أخيرةثقافة وفنون

من آليّات اشتغال الجيل الأدبيّ الخامس في ديوان «ومضة» لأمين الذيب

الحبيب الدائم ربي*

 رغم مفارقة اللغة للواقع إلا أنها تبقى جزءاً منه، ما لم نقل إن وجود الواقع مرتهن باللغة. فعبر فعل الكينونة الإلهي ما كان سيكون ثمة العالم ولا مؤثثاته. ولا شك في أن أحد أهم هذه المؤثثات هو الأدب باعتباره إنجازاً لغوياً بالأساس، يقوم على فعل المحاكاة والتخييل، وإنتاج عوالم ممكنة تضاهي كينونة العالم. لهذا فإن أي تغيير قد يطرأ في حياة المجتمع من شأنه أن يجد له صدى في المنتج الأدبي. من ثم حاول بعض الفلاسفة والمنظّرين الربط بين المراحل التاريخيّة للأمم والشعوب وانبثاق الأجناس الأدبية أو اندثارها، كاعتبار الملاحم لسان حال الحقب ما قبل الفلسفية (أي الحقب السعيدة)، والتراجيديات صدى لظهور الشرخ بين الأبطال الملحميين والعالم، فيما الرواية كانت صوتاً لفترة تسيّد البورجوازية لتأتي بعدها القصة القصيرة والقصة القصيرة جداً كلسان حال الطبقات الفقيرة والمهشمة، وهكذا. هذا إذا ما اقتصرنا على الفنون السردية. من دون أن يعني ذلك أن التعالق بين المستويين (المحفلين) حاصل بشكل ميكانيكي، وإنما هي جدلية معقدة من التفاعلات بين البنى العميقة للفن وبنى الواقع. ولا شك في أن فكرة الأدب الوجيز، بما هي مشروع يتغيا ترجمة روح اللحظة الراهنة، والقبض على جوهر إبدالاتها النوعية الحالية والمستقبلية، تخلقت، وهي تستحضر، مجمل الأسيقة الشارطة للفن والحياة حيث الانتقال إلى السرعة القصوى والتحرك في الأحياز الضيقة جداً وبكفاءة أكبر. نقول هذا ونحن نفكر في الجيلين الخامس والسادس من التكنولوجيا الذكية للمعلومات والتواصل.

من ثم فإن الراحل أمين الذيب، حين فكر في بناء مقترحه، كان واعياً، نقدياً وإبداعياً، بضرورة اجتراح نمط مختلف من التعبير الأدبي قوامه الوجازة القياسية والشحن الفائق والفنية العالية حيث لا وجود لكلمات فارغة أو ميتة. وقد جاء ديوانه «ومضة» ليؤكد هذا الرؤية النسقية.

ولما كان ليس بوسعنا القيام بتحليل استقصائي لمختلف آليات التوميض «عالية النطاق»، في ديوان «ومضة» فإننا اخترنا التوقف عند اثنتين منها:

ـ الميتاومض: حين قال أبو نواس: «ألا فاسقني خمراً وقل لي هي الخمر» لم يكن يرمي الكلام على العواهن، وإنما كان يبتغي تحصيل أكبر قدر من اللذاذة في فعل واحد ألا هو «الشرب» و»الاحتساء» عبر حواسه كلها: الذوق واللمس والنظر والشمّ والسماع. أي أن يمارس «الفعل» ويعقله في آن، ضدًا على المقولة الفرويدية التي تقول «إن العين لا ترى العالم وترى ذاتها في آن». وهذا الإجراء الميتاإبداعي، أي «المتعقل»، والواعي بذاته، سنجده يتكرّر لدى أمين الذيب في أكثر من موضع، إذ يقول مثلاً:

« الرصيف المقابل يعجّ بالظلام

كيف سأعبر

لا مصابيح ترشدني للمعني القتيل».

ويقول:

« ماذا يفيدني

إذا رسمتُ الصمت

على زورق ورقي

هل يدرك البحر فارق اللغة».

ويقول:

« اخلعْ وجوهك

تحرّر

عسس اللغة تخذلك

لا يرتشد المعنى لتقولك»

ويقول:

«أبْعدَ من اللغة

رسمتُ أشكال الحروف

امرأة تبتهل لمعنى وجودها

فما يجمع بين هذه الصور، التي أحصينا منها أزيد من أربعين وجهاً في الديوان، هو انعكاس المعنى على مرآة اللغة. وهذا الانزياح، بل الوعي بالفجوة بين الصور في الذهن وفارق انقيالها، بين وجودها بالقوة وتشكلها الفني عبر اللغة، هو ما يقدح شرارة القول. فـ»المعنى» الضاجّ بالمعاني يخذله «عسس اللغة» بل، وأحياناً، يرديه قتيلاً. إذ إن في سعيه إلى الفكاك من اللغة وعنها فإن شحناته الموجبة، كما في البرق، تصطدم بالشحنات السالبة للغة في «ضربة مرتدة» قوية، ونتيجة «فرق الجهد الكهربي» بين المعنى واللغة، تتولد طاقة تفريغية مباغتة شديدة الومض. ومعلوم أن ممكنات اللغة قد تضيق عن شساعة الرؤية. فحسب النفري «كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة»، وهو ما صاغه الشاعر أحمد المجاطي في قولته الشهيرة «تسعفني الكأس ولا تسعفني العبارة». صحيح أن للغة كفاية معقولة في الخطاب التواصلي، إلا أنها تغدو قاصرة في المقامات الشعرية (الإنشائية). وهي في تجربة الأدب الوجيز، وخاصة في الومضة الشعرية، تصبح أشد ضيقاً. مما يطرح تحدياً على الأدباء والمبدعين للدفع بالتوتر إلى منتهاه. بانتهاج حيل مختلفة، منها هذه «الميتاتوميض».

لنتأمل هذه الصورة:

«على اتساع الأمس

بنيتُ كوخاً لحلمي

سأعبر من خرم إبرة

إلى رحابة المعنى».

« الصمت

 لغة الاستحالة

زمان ملتبس الرؤيا

اللغة عاقر».

« لا يمتثل المعنى لرغائبنا

كامرأة تعرض عن حبيبها..»

إن الشاعر هنا «يخوض صراعاً طبقياً في قبيلة اللغة» (عبد الكبير الخطيبي)، حيث ينفك الجدل في الأخير، لا على الطريقة الطاوية السلسة وإنما بتصادم يحقق شرط الحدين معاً من دون تنازلات من حد لحد، مما يولد ومضاً هو مبتغى الأدب الوجيز. فضيق المحيط اللغوي، كما في الجيل الخامس من الاتصالات، يقوّي جاذبية المركز الدلالي وكثافته، وفي تفريغ الطاقة تحدث ما سماها الذيب «لغة الاستحالة» وهي لغة الومض.

ـ آلية الإرصاد أو الانشطار la mise en abyme

تتلخص هذه الآلية في كونها إجراء للتضعيف والتكثيف في النصوص الأدبية والفنية. إنها الكتابة وهي تتمرأى، أو صورة الكتابة منعكسة في مرآة ذاتها. وهي تقنية تم اللجوء إليها منذ القديم، في القصيدة (الإرصاد) والرواية (كما لدى أندريه جيد في روايته «مزيفو النقود» مثلا)، إلا أنها في «الومضة» قد تمنح النص توتراً أقوى.

يقول أمين الذيب:

« للصباحات أحلامها

متاهات التأويل

وجه امرأة تحاول طي عشقها

عن عيوني»

فالصورة هنا واحدة متعدّدة. إنها صورة أحلام متكتمة، منطوية على عشقها، وعن العيون، لكن تتم قراءتها في «عيون أخرى» بفعل التأويل.

«بين زمنين

تنبت للعشق رؤيا

كأن تحضن الشمس قمرا

في غفلة الوقت».

«القمر الشتوي

يعلق مناديله الحميمة

على نوافذ الانتظار

كامرأة ترتب مناديلها».

وتجدر الإشارة إلى أن هناك طرقاً كثيرة لتدبير الميتاوتوميض والانشطار. فرغم اختلاف الآليتين. إذ إن الأولى تتمثل في النص الذي يفكر في ذاته وهو ينكتب، من دون أن ينفصل التفكير عن نسخ النص، بمعنى أن النص وإن كان مكوناً من طبقتين: واحدة واصفة والثانية موصوفة، فإنهما تشكلان معاً نسقاً واحداً. فجدلية الومض والميتاومض هي جوهر الاشتغال التكثيفي. كذلك فإن الانشطار، بما هو تنصص أو «تناص ذاتي» (لوسيان دلينباخ) لا يأتي على وجه واحد، بحيث يتخذ أشكالاً عديدة، منها: التلخيص والتضعيف والتكرار والإيحاء بالنهاية أو التذكير بالبداية إلى آخره. وهذا التنوّع قد يسمح، أحياناً، بتقاطع الآليتين: الميتاومض والإرصاد. مثل ما هو في الصورة التالية:

«….

اللغة بين ضدين

ودرب الكون قصيّ»

بل إنه يتمظهر بصورة جليّة في عنوان الديوان «ومضة».

إن العنوان، عادة، لا يقوم بوظيفة أجناسية، فهو مكون إشاري لفحوى النص لا لتوصيف انتمائه إلى قول مخصوص. لذلك فإنه، غالباً ما يحتاج إلى مُناص يُجَنسه. بيد أن «الأمين» في «ومضة»، يحسم أمر تجنيس عمله من خلال العنونة، وهذا تجنيس مُكتـّل. أي مضغوط الكتلة الحجمية. ثم يُردفه بمناص «ديوان» لتغدو هذه الومضة، على وجازة إيحائها، ديواناً، وهو بذلك يبغي التأكيد على أن مجموع ديوانه، وهو ومضات كثيرة، مُكوَّن من «ومضة» كلية كمعادل موضوعي لتركيز طاقة الومضة أضعافاً تناظر طاقة الاستيعاب والتخزين لدى الجيل الخامس من التكنولوجيات الحديثة، وتحاكي جاذبية الثقوب السوداء التي تمتص كل العوالم المحيطة بها في بؤرة التوحد المطلق.

*صديق ملتقى الأدب الوجيز

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى