الوطن

(مخاض لبنان الجديد (١

 } د. عدنان نجيب الدين

 بلاءات لبنان أربعة: حكام لا يفكرون إلا بمصالحهم، وأبناء طوائف ومذاهب لا يفكرون إلا انطلاقاً من عصبياتهم، ووطن لم يبلور بعد هويته. أما القضاء فهو ما زال مشدوداً الى قطبيتين: ضميره الحي المتنزّه عن الغرض الشخصي، وهذا ما عُرف به قضاة ترفع لهم القبعة احتراماً، وسياسيون لا يتورّعون عن محاولة تطويعه للهيمنة عليه من خلال التشكيلات والتدخلات.

1 ـ أما الحكام الذين تعاقبوا على الحكم فقد كانوا، باستثناءات قليلة، محكومين بهاجسين اثنين: الطمع بالسلطة والطمع بمغانم السلطة.

فالوصول الى السلطة يؤمّن لهم الهيبة بين أبناء مناطقهم، والوصول الى المجالس التشريعية، والحصول على مراكز وزارية، واصطناع زعامات لهم تنفعهم في المشاركة في مشاريع تحقق لهم ثروات محمية بعدم تطبيق قانون الإثراء غير المشروع، ثم في خلق حاشية لهم من خلال توظيف الأقارب والمستزلمين، وصولاً إلى توريث الأبناء. ومن أجل تحقيق كلّ هذه المكتسبات لا بدّ من نسج خيوط الولاء لجهات خارجية لها مصلحة بأن يكون لديها أدوات محلية تستخدمهم كلما دعت الحاجة.

2 ـ لبنان يحكمه دستور فيه بنود تناقض بعضها البعض. فهو ينص على أنّ اللبنانيين متساوون في الحقوق والواجبات، وأن لا شرعية لسلطة تناقض العيش المشترك. لكنه سرعان ما ينص على ما يميّز بين المواطنين انطلاقاً من انتماءاتهم الطائفية. ولكي يكون التمييز نافراً أكثر لحظ حصر التمثيل السياسي والوظيفي في ستّ طوائف على تفاوت في الحقوق والامتيازات بحيث أعطيت رئاسة الجمهورية للطائفة المارونية، وهي اليوم تبحث عن دور رئاسي فاعل من بعد ما انتزعت الصلاحيات من الرئيس أو قلصت الى الحدّ الأدنى، فيكاد الرئيس يكون مثله مثل ملكة بريطانيا مع فارق أنه يُنتخب من البرلمان ويقسم على الدستور من دون تفسير معنى قسمه، فهو منزوع الصلاحيات: لا يستطيع إقالة الحكومة أو حلّ البرلمان. أو إعلان الحرب مثلاً. علما ان الموارنة احتفظوا عرفاً بالوظائف الأهمّ في الدولة كقيادة الجيش وحاكمية مصرف لبنان،

وهناك رئاسة المجلس النيابي أنيطت بالشيعة وقد زيد في سنين رئاستها لتصبح أربع سنوات، وتساووا بالموارنة والسنة بعدد الوزراء.

أما الحكومة، وبالرغم من نص الدستور على أنّ السلطة أنيطت بمجلس الوزراء مجتمعاً، إلا أنّ رئيس الحكومة، يستطيع فرض إرادته ورأيه في كلّ القرارات من خلال الإمساك بحق إقالة الحكومة ساعة يشاء أيّ عند استقالته هو.

إذن نحن أمام نظام هش، تفتقد فيه العدالة ويختلّ التوازن. فدولة بثلاثة رؤوس أثبتت فشلها، لأنّ أهداف قادتها ليست واحدة، وإرادتهم متناثرة، وطريقة تفكيرهم مختلفة. فإما أن يكون نظامنا رئاسياً كامل المواصفات كما هو الحال في فرنسا، مع نزع الصفة الطائفية عنه، او يكون لرئيس الوزراء صلاحيات تنفيذية كاملة كما هي الحال في بريطانيا أو كندا بشرط أن يأتي من خلال انتخابات تتنافس فيها الأحزاب بعد إعادة النظر في قانون الأحزاب لتصبح أحزاباً وطنية غير طائفية، ويكون عندها رئيس الحزب القادر على تشكيل أغلبية برلمانية هو من يشكل حكومته، فلا نضطر لقضاء شهور في تشكيل حكومة غير متجانسة وغير فاعلة وغير منتجة.

والوصول إلى هذه الحلول علينا تكريس مبدأ المساواة في الحقوق والواجبات والتخلي عن الامتيازات الممنوحة لبعض الطوائف والممنوعة على غيرها مما تسبّب بالفرقة بين الطوائف والمذاهب، وخلخلة النسيج الوطني من خلال العصبياتيجب إعادة النظر بالدستور الذي نص على المساواة في بند ثم نسفها في بنود أخرى. وهذه اللامساواة هي سبب كلّ البلاءات.

علينا إذن الذهاب الى تغيير قانون الأحزاب والذهاب الى تفعيل نظام المحاسبة القانونية والشعبية، ثم نطلق المناصب والمراكز والوظائف من معتقلاتها الطائفية والحزبية، ولنترك التقرير فيها للشعب في الأمور السياسية، وللكفاءة في الادارة، وللنزاهة في القضاء؟

3 ـ نأتي إلى العصبيات الطائفية والمذهبية التي يدّعي البعض أنها الأساس الذي بُني عليه الكيان اللبناني.

نعم، هذا صحيح في المنظار الغربي الذي أراد لهذا الكيان أن يكون تجمعات مذهبية او مجموعة رقع خاطوا منها الثوب الذي أسموه «لبنان الكبير». وهذا الثوب ما زال منذ تفصيله معرّضاً للتمزق فترة بعد فترة، ونحن بحاجة في كلّ مرة إلى خياط يعيد إصلاحه.

علماً أنّ هذا الثوب قد أصابه الاهتراء ولم يعد ينفع لشيء، لأنّ لا شيء يبقى على حاله، فالظروف التي نشأ فيها لبنان الكبير تغيّرت، لكن الذي لم يتغيّر هو التاريخ والجغرافيا. فلبنان، هذا الوطن النهائي لكلّ بنيه، عاش فيه اللبنانيون منذ مئات بل آلاف السنين. هؤلاء هم أبناؤه منذ ما قبل الأديان السماوية. وبعض أبناء هذه الأرض اعتنق المسيحية، كما اعتنق بعض أبنائها الإسلام، ولا فضل لمسلم على مسيحي ولا لمسيحي على مسلم في الولاء او الانتماء لهذه الأرض التي اسمها لبنان. الفضل يعود فقط لمن يدافع عن هذه الأرض ويحميها ويعمّرها ويشيع السلام والمحبة والعدل بين أبنائها، ولا فرق بين مسلم ومسيحي في أداء هذا الواجب للدفاع عن الحقوق والحريات.

لقد جاء السيد المسيح برسالة المحبة والسلام لكلّ بني البشر. وجاء النبي محمد برسالة الرحمة والعدل لكلّ بني البشر أيضاً.

ألم يقل المسيح وهو يدعو الى التسامح والمغفرة: «سمعتم انه قيل تحب قريبك وتبغض عدوك. واما أنا فأقول لكم أحبوا أعداءكم باركوا لاعنيكم أحسنوا الى مبغضيكم وصلّوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم. لكي تكونوا أبناء أبيكم الذي في السموات فإنه يشرق شمسه على الأشرار والصالحين ويمطر على الأبرار والظالمين. لأنه إن أحببتم الذين يحبّونكم فأي أجر لكم أليس العشارون أيضاً يفعلون ذلك. وانْ سلّمتم على اخوتكم فقط فأيّ فضل تصنعون؟ أليس العشارون أيضاً يفعلون هكذا. فكونوا أنتم كاملين كما انّ أباكم الذي في السموات هو كامل (متى38:5-48 )

كما قال: لا تَظُنُّوا أَنِّي جِئْتُ لأَنْقُضَ النَّامُوسَ أَوِ الأَنْبِيَاءَ. مَا جِئْتُ لأَنْقُضَ بَلْ لأُكَمِّلَ». (متى 17:5).

أما في الإسلام، ألم يقل الله عن النبي: وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين (سورة الأنبياء آية ١٠٧)، ولم يقل رحمة فقط للمسلمين؟

ألم يقل القرآن مخاطباً من تعرض للأذى: «إدفع بالتي هي أحسن، فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم (سورة فصلت آية ٣٤). وقال في مكان آخر، «وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأرضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكونُواْ مُؤْمِنِينَ..» ( سورة يونس آية ٩٩). كما أنّ الإسلام يعترف بالسيد المسيح وبشريعة موسى:

إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌوَقَفَّيْنَا عَلَى آَثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآَتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (المائدة 5:44-46).

من بعد كلّ ما أوردنا نجد أنّ الخلافات هي سياسية، واختلاف على المناصب وتنافس على مغانم السلطة. ولا دخل للأديان بها، وإنما يلبسونها لباس الدين حتى تأخذ المطامع والمناصب لبوس القدسية. فتجيش لها العصبيات والغيرة على الدين والمذهب، ليغتني عندها الساسة والحكام ويفتقر فيها الشعب، فيتقاتل أبناؤه ظناً منهم أنهم يدافعون عن دينهم وطوائفهم فيقدّمون أنفسهم وقوداً لنار الفتنة التي يشعلها الحكام لتستوي عليها طبخة المغانم. هكذا تجهز وجبات أهل السلطة من حقوق المواطنين ودمائهم، فيفقرونهم ويذلونهم، بينما ينعم بهذه المغانم الحكام الذين تمّ انتخابهم لا ليكونوا سادة عليهم وإنما ليكونوا في خدمة مواطنيهم وتأمين رغد العيش لهم في دولة عزيزة لا يهدّدها عدو ولا تملى عليها توجهات سياسية أجنبية. فمن سخريات الأقدار ألا تشكل حكومة في لبنان إلا إذا حدّد مواصفاتها الآخرون، ويقبل المعنيون هذا الأمر صاغرين. يتحدثون عن حكومة اختصاصيين، لكنهم للأسف لا يفقهون حتى معنى كلمة «الاختصاصيين». فالوزير الاختصاصي المقترح ليس فقط من يحمل شهادة اختصاص في علم ما، بل من يُحسن إدارة شأن عام من شؤون الدولة مرتكزاً الى اختصاصه العلمي، وهذا يتطلب منه أخذ مسافة عن أهوائه السياسية والانكباب فقط على عمل منتج للدولة يخدم مصلحتها العليا ولا يلتفت إلى من عيّنه في هذا المنصب. فهل هذا أمر متاح؟

مقالات ذات صلة