أولى

القدس هي الأساس

 بشارة مرهج*

في ضوء التطورات الخطيرة والمحورية التي تشهدها اليوم الأراضي الفلسطينية المحتلة حيث يواجه الشعب المقهور منذ عقود طويلة آلة الحرب الصهيونيّة وجيشها ومجتمعها بشجاعة وفعالية وتصميم يمكن أن نستخلص بعض الحقائق والاستنتاجات التي تؤثر في مسيرة الصراع الفلسطيني الصهيوني، كما في أوضاع كلّ قطر عربي، لا سيما الأقطار المحيطة بفلسطين التي تحوّلت من واسطة عقد بين البلدان العربية ومدخلاَ لشرقها إلى غربها وغربها إلى شرقها، مع كل ما يعني ذلك من تفاعل وتكامل ونماء، إلى بقعة فاصلة عدوانيّة، تزرع الفوضى والاستبداد في المنطقة وتتعرّض لكلّ هذه الأقطار من دون استثناء لإخضاعها للمنطق الصهيوني والتكيّف معه عبر القوة والإعلام والدعم الاستعماري المتواصل والمتزايد عبر الأيام.

راهَن العدو وعمل على تفتيت دول الطوق لا بل كلّ الدول العربية إلى دويلات قائمة على أساس عرقي أو طائفي. واعتقد مفكرو وقادة الكيان لفترة من الزمن، تصاعد فيه الدعم الأميركي إلى الذروة وخاصة على مستوى الضغط على الدول العربية للالتحاق بمشروع التطبيع وصفقة القرن، أنّ الأمر قد استتبّ لهم وأنّ الذي يمانع اليوم سيخضع غداً بالتزامن مع الحصارات المتعددة الأشكال التي تفرض على فلسطين ولبنان وسورية والعراق وسواها من البلدان.

غير أنّ إصرار الكيان الصهيوني على تهويد القدس واحتلال الأقصى وتشريد أهالي سلوان و»الشيخ جراح» وتصعيد عملياته في شهر رمضان الفضيل ألهبَ الشعب الفلسطيني في القدس كما الضفة وغزة والجليل والساحل، بعد أن وجد نفسه معرّضاً مرة جديدة للاقتلاع والتهجير وفقدان كلّ ما يملك من ممتلكات ومؤسسات وذكريات لصالح مستوطنين يهود يمثلون ذروة الانحطاط الإنساني قادمين بحراسة الجيش ورعاية المحاكم واحتضان النظام العنصري لاحتلال المنازل واجتياح المدارس والمحال والمؤسسات وإذلال الأمهات وكبار السن والفتيات واستكمال السيطرة على أغلى ما يملك الفلسطيني من مقدسات مما استثار الصغير والكبير والمرأة والرجل وجعل الفلسطينيين كتلة نارية واحدة ترفض الانصياع والإذلال وهجران القدس بكلّ ما تمثله من هوية وطنيّة وقوميّة، وبكلّ ما تعنيه من تراث مسيحي إسلامي يمتدّ الى قرون. وتلك الشرارة التي أشعلت الفضاء الفلسطيني بوجه العنصرية الصهيونية وقطعانها وشرطتها ومحاكمها المزيفة لم تكن وليدة اللحظة فقط وإنما كانت وليدة الإجراءات القمعية والتدابير الاستبدادية والممارسات الإرهابية التي كانت السلطات الصهيونية تطلق العنان لها مع كلابها البوليسية لحمل الفلسطينيين على ترك بلادهم هرباً من حكم الابارتهايد وحالة الرعب التي يفرضها في الشوارع والطرق والجسور والساحات وبين البيوت وداخل المدارس والجامعات والمستشفيات والأماكن المقدسة.

إزاء ذلك كله شعر الفلسطيني في قرارة نفسه أن لا مجال للمساومة ولا مجال للاستسلام، وأنّ الوقت حان لمواجهة الصهيوني الذي اعتبر نفسه متفوّقاً نجح في احتلال الأراضي وإخضاع العقول وترويض النفوس. وصلت العجرفة الصهيونية إلى أعلى مستواها ومتطرّفوها يقتحمون الأقصى والبيوت في سلوان و»الشيخ جراح»، ووصل الاحتقان الفلسطيني إلى ذروته وهو يرى «أقصاه» يُهان ومنازله تصادر.

فاجأ أهل القدس الاحتلال في المكان الذي اعتقد أنه تمكن من استيعابه وترويضه حيث كان الفصل عنصرياً فاشياً على أمل القضاء على الانتفاضة من دون أن ينتبه إلى أنّ أهالي القدس قد عقدوا العزم على المقاومة وأنّ أهالي الضفة ومناطق 1948 كانوا قد انتشروا في القدس لمساندة أهلهم المرابطين في الأقصى والأحياء والأسواق ودروب الجلجلة. صعّدت «إسرائيل» من ضرباتها على أمل إسكات «المتطاولين» على جبروتها فانتفضت غزة رافضة استفراد القدس أو التعرّض لأهلها ومقدساتها. في الوقت نفسه تحرك الجليل والساحل الفلسطيني فكانت معارك اللد وحيفا ويافا التي أشعرت الصهيوني أنّ الأرض تميد تحت قدميه وأنّ كلّ ما خطط له وأنجزه ينهار بمبادرة من الأجيال الفلسطينية الجديدة التي رفضت التزييف والانقسام والالتحاق بالمشروع الصهيوني، مثلما رفضت الخنوع والذوبان في المجتمع العنصري أو تزيين نظامه العفن بلون الديمقراطية المزيفة التي مثلتها اللوائح الانتخابية العربية.

لقد راهنت «إسرائيل» على تكيّف الأجيال الجديدة مع الاحتلال مثلما راهنت على نسيان الأجيال القديمة للقضية، ولكن رهانها الذي يمثل الصلف والفوقيّة سقط على أبواب المعركة التي رسخت وحدة الشعب الفلسطيني وأسقطت كلّ محاولات التفتيت وطرحت من جديد طبيعة النظام العنصري الذي يختبئ وراء الشعارات الكاذبة للظهور بمظهر الواحة الديمقراطية في المنطقة، فيما هو يمثل أعلى درجات الاستعمار والاستلاب فيها.

لقد فاجأت وحدة الشعب الفلسطيني ومعها وحدة الشعب العربي الكيان الصهيوني وأدخلت القلق وربما اليأس إلى تفكيره حتى أنّ عدداً من الكتّاب الصهاينة اعتبر ذلك هزيمة تاريخية لـ «إسرائيل» وإيذاناً بسقوط مشروعها العنصري القائم على الاحتلال والاستيطان والتزييف والتهجير. فبدلاً من محاصرة الشعب الفلسطيني وتطويق الشعب العربي لشلّ قدرته فوجئت «إسرائيل» بالحصار يرتدّ إليها من الداخل والتطويق يستكمل عليها من «الخارج» بعد هبّة جماهير الأردن ولبنان والعراق وكلّ بلد عربي فضلاً عن البلدان الإسلامية وبلدان العالم في مختلف القارات.

لقد ظهرت «إسرائيل»، وهي تحمل الحراب والبنادق لطرد عائلات «الشيخ جراح» و»حي سلوان» من منازلها بالقوة، انها أصل الشرّ في المنطقة وسبب الحروب والفتن والمآسي فيها. وإذا كان العالم الرسمي ومعه أنظمة عربية لا يعترف حتى الآن بحقّ القدس وحقّ أطفال فلسطين في الخبز والكرامة والاستقلال فإنّ الشعوب وطلائعها الثقافية والسياسية تردّ في الميادين على هذه المواقف البائسة التي لا تخدم أحداً سوى إطالة أمد المعاناة وإطالة عمر النظام العنصري المثقل بالدماء البريئة.

لقد اتفق «الإسرائيليون» مع الأميركيين على اعتبار القدس من القضايا المؤجلة في المفاوضات، واعتبروا أنّ ركنها جانباً قد ينسي الناس مركزيّتها ومحوريتها فجاءت الأيام لتثبت القدس بسواعد أبنائها أولويتها وعظمتها ورمزيتها. ليست المرة الأولى  التي تخطئ فيها «إسرائيل» الحساب معها أميركا. لكن الخطأ الآن كان فادحاً بل قاتلاً وستثبت الأيام أن من يجهل القدس وحقيقتها العربية سيدفع الثمن غالياً.

إنّ كلّ ذلك يفرض علينا في لبنان:

1 ـ التضامن الكامل مع الشعب الفلسطيني حتى يحرّر أرضه ويبني دولته المستقلة.

2 ـ إدانة الممارسات الصهيونية الإرهابية التي تعتمد الإبادة الجماعية وقتل الأطفال وطرد السكان من بيوتهم وبيوت أجدادهم.

3 ـ دعوة العرب شعوباً وحكومات لدعم الشعب الفلسطيني ومؤسّساته ومقدساته وإعادة الحياة الحقيقية للأونروا وسائر الاتفاقيات التي تكرّس حقّ الفلسطيني في أرضه وقدسه.

4 ـ الدعوة لإلزام «إسرائيل» دفع التعويضات للأهالي وتحمّل عبء الخسائر الفادحة التي تسببت بها عبر الحرب الهمجية التي شنتها على الشعب الفلسطيني.

5 ـ العمل على تحسين أحوال الأخوة الفلسطينيين في لبنان وخاصة أهالي المخيمات الذين يعانون الأمرّين على المستوى المعيشي والصحي والبيئي. إنّ التضامن مع فلسطين يكون برفع الظلم عن أيّ فلسطيني في لبنان.

6 ـ دعوة الشعب الفلسطيني الى توحيد صفوفه ومؤسساته وإسقاط كلّ الاتفاقيات وخاصة الأمنية منها التي تكبّل الشعب الفلسطيني ونضاله من أجل تحرير أرضه واستعادة كلّ حقوقه.

*نائب ووزير سابق.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى