أخيرة

الثلاثاء الحمراء من الروشة إلى عكا

} حمزة البشتاوي*

أثناء دراسته في الجامعة الأميركية في بيروت كان عطا الزير القادم من مدينة الخليل يحب الكورنيش البحري من المنارة إلى صخرة الروشة، وبينما كان يتمشى في صباح يوم الثلاثاء 30 أيار عام 1923 رأى حشداً من الناس يتجمّعون في ساحة قريبة من صخرة الروشة فاقترب منهم ليرى عدداً كبيراً من الجنود الفرنسيين يقتادون رجلاً غير مكترث بهم يمشي برأس عالٍ وخطى واثقة ويحمل في إحدى يديه كوفية وعقالاً، وباليد الأخرى يدخن لفافة تبغ ويبتسم ساخراً بوجه الجنود الذين اقتادوه إلى خشبة عليها مشنقة نصبت في وسط الساحة وحاولوا تركيعه ولم يستطيعوا، ولما أرادوا ربط عينيه بمنديل رفض وبقي منتصب القامة وظهره إلى البحر وقبل أن يُنفَّذ به حكم الإعدام أخرج من جيبه كمشة تراب من أرض قريته، وقال: تراب بلادي سينتصر وبعد تنفيذ حكم الإعدام مباشرة انتشرت المظاهرات المندّدة بالاحتلال في أنحاء مدينة بيروت كافة، وقتل وجرح عدد من المتظاهرين، ولكنهم استمروا بالتظاهر حتى تسلّموا جثمان الشهيد أدهم خنجر ودفنوه بجنازة مهيبة تليق بالقادة الأبطال في مدافن الباشورة.

وبعد أن عاد عطا الزير إلى الخليل بقيت شخصيّة أدهم خنجر الذي ولد مثله في العام 1895 تحرّك عقله ووجدانه.

وبعد سبعة أعوام من استشهاد أدهم خنجر وأثناء الاحتفال بالمولد النبويّ الشريف نظمت حركة بيتار الصهيونية تظاهرة كبيرة قرب حائط البراق وهتف المشاركون فيها (الحائط حائطنا). وقام أحد الصهاينة بالإعتداء على المحتفلين بذكرى المولد فاندلعت مواجهات تحوّلت لاحقاً إلى ثورة عارمة عرفت بثورة البراق.

وفي ذلك الوقت انتشر خبر مثل النار بالهشيم، يقول إن الصهاينة قتلوا اثنين من أهالي القدس بالرصاص والسكاكين فردّ الأهالي بإضراب في كل المدن والقرى وتحوّلت الإضرابات لمواجهات سقط خلالها وتحديداً يوم 29/8/1929 مئات من القتلى وآلاف من الجرحى واعتقلت سلطات الانتداب البريطاني المئات وحكمت على 20 شخصاً منهم بالإعدام واعتقلت 92 من الصهاينة وحكمت بالإعدام على واحد منهم اسمه مانكين، وهو الذي قتل الشيخ عبد الغني عون وستة من عائلته في حي أبو كبير في يافا، لكن هذا الحكم تغيّر ليصبح 5 سنوات ومن الفلسطينيين استقرت أحكام الإعدام على ثلاثة وهم:

عطا الزير ومحمد جمجوم من مدينة الخليل وفؤاد حجازي من مدينة صفد.

وفي داخل السجن التقى الأبطال الثلاثة بـ 42 شاباً بغرفة صغيرة وكانوا كل يوم يستمعون من أحدهم إلى قصة، وعندما جاء دور عطا الزير حدثهم عن أدهم خنجر، ثم قال: عندي خطة وهي أن نحفر سراً نفقاً من أرض غرفة السجن إلى خارجه والحفر سيكون ليلاً بالإبرة وبالنهار بالملعقة التي نأكل بها، ونخرج على دفعات وبعدما انتهوا بدأوا بالخروج واحداً تلو الآخر.

وكان دور الأبطال الثلاثة هو الأخير، ولكن حراس السجن اكتشفوا النفق وبقي الأبطال الثلاثة بالسجن الى أن تبلغوا بأن إعدامهم سيكون يوم الثلاثاء في 17/6/1930.

وفي ذلك اليوم تصاعدت أصوات المؤذنين بالمساجد ودقت أجراس الكنائس وعم حزنٌ وصمت. ولم جاء وقت الإعدام بدء كل واحد منهم يطلب أن يكون هو الأول وتنفذ حكم الإعدام بفؤاد حجازي الساعة 8 صباحاً في سجن عكا، ولما جاء دور عطا الزير تذكر وقفة أدهم خنجر وما قاله لحظة استشهاده فابتسم، وقال: تراب بلادي سينتصر، كما أن محمد جمجوم طلب من الحارس أن يفكّ القيود عن يديه ولما رفض الحارس نفض محمد يديه بقوة وكسر قيوده ومشى باتجاه المشنقة وهو مرفوع الرأس والجبين وقال: تراب بلادي سينتصر. وكانت والدة عطا الزير قد ودّعته ببيتين من الشعر العامي:

السجن إلك قفص من ذهب

والقيد خلخال

وحبل المشنقة كردائك

يا زينة الأبطال

كما كتب شاعر فلسطين الكبير إبراهيم طوقان قصيدته المشهورة:

كانوا ثلاثة رجال يتسابقوا عالموت

أقدامهم عليت فوق رقبة الجلاد

وصاروا متل يا خال طول وعرض لبلاد

نهوا ظلام السجن يا أرض كرمالك

يا أرض يوم تندهي بتبين رجالك

يوم التلاتا وثلاث يا أرض ناطرينك

مين اللي يسبق يقدّم روحه من شانك

***

من سجن عكا طلعت جنازة

محمد جمجوم وفؤاد حجازي

جازي عليهم يا شعبي جازي

المندوب السامي وربعه عموما

ومنذ ذلك الوقت ما زال عطر الحنين يفوح مثل رائحة الزعتر والميرامية في كل البلاد.

*كاتب وإعلاميّ.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى