إنّه زمن المقاومة والتحرير وتراكم الانتصارات…
العميد د. أمين محمد حطيط*
في موقف تحليليّ تقييمي لمسارات وإجراءات ووقائع شهدتها المنطقة خلال السنوات الـ 21 الماضية، يستطيع الباحث الموضوعيّ أن يتبيّن بوضوح أنّ العصر والزمن الذي بدأ في أيار العام 2000 هو زمن مختلف عما قبله، وأنّ هذا الزمن رغم المآسي والخسائر التي شهدها الإقليم بعده من حروب ودمار وويلات، فإنه تميّز بخصائص تختصر بعبارة اعتمدها السيد حسن نصرالله توصيفاً للواقع: «ولى زمن الهزائم وحلّ زمن الانتصارات»، وهنا وقطعاً للطريق أمام المرجفين والمشككين نقول بأنّ هناك تمايزاً بين مصطلحين، تمايز يجب الالتفات اليه وتجنّب الدمج والخلط فيه، هما عنصر النصر وعنصر كلفة النصر، فالنصر شيء وكلفة النصر شيء آخر، ولا يمكن أن ننظر من باب كلفة النصر لنحدّد إنْ تحقق النصر أو تخلّف، فقواعد تحديد النصر مرتبطة بتحقق الأهداف التي من أجلها نذهب إلى الحرب هجوماً أو دفاعاً، أما الخسائر والتضحيات التي نتكبّدها في الميدان أو في المجتمع فإنها تدخل في باب كلفة النصر، وقد ننتصر أيّ نحقق أهداف عملنا العسكري وتكون كلفة النصر جسيمة، وقد نخسر كثيراً وتعظم التضحيات ومع هذا تلحق بنا الهزيمة.
وفي حالنا الراهن نقول بأنّ المقاومة ومحور المقاومة بكلّ مكوّناته حقق انتصارات كبرى ذات طبيعة استراتيجية عالية السقف، ودفع مقابل ذلك أثماناً لا يمكن إغفالها على الصعيد البشري في صفوف المدنيين والعسكريين والمقاومين والمقاتلين، وهنا نستطيع أن نقول إنّ الانتصارات التي يمكن ذكر أهمّها أدناه لم تكن مجانية ولا يمكن تصوّر أن تتحقق مثل تلك الإنجازات والانتصارات بدون دفع الأثمان، فالقاعدة العامة التي لا بدّ من تذكرها دائماً أنّ الثمن يرتفع بمقدار ما يكون الهدف المطلوب تحقيقه مرتفعاً وهاماً ومن يطلب تحقيق أهداف من طبيعة التحرير وامتلاك السيادة الوطنية والقرار الوطني المستقلّ وتحديد المصير في مواجهة مستعمر وتحالف استعماري يملك كلّ أسباب القوة العسكرية والاقتصادية والسياسية سواها، عليه أن يتوقع ضخامة المعاناة والأثمان التي سيدفعها مقابل ذلك، وأثمان المواجهة تكون مؤلمة لكن النصر إنْ تحقق يخفف من ألمها ثم ينسى الألم، أما الهزيمة فإنها تفاقم ألم الخسائر وتجدده في كلّ موقف تذكر الخسارة فيه.
لقد حققت المقاومة ومحورها وقواها بصنوفها مجتمعة في السنوات الـ 21 الماضية إنجازات هامة على أكثر من صعيد استراتيجي وسياسي وعسكري، وكانت كلّ محطة انتصار تفتح الطريق إلى انتصار جديد وبشكل تراكمي وإذا اعتمدنا التسلسل التاريخي لحدوث ذلك بدءاً من العام 2000 نستطيع تبيّن ذاك الكمّ الكبير من الإنجازات والانتصارات وعلى الوجه التالي:
1 ـ أخرجت «إسرائيل» من لبنان في العام 2000 وحرّرت معظم الأرض في الجنوب اللبناني وطردت «إسرائيل» من أرض عربية محتلة بدون قيد أو شرط حتى وبدون لقاء أو تفاوض، ولم يكن سهلاً على «إسرائيل» أن تطلب اللقاء العسكري الميداني مع لبنان لإقرار تدابير تنفيذ الانسحاب أو التأكيد على الحدود ويأتي الجواب اللبناني بالرفض حيث إنني عندما كنت رئيساً للجنة العسكرية المولجة بالتحقق من الاندحار «الإسرائيلي» رفضت مجرد اللقاء بضباط العدو وتحت أيّ عنوان وفرضنا الانسحاب إلى الحدود الدولية التي ناورت الأمم المتحدة بابتداع خط أسمته أزرق لتحجبها ورفضنا سلوكها هذا باعتبار هذا الخط وهمياً لا يمكن أن يخفي حقيقة الحدود الدولية.
2 ـ أخرجت «إسرائيل» من قطاع غزة في العام 2005، وأعيد رفع العلم الفلسطيني على جزء من أرض فلسطين التاريخية وأدخلت فكرة العودة إلى فلسطين في حيّز الإمكان، ووجهت بذلك رسالة واضحة لكلّ المعنيين بشأن فلسطين بأنّ المقاومة هي طريق ممكن لاستعادة الحقوق حتى ولو كان المغتصب بحجم «إسرائيل» وقوّتها وقوة حلفائها الإقليميين والدوليين الذين يمسكون بقرار العالم تقريباً.
3 ـ مُنعت «إسرائيل» من العودة إلى لبنان في العام 2006، وحالت دون بلوغ «إسرائيل» أهدافها بتفكيك المقاومة فيه ووضع اليد على القرار اللبناني والانطلاق منه لإقامة الشرق الأوسط الأميركي الذي يسقط فيه أيّ حكم استقلالي وطني وجعل الاحتلال الأميركي للعراق يتمدّد ليشمل سورية وإيران أركان محور المقاومة. لقد شكلت هزيمة «إسرائيل»/ أميركا على يد المقاومة في لبنان في العام 2006 محطة تاريخية في الدفاع عن المنطقة وشعوبها وسيادتها وقرارها المستقل.
4 ـ بين الأعوام 2008 و2014، منعت المقاومة العدو «الإسرائيلي» من فرض إرادته على غزة وتفكيك قدراتها العسكرية، وفي جولات القتال الثلاث بقيت المقاومة صامدة تنمّي قدراتها تصاعدياً إلى الحدّ الذي فاجأت فيه العالم في العام 2021 كما سنين.
5 ـ أخرجت المحتلّ الأميركي من العراق في العام 2011 وأسقطت مشروع إنشاء منصة أميركية للانقضاض على سورية وإيران، كما أكدت ما كانت حرب 2006 أرسته من قواعد بأنّ هناك رفضاً سياسياً وميدانياً لتحويل المنطقة إلى مستعمرة أميركية.
6 ـ أما الأخطر فهو ما دار على الأرض السورية منذ العام 2011 حيث واجهت سورية ومعها القوى الرئيسية في محور المقاومة في لبنان وإيران والعراق بالتصدّي للقوى الاستعمارية التي شنّت الحرب الكونية عليها، الحرب التي أريدَ منها تفكيك محور المقاومة وتحويل سورية إلى حارس للكيان الصهيوني يتنازل عن الأرض والحقوق. لكن سورية وبعد 10 أعوام من المواجهة غير المسبوقة في نوعها وحجمها وشراستها تمكنت من الصمود والنجاح في الدفاع وهاهي اليوم تذهب إلى الانتخاب الرئاسي من اجل استكمال الإنجازات المتحققة واستثمار الانتصار وإرسال رسالة واضحة لكل ذوي الشأن بان سورية عصية على العدوان ولن يكون قرارها بيد أحد سواها فشعبها من يقرر لنفسه ولا يتقبل وصاية عليه من أحد أي كان هذا الأحد ولن تسمح بتمرير مشاريع الاستعمار مهما كانت الكلفة وقد دفعت الكثير، ولكنها انتصرت.
7 ـ وفي اليمن كان فعل المقاومة مميّزاً أيضاً حيث أنزلت الهزيمة بالمشروع الأميركي الرامي إلى وضع اليد على اليمن والسيطرة عبره على الثروات والقرار والممرات الاستراتيجية، فكانت المقاومة اليمنية على قدر الآمال المعلقة عليها وهزمت السعودية ومن خلفها ومنعتهم من تحقيق أهدافهم فيه وضاعت على أميركا فرصة حلمت بنجاحها فيها.
8 ـ ومع اكتمال العام الـ 21 لبدء عهد الانتصارات قدّمت المقاومة على أرض فلسطين الأداء الرائع الذي حقق منجزات استراتيجية عظمى وأظهرت كفاءات عسكرية عالية، وقد نختصر ما أنجزت بعبارة انها أجهضت مشروع تصفية قضية فلسطين وأجهزت على صفقة القرن ومفاعيلها وأرست قواعد مواجهة مع العدو الإسرائيلي تقوم على وحدة القضية الفلسطينية ووحدة الشعب الفلسطيني واستحالة تصفية القضية.
هذا التوثيق الموجز يقود إلى القول بأنّ المقاومة التي بدأت فكرة ونمت منظومة وتطورت محوراً ومعسكراً دفاعياً باتت اليوم تشكل مجموعة استراتيجية تحجز مقعدها في نظام عالمي قيد التشكل على أساس التعددية والمجموعات الاستراتيجية وما كان لها بلوغ ذلك لو لم تحقق الإنجازات المتقدمة الذكر، وبات أهل المقاومة وشعوبها يتطلعون إلى مستقبل واعد عنوانه منطقة لأهلها وقرارها بيد أبنائها… إنه زمن الانتصارات وسلسلة الإنجازات التي مكّنت من تحقيق هذه الأحلام.
*أستاذ جامعي – خبير استراتيجي.