطاع المصرفي زينة لبنان، حتى وجد اللبنانيون أنفسهم على الأرض  حفاة عراة جائعين هائمين على وجوههم لا يصدّقون ما جرى من نهب وسلب وغدر رغم أنّ الكثير من المؤشرات كانت تدلّ على قرب حدوث الانفجار الكبير تبعاً لما قام به الحاكم ومعه المنظومة الماليّة المصرفيّة المليشياوية من تزييف للحقائق وهدر للمال العام واستيلاء لودائع اللبنانيين وسواهم، كما لتوسّع دائرة الإفادة من القروض المدعومة والهندسات المالية التي صبّت كلها في جيوب الأغنياء وأصحاب المصارف الذين انتفخت جيوبهم وتعدّدت قصورهم فيما صناديق مصارفهم تئنّ من الوجع وتصرخ خاوية بوجه من أودع وائتمن وصدّق.

وبعد لجم الآليات التي اعتمدها البنك المركزيّ والمصارف لرفع سعر الدولار هدأ نسبياً سعر الصرف ثم تراجع قليلاً من دون أن ينجح الحاكم وصحبه في إشاعة الثقة بين المواطنين والعاملين في الأسواق بأنّ هذا التراجع حقيقي وسيستمرّ لا سيّما إذا استمرّت جماعة الحلّ والربط في جموحها ورفضها تحمّل المسؤولية وتشكيل حكومة جديدة قادرة على ضبط المتلاعبين وتوقيف السارقين وإشاعة الثقة بالدولة المتهافتة واستنهاض الاقتصاد بخطوات جديدة عملية، آخذة بعين الاعتبار أنّ الحلول النقدية المؤقتة التي يطرحها حاكم المصرف ربما تستطيع تحقيق بعض الإنجازات في المدى المباشر، ولكنها عاجزة وحدها عن تقديم حلول ناجعة لمعالجة الانهيار الحاصل في الاقتصاد الوطنيّ والانفلات الحاصل في سعر الصرف.

فالحلّ النقدي كما يُجمع الخبراء المحايدين عاجز وحده عن تحقيق ذلك، وثمّة حاجة لتضافر جهود السلطة المالية مع السلطة النقدية ومع السلطة السياسية وهيئات الرقابة وفي مقدّمها مجلس النواب لإعادة التوازن والاستقرار إلى سعر الصرف عبر إجراءات مالية ونقدية وقانونية وإدارية تتكامل وتتفاعل مع بعضها البعض لبلوغ الهدف. وكلّ ذلك، كما يعرف القاصي والداني، يحتاج إلى قرارات واضحة إيجابية تأخذها حكومة مؤمنة بالقطاعات الإنتاجية، قادرة على مخاطبة التحديات الماثلة، ومصمّمة على التصحيح والإصلاح دونما هوادة أو تردّد، حكومة منّزهة من كلّ الأمراض والآفات التي فتكت بالحكومات السابقة ومنحت الفرصة لمعظم المسؤولين أن يخرجوا من أتون الانهيار وجيوبهم ملأى بودائع الناس والمال العام، فيما بقية الناس يتضوّرون جوعاً ويبحثون بين الأنقاض عن أنين أحبائهم وصدى الوعود التي تطنّ بآذانهم.

*نائب ووزير سابق.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى