أولى

قراءة أولية في نتائج «سيف القدس»: «إن عدتم عدنا» (1)

 زياد حافظ*

منذ اللحظات الأولى في المواجهة الأخيرة بين أهلنا في فلسطين، كلّ فلسطين، والعدو الصهيوني المتمثل بعصابات المستعمرين وقوّات الاحتلال، كنّا على يقين أنّ الأحداث بحدّ ذاتها كانت بضخامة تحرّك الصفائح التكتونية التي تخلق الزلازل والبراكين وتخفي القارات بأكملها. وبغضّ النظر إذا كانت المواجهة إحدى أو جميعها من مظاهر التحرّك التكتوني فمما لا شك فيه أنّ المعادلات الفلسطينية والعربية والإقليمية والدولية تغيّرت إلى ما لا رجعة. فمحو عار النكبة ومن دعمها أصبح في متناول اليد والمسألة لم تعد مسألة «إذا» بل مسألة «متى» وأن تلك الـ «متى» أصبحت قريبة جداً. فللمرّة الأولى لا يمكن القول إن هذه الحرب على غزّة التي شنّها العدو بل وحّدت فلسطين أجمع حيث كانت صواريخ المقاومة تدّك كل معاقل العدو في كل فلسطين، فلم يعد الكلام عن «غزّة» أو الضفّة الغربية، أو القدس، أو فلسطين المحتلّة يحمل معاني التجزئة بل مقاطعات لكيان واحد وهو فلسطين العربية من البحر إلى النهر.

وبالتالي كان لا بد لنا من وقفة تأمل لمقاربة بعض دلالات الحرب ونتائجها لأنها مفصلية في تاريخ الصراع العربي الصهيوني وليس فقط من منظور المواجهة بين الفلسطينيين والعدو التي تتصدّر المشهد. فصحيح أنّ الميدان العسكري كان بين الفلسطينيين والعدو ولكن المشاركة الشعبية من المحيط إلى الخليج التي ظهرت خلال العشرة الأيام المجيدة من تلك الحرب أعادت ذكرى الجماهير العربية التي كانت تهبّ في المناسبات الكبيرة في الخمسينيات والستينات من القرن الماضي نافية بشكل مطلق كافة الادّعاءات التي تبجّحت بتغييب الجماهير العربية لتدعم زعمها بخروج فلسطين من الوعي القومي. فالمجابهة الأخيرة أكدّت أنّ المعركة معركة قومية بكلّ أبعاد الكلمة رغم أنف كلّ من تباهى بتراجع القضية أو أراد حصرها بين «فلسطينيين» والكيان. ففلسطين البوصلة، وفي طليعتها القدس، كانت وما زالت وستستمر كالقضية المركزية الأولى في أمتنا العربية. بل نؤكّد أكثر من ذلك أن لن يكتمل الاستقلال العربي، السياسي والاقتصادي والثقافي، إلاّ مع تحرير فلسطين من البحر إلى النهر. فتحرير فلسطين هي قضية وجود ليس فلسطين فحسب بل الأمة العربية بأكملها.

وفي ما يتعلّق بالدلالات والتداعيات للمواجهة الأخيرة هناك شبه إجماع على العديد منها عند المراقبين سواء كانوا من المؤيّدين لخيار المقاومة والمقاومة نفسها أو من الطرف الآخر. والدلالات هي على مستويات عدّة: أولا المستوى الفلسطيني، وثانياً مستوى الكيان المحتلّ، وثالثا المستوى العربي، ورابعاً المستوى الإقليمي، وأخيراً المستوى الدولي، وجميع هذه المستويات متداخلة يصعب الفصل بينها.

فعلى صعيد المستوى الفلسطيني نجد أنه للمرة الأولى كانت المبادرة العسكرية منذ بداية المجابهة بيد المقاومة حيث استطاعت الرد بندّية لم يكن يتوقّعها العدو وحلفاؤه الدوليون ومن بعض العرب. وهذه المبادرة كانت في مبادرة المقاومة على تسمية المواجهة بـ «سيف القدس» بينما في السابقة كان العدو في جميع مواجهاته في فلسطين ولبنان يطلق الأسماء. لم يفلح الكيان المحتلّ هذه المرّة لأنه أُستدرج إلى مواجهة لم يكن متحضّراً لها وبالتالي غابت عنه فرصة التسمية. لكن بعيداً عن حرب المبادرات في التسمية تظهر الحقيقة أن المبادرة الميدانية والسياسية كانت لأول مرّة في تاريخ الصراع بيد المقاومة. فوقف إطلاق النار بشكل أحادي من قبل الكيان المحتلّ دون تحقيق أي هدف عسكري وسياسي هو بمثابة إقرار بالهزيمة وإن لم يجرؤ رئيس وزراء الكيان المحتلّ على ذلك. بل جاء الإقرار من خصومه السياسيين كـ أفيغدور ليبرمان على سبيل المثال وليس الحصر. وتصريحات نتنياهو حول «تدمير كل البنية التحتية الصاروخية» و»قتل جميع قيادات المقاومة» تثير السخرية، فكيف يمكن لاستشهاد الأطفال والنساء «قتل القيادات»؟ هذا برسم المحكمة الجنائية الدولية للتحرّك في هذا الموضوع.

وهذه الظاهرة الجديدة في اتخاذ زمام المبادرة لقصف مواقع الكيان أظهرت أيضاً فاعلية القدرات العسكرية الفلسطينية المقاومة كما كشفت الإخفاقات الاستخباراتية لدى الكيان المحتل الذي لم يستطع إسكات منصّات إطلاق الصواريخ رغم كثافة الغارات ولم تستطع «قبته الحديدية» بمنع سيل الصواريخ. وهذه الظاهرة ستكون لها انعكاسات خاصة على صعيد أمن الكيان المحتل وعلى صعيد تسويق الشبكة من قبل الأميركيين خاصة أنها تأتي على اعقاب الإخفاقات في منع صواريخ الحوثيين من الوصول إلى أهدافها في بلاد الحرمين. من جهة أخرى، فإن دقّة الصواريخ دلالة عن وجود تقنّيات متطوّرة تملكها المقاومة تلغي فرضيات الحصار على قطاع غزّة خاصة إن تأكّد وجود العقول التي تستطيع أن تصنّع وتطوّر ما لديها من إمكانيات عسكرية. وما لفت نظرنا كمراقبين غير عسكريين هو استيعاب المقاومة للتكنولوجيات المتقدمّة المتمثلة بشبكة الصواريخ وعدم التخلّي في آن واحد عن التكنولوجيات البدائية إضافة إلى استراتيجية ذكية في إطلاق الصواريخ التي استنزفت قدرات «القبةّ الحديدية» ومنعت في آن واحد فعّالية تلك القبة. فمن جهة هناك الصواريخ الدقيقة المتطوّرة ومن جهة أخرى هناك الشبان الفلسطينيون يرشقون شرطة الكيان المحتلّ بالحجارة عبر المقالع. فداوود الفلسطيني يهزم جالوت الصهيوني من دون أن يستطيع الأخير أن يعدّل شيئاً! هذا وقد أشار العديد من الخبراء العسكريين إلى أن كلفة الصواريخ هي جزء بسيط من الكلفة التي يتكبدّها الكيان المحتل بكل طلعة لطائراته ولإطلاق صواريخه الأميركية.

الظاهرة الأخرى على المستوى الفلسطيني هي وجود غرفة عملية مشتركة ليست فقط بين الفصائل الفلسطينية المقاومة لكن أيضاً بين مكوّنات محور المقاومة في المنطقة، ما يدل على الجهوزية والتقدّم في التنسيق وأن المواجهة لم تعد بين الكيان المحتل وفلسطين بل مع كل محور المقاومة. من جهة أخرى ما يدعم فعالية تلك الغرفة وحدة الموقف الفلسطيني الداعم بشكل كامل للمقاومة ولخيارها في مواجهة الكيان المحتل.

الظاهرة الثالثة على المستوى الفلسطيني هي أن المواجهة المستمرّة بين أهلنا في فلسطين وعصابات المستعمرين المستوطنين ووحشية تلك العصابات ساهمت إلى حد كبير في كشف الزيف الصهيوني لدى الرأي العام الدولي. والمواجهة المستمرة التي لم تتوقف يوماً وإن كانت تمرّ بوتائر مختلفة تدلّ للقاصي والداني في الغرب أن هناك شعباً يناضل من أجل التحرّر من الاحتلال وليس للحصول على «حقوق». فحقيقة المشهد هي أن معركة تحرّر وليس معركة نبذ العنصرية كما يريد بعض المريدين اختزال بل حصر الصراع في مواجهة العنصرية في الكيان من دون المساس بوجود الكيان المحتل. فلا تعايش ممكن مع كيان استعماريّ استيطانيّ محتل وإن نزع عن نفسه العنصرية!

الظاهرة الرابعة على صعيد المستوى الفلسطيني هي أن وقف إطلاق النار من قبل كيان العدو المحتلّ دون أن «يقبض» ثمناً سياسياً وعسكرياً هو إقرار بالهزيمة. ما يميّز هذه الجولة من الصراع مع الكيان المحتل هو غياب قرار أممي بوقف إطلاق النار وغياب «شروط» لتثبيته. ما تقول المقاومة للكيان الصهيوني وللمجتمع الدولي هو «إن عدتم عدنا». (قرار 1701 الذي أوقف العمليات العسكرية وليس وقف إطلاق النار) للعدوان الصهيوني على لبنان كان مرفقاً بـ «شروط» بينما القرار الأحادي الصهيوني لم يحمل أي شرط إلا ادّعاءات فارغة ومضحكة من «نصر» حققّه رئيس وزراء الكيان. هذا دليل واضح أنّ ميزان القوّة قد بدأ يميل لمصلحة المقاومة وهذا هو المتغيّر الاستراتيجي الذي أفرزته معركة «سيف القدس». وهذا التحوّل في ميزان القوّة على الصعيد الفلسطيني هو أحد مظاهر التحرّك التكتوني الذي أشرنا إليه في مطلع هذه المقاربة.

الظاهرة الخامسة التي تدلّ بشكل قاطع على التحوّل التكتوني هو تصريح أحد القادة العسكريين للكيان المحتل لصحيفة «معاريف» الصهيونية هي خشيته من أن تقتحم المقاومة في غزّة الشريط الفاصل مع فلسطين المحتلة وأن تتوغّل المقاومة وتحتل مواقع في الغلاف الغزّاوي. والمفارقة هنا هي بين كلام رئيس وزراء الكيان المحتلّ الذي يهدّد تسوية غزّة بالأرض وخشية القادة العسكريين من «احتلال» المقاومة للغلاف العزّاوي. فلأوّل مرّة نشهد ثقافة الهزيمة تغزو عقول القادة العسكريين.

الظاهرة السادسة التي تؤكّد على ما نقوله في الفقرتين السابقتين تصريح الرئيس الأميركي جوزيف بايدن بأن «لا سلام في المنطقة» دون الاعتراف بحق الوجود للكيان المحتل وإن الحل هو «حلّ الدولتين». فبهذا التصريح ينسف الرئيس الأميركي اتفاقيات كامب دافيد، واتفاقية أوسلو، واتفاقية وادي عربة، والاتفاقات الإبراهيمية التي اعترفت بحق الوجود وكأنها لم تعد كافية أو صالحة! فبالنسبة للرئيس الأميركي ما زال القبول بوجود الكيان مسألة جوهرية لإحلال سلام وأن هذا القبول غير موجود!

الظاهرة السابعة على المستوى الفلسطيني هو إلغاء مفاعيل وعد بلفور وإلغاء مفاعيل النكبة وإلغاء مفاعيل نكسة 1967 ليس على صعيد الانتصار فحسب، بل على صعيد توحيد الأرض الفلسطينية التي أصبحت موحّدّة وإن كانت تحت الاحتلال. هذا متغيّر استراتيجي ينقض قرناً من الفرضيات والتعامل السياسي العربي والإقليمي والدولي. فكيف يمكن للخارج أن يميّز اليوم بين غزّة واللد والضفة الغربية؟ وحدة المقاومة تلازمت مع وحدة الأرض، ووحدة الأرض في فلسطين تنذر بحتمية وحدة أرض الأمة العربية وإلغاء مفاعيل سايكس بيكو في المشرق العربي وإرث التجزئة الاستعمارية في المغرب العربي وفي الجزيرة العربية. فالجماهير العربية التي خرجت لنصرة فلسطين في الأمس واليوم وفي الغد تقول ذلك، فوحدة الأمة هي تحرير فلسطين وتحرير فلسطين يوحّد الأمة. ليست هذه أحلام كما سيسارع البعض ومروّجو ثقافة الهزيمة بل قراءتنا الموضوعية للتحوّلات التي نشهدها. مَن كان ليصدّق أن العدو سيخرج مذلولاً من لبنان، وها نحن على عتبة الاحتفال بذكرى الحادية والعشرين للتحرير؟ من كان يصدّق أن المقاومة في العراق ستفشل المشروع الأميركي في المنطقة لصالح الكيان؟ من كان يعتقد أن بإمكان المقاومة الصمود أمام العدوان الصهيوني في تموز 2006 رغم التآمر الداخلي والعربي عليها؟ من كان يعتقد أن سورية ستصمد وتنتصر على العدوان الكوني عليها خلال عشرية سوداء مدمرّة؟ من كان يعتقد أن قوى التحالف العدواني المدجّج بالسلاح الفتاّك سيفشل في اليمن؟ من كان يعتقد أن صواريخ اليمن ستدكّ آبار النفط في أنحاء بلاد الحجاز ونجد وأنها قد تصل إلى فلسطين؟ كل ذلك تحقّق وكنّا على يقين من تحقيقها منذ اللحظات الأولى. فلماذا التشكيك بإمكانية النصر وتوحيد الأمة؟

وأخيراً وليس آخراً فإنّ المواجهة مع الكيان المحتلّ أظهرت أن قرار المقاومة هو القرار الصحيح وأن التفاوض مع الكيان هو أمر عبثي يجب التخلّي عنه اليوم قبل الغد. وفي رأينا سيتم التخلّي عن ذلك النهج بسبب تآكله من جهة، وبسبب عدم صدق من يروّج لذلك على الصعيد الدولي والعربي. فمن يدّعي التمسّك بالشرعية الدولية وقف ساكتاً أمام انتهاكات الكيان المحتل لتلك الشرعية كما أن الداعم الأكبر للكيان أقر بأن الاتفاقيات المبرمة مع بعض الدول لم تفِ بغرضها، وأن ليس لها ما تقدّمه كم سنشرحه في مقاربة لاحقة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*باحث وكاتب اقتصادي سياسي والأمين العام السابق للمؤتمر القومي العربي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى