أولى

المرأة فرد في المجتمع وليست ظاهرة!

} كارميلا إبراهيم

عندما يتقدّم الإنسان في العمر تضعف ذاكرته القريبة ويسترجع ذاكرته البعيدة، فيبدأ بسرد أحداث عن طفولته وشبابه دون الضوابط التي كان يُحسب لها حساباً.

هذا ما يحصل مع والدتي التي بلغت الخامسة والثمانين من العمر، إذ بدأت تفصح لي عن عادات كانت تمارَس في قريتها «القاع» الواقعة في شمال شرق لبنان، وهي عاداتٌ تعود لأكثر من أربعة آلاف سنة ق.م، وكانت سائدةً في «الهلال السوري الخصيب».

 كان «التسليق» احتفالاً للنساء في قريتها مع أولادهن الصغار، فكنّ يتجمّعن باكراً مع أطفالهن، حاملاتٍ السلال وينطلقن باكراً إلى الحقول لجمع النباتات البرية الحلوة الصالحة للأكل (السليق).

ثمّ يذهبن إلى السواقي يغسلنها جيّداً، ويتجمّعن في دار إحداهن يحتفلن بهذه «السْليقة»، يبللّن البرغل الناعم بدبس البندورة والفليفلة الحمراء، ويهْرمن بعضاً من هذه النباتات الخضراء ويتبّلنها بدبس الرّمان وزيت الزيتون، ويأكلنَها بورق الملفوف المقطوف طازجاً ويُدعى هذا الطبق بـ «السفْسوف».

منذ العصر الحجري كانت النسوة خبيرات بالأعشاب ومسؤولات عن جمعها وطهوها أو تجفيفها أو حفظها كأدويةٍ لمعالجة بعض الأمراض.

وفي النظام الاجتماعي الأمومي وما قبل الحضارة المدينية، كان البشر يكرّمون عناصر الطبيعة ويستنجدون بها ومحورها «الأمّ الكبرى» المرموز لها بتمثالٍ صغير لا هوية له «يتدلى الثديان ليشكلان مع البطن والوركين تكويناً واحداً متراصّاً تتجمّع فيه هذه الرموز في بؤرةٍ واحدةٍ هي مستودع الخلق، قدرةٌ إلهية تبدو كأمّ وأنثى كونية متطابقة مع نظام الطبيعة لا متعالية عليه فاعلةٌ فيه».

مع كثرة الإنتاج الزراعي وحدوث الثورة المدينية، تفوّقت الآلهة الذكريّة على الأمّ الكبرى لكن هذا لم يبدّل من خصائصها، فبقيت هي رمز الخصوبة والحياة، وحافظت على مكانتها في الحضارة السورية.

كان الصراع واضحاً بين الآلهتين ولكن ليس لغاية تجريمها كما حصل في الميثولوجيا اليونانية التي بحضارتها وفلسفتها تكوّن الخلفية الكامنة للحضارة الغربية.

لمْ تحصل في تاريخ منطقتنا اضطهادات ضدّ المرأة، مثلما حدث في أوروبا إبان العصور الوسطى.

جدّتي المسيحيّة كانت تعقد منديلاً على رأسها تتدلّى منه ضفيرةٌ على كلّ كتفٍ، والفستان لم يكن يتجاوز الكاحل، وتلبس تحته سروالاً أبيض طويلاً، أمّا جدي فكان يضع حطّةً وعقالاً على رأسه ويلبس قنبازاً وسروالاً أبيض طويلاً لغاية الكاحل. وفي الحصاد كانا يغطيان وجهيهما ويديهما للوقاية من الشّمس. لم يكنْ ذلك التزاماً دينياً بلْ هي عاداتٌ تخدم أساليب العيش آنذاك.

أمّا عن تعدد الزوجات فلمْ نجده رائجاً في مجتمعاتنا، بل هو نادر الحدوثْ «اللّهم في المدن» وغيرْ مقبولْ اجتماعياً.

كانت المرأة دائماً عاملةً مجاهدةً كما يذكر أنيس فريحة في كتابيهإسمعْ يا رضا» و «القرية حضارة على طريق الزوال») هي تعملْ أكثر من الرجل في وظيفتها الاجتماعيّة منذ حضارة «تل حلفْ»: الإهتمام بالمسكن ومحيطه من زراعة وحيواناتْ داجنة، إضافةً إلى دورها الطبيعي كأمّ ومربية وزوجة. هي راعية العائلة ومساعدة لزوجها في أوقات الحصاد، كما أنّها تحيك السّجاد والبسط والنسيج والسلالْ بالإضافة إلى الكثير من الصناعات اليدويّة.

أمّا في تاريخنا الحديث فمنذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر، أصبحت النسوة يعملن في كرخانات الحرير، كما عملن في تمديد سكة الحديد، وقد ذكرتْ لي جدّتي أنّها عملت مع أبناء قرْيتها في تعْبيد الطريق المؤدي إليها، وأخبرتني أيضاً أنّها إشترت مما جنته «أرباعاً» من الذهب لتزيد مكانتها كعروس في يوم زفافها.

فالمرأة الّتي تعمل لا يمكن أن تكون إلا فاعلةً في مجتمعها ولو بطرق مختلفة. لم يعرف مجتمعنا تفشي حالة «السّت» إلا مع الانتداب الفرنسي وتثبيتْ النظام الرأسمالي، فكان عاماً في لبنان وقليلاً في الجمهوريّة السورية الشاميّة.

الحضارة السائدة في العالم اليوم مع كلّ تقدّمها العلمي والتكنولوجي هي مجتمعات ذكوريّة هرمية النظام، إنْ كان على صعيد نظام طبقات الأمم والدول مع بعضها البعض أو بين طبقات المجتمع ذاته.

فالإجحاف الذي يصيب الفرد في المجتمع هو إجحافٌ هرمي من الأقوى إلى الأضعف: هي عملية حسابية بسيطة، كلّما زاد ضعف الفرد في موقعه الطبقي وكلّما تدنّت طبقته الإجتماعية، وتعرّض لظلمٍ أكبر مهما كان جنسه. فالكلام عن حقوق المرأة أصبح كلاماً معلوكاً غير فاعل.

ففي جميع ميادين العلوم وتقدمها الواضح، تسعى حضارة اليوم لتخدم الأشخاص الأكثر حظاً، وهي موجودة في خدمة جميع الأفراد في المجتمع من صحة جسديّة ونفسيّة ورفاهيّة معيشية، وهذا لا ينفي أنّ هناك إجحافاً في حقوق المرأة على صعيد القوانين لأنّها في المجتمعات الفقيرة هي الأضعف ثمّ يأتي من بعدها الأطفال والمعوقين ووو… 

والأصحّ هو النضال لإرساء مجتمع سليم بجميع مكوّناته وعلى تنوّع قدرات أفراده فلا يجوز تجزيء الحقوق.

في تقاليدنا يوجد حضور للمرأة لا نلاحظه لكثرة تغرّبنا عن هويّتنا، فالأجدى استعادتها والتركيز على ما يخدم تقدّمنا كمجتمع. فالمرأة فردٌ فيه وليست ظاهرة!

ولم أجد أصدق من هذا التوصيف للمرأة البشريّة غير المنزهة على لسان عشتار (الأمّ الكبرى):

أنا الأوّل، وأنا الآخر

أنا البغي، وأنا القديسة

أنا الزوجة، وأنا العذراء

أنا الأمّ، وأنا الإبنة

أنا العاقر، وكثر هم أبنائي

أنا في عرسٍ كبير ولم أتّخذ زوجاً

أنا القابلة ولم أنجب أحداً

وأنا سلوة أتعاب حملي

أنا العروس وأنا العريس

وزوجي من أنجبني

أنا أمّ أبي، وأخت زوجي

وهو من نسلي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى