أولى

ملحمة القدس

 بشارة مرهج

إنها ملحمة تاريخية كبرى أن يواصل الشعب الفلسطيني مقاومته الباسلة للمشروع الصهيوني في ظلّ ظروف سيئة ازداد سوؤها بعد دخول الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب على الخط، مُصراً على تطبيق صفقة القرن وتركيع القدس وتحويل القضية الفلسطينية إلى مجرد ذكرى، متجاهلاً تجذّر الفلسطيني في أرضه وإيمانه بعروبته وتمسكه بحقوقه وتفانيه في الدفاع عن مقدساته واستعداده الدائم لمقاومة المشاريع المتتالية التي تفرزها الدوائر الصهيونية الاستعمارية بغية تخديره وشلّ مقاومته وحمله على الاستسلام.

لقد خسر ترامب المعركة بعدما حاول تجويع الشعب الفلسطيني وتفكيك الأونروا ونقل سفارته إلى القدس ورعاية كلّ أشكال الفساد والشوفينية في العالم، ولكن هذا الشعب الذي رفض «مكرمات» ترامب وجابهها بقوة وعنفوان انتظر من أشقائه التفاتة كريمة فخاب ظنه إذ اكتظت طريق التطبيع بالوافدين الذين يعتقدون أنّ العلاقة مع الكيان الصهيوني ستكون مجدية في الوقت الذي يبحث فيه هذا الكيان عن مكاسب من هذه العلاقة يعزّز من خلالها وضعه الاستراتيجي المتراجع بعد الهزائم المتلاحقة التي مُني بها منذ حرب تشرين 1973 وصولاً الى حرب تموز 2006 مروراً بحرب التحرير في لبنان عام 2000 وانتفاضات الشعب الفلسطيني المتلاحقة.

اعتقد الكيان الصهيوني الغاصب أنّ استكمال احتلاله للقدس سنة 1967 سيطوي ملفها ويجعلها مدينة يهودية خالصة تتحوّل الى عاصمة أبدية لدولة من خارج العصر قائمة على العنصرية والتعصّب والإقصاء. لكن الشعب الفلسطيني الذي يشعر بالقدس تنبض داخل شرايينه، ويعتبرها عاصمة أبدية لدولته المستقلة، عطل المشروع الصهيوني بنضاله اليومي المستمر ضدّ الاستيطان والتهجير والتهويد. وعلى خلاف ما توقع العدو صبر الشعب الفلسطيني على الحقد والقهر والاستفزاز وتحمّل ما لا تتحمّله شعوب العالم من ظلم عنصري ممنهج واعتقالات دورية وإدارية لا تنتهي، متمسكاً بأرضه وتراثه ومقدساته، رافضاً كلّ الإغراءات والإملاءات الصهيونية، متحمّلاً في الوقت نفسه ظلم ذوي القربى وحصار القوى الكبرى.

وإزاء الاستفزازات المتواصلة وصولاً الى اقتحام المسجد الأقصى مراراً وتكراراً، وإزاء حملات الاعتقال والضغط والطعن وإخلاء المنازل وتشريد العائلات وتصعيد القيود على حركة الانتقال والسفر والزواج ولمّ الشمل والعمل والدراسة، فانّ الشعب الفلسطيني المحاصر رفض الاستسلام وخرج الى شوارع القدس منتفضاً ضدّ الاحتلال مقاوماً حرابه مُصرّاً على حقوقه، مدافعاً عن الأقصى بالصدور العارية، متحدياً السجان بأمعائه الخاوية، ملهباً حماس العالم العربي والعالم الإسلامي وأحرار العالم، مؤكداً عبر الدماء والاستشهاد ان لا تنازل عن فلسطين وحريتها وسيادتها مهما صعّد العدو الصهيوني من ممارساته العنصرية ومهما بالغ في إجراءاته القمعية.

إلا انّ هذه الوقفة البطولية لأهل القدس وشباب فلسطين ليست كافية لكسر إرادة الصهيوني المصمّم على التهويد مستفيداً من الدعم العالمي وبعض المواقف العربية المتخاذلة. فالحاجة لا تزال ماسّة لدعم الأشقاء العرب والدول الإسلامية وكلّ الجهات التي ترفض إسقاط المسجد الأقصى وكنيسة القيامة وفلسطين كلها بقبضة الجلاد العنصري. وهنا لا بدّ من مناشدة رجال الدين المسلمين وفي طليعتهم الأزهر الشريف وبابا روما وسائر البطاركة والمطارنة لرفع الصلاة من أجل القدس والتضامن الفعلي مع أهالي الديار المقدسة الذين يقفون، وحدهم على الأرض، سداً منيعاً بوجه التيار الصهيوني المصمّم على تغيير هوية بيت المقدس وإسقاط مقدساتها وإقامة الدولة اليهودية الخالصة على أرض فلسطين التاريخية وتهشيم العالم العربي وتقسيمه بشكل نهائي واغتيال تطلعاته الى الاتحاد والتقدم والحرية.

لقد ثبت، بعد الانكشاف المتكرّر للدور الإجرامي الصهيوني القائم على العدوان والاستلاب والإرهاب في المدى العربي والعالم الإسلامي، أنّ الفلسطينيين لا يدافعون عن أنفسهم فحسب وإنما يدافعون أيضاً عن المنطقة بأسرها، بشعوبها وحقوقها وتطلعاتها، ويدافعون أيضاً، في زمن الانحطاط والإفلات من العقاب، عن قيم الحق والعدالة والحرية في العالم، ما يجعل فلسطين قِبلة أنظار الأحرار وأمل الشعوب في إسقاط آخر معاقل الاستعمار في العالم.

*نائب ووزير سابق.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى