أخيرة

هكذا وعيتُ فلسطين!!

} زياد كاج*

 لطالما سألتُ نفسي: «متى وعيتُ فلسطين؟ وكيف تحوّل ذلك الوعي من مجرد اسم وخريطة الى مفهوم ذي محتوى جذوره ضاربة في التاريخ، وإلى قوس قزح من البطولات والتضحيات وصلابة الإرادة وصبر يهزّ الجبال يعد بغدٍ مشرق لشعب أدارت له معظم أمم هذه الأرض ظهرها ببرودة ولا مبالاة خبيثة؟».

«على هذه الأرض، ما يستحق الحياة»، قالها الشاعر الفلسطيني الكبير محمود درويش ويمّم شطر عالم اللاوجود.

  أول مرة رأيت فيها خريطة فلسطين كانت في بيت الأهل في رأس بيروت. ملصقة على الجهة الداخليّة لخزانة غرفة النوم الوحيدة.

الذين سكنوا الشقة قبلنا حاولوا عبثاً انتزاعها؛ فعمدوا الى طلاء الخارطة – العلم. لكنها بقيت واضحة للعيان؛ وكنت قادراً ـ وأنا بعد صغير ـ أن أميّز الألوان الأربعة، خاصة اللون الأحمر.

ليلة 10 نيسان سنة 1973 اغتال الموساد الإسرائيلي ثلاثة قادة فلسطينيين في حيّنا: كمال عدوان، كمال ناصر وأبو يوسف النجار. عشنا ليلة رهيبة من الرعب متكوّمين على الأرض في غرفة الدار وأصوات الرصاص والقنابل وصراخ الجرحى يكسر سكون تلك الليلة التي يصعب أن أنساها. كان أيهودا بارك قائد العمليّة التي أدّت الى استقالة رئيس الحكومة صائب سلام لتقاعس الدولة عن التدخّل. فثكنة الدرك كانت لا تبعد عن مسرح العملية سوى مئات الأمتار.

بدأت علامات الاستفهام والأسئلة الصعبة تكبر في رأسي؟ لم أعرف يومها لماذا قتلوا «جيراننا» ولا مكانتهم النضاليّة. حتى أنني لم أعي خطورة الصراع القائم بين الكيان الغاصب ومنظمة التحرير الفلسطينية!

في المدرسة الرسمية – كان اسمها «ثانوية رمل الظريف» – وعيت أكثر على الحياة السياسية في البلد وأجواء الحرب الأهلية وسط عدد هائل من الأحزاب المتنافسة على اكتساب الطلاب. حركة «فتح» كانت الأقوى. لكنني ملت أكثر الى الجبهة الشعبية لميل في شخصيتي للمعارضة وشيء من اليسارية. أعجبني الدكتور جورج حبش وشاهدته خطيباً في إحدى المناسبات في كلية الحقوق قرب الصنائع. وكانت لي أول دورة عسكرية من الصباح إلى المساء مع تنظيم فلسطيني في أعالي تلال الشبريحا المطلة على مدينة صور. يومها رأيت وحملت السلاح لأول مرة.

كانت لنا جيرة في البناية مع عائلة فلسطينيّة هربت من جحيم القصف على منطقة صبرا. كان الاحتكاك الإنساني الأول. عائلة كادحة تتألف من شابين وثلاث بنات. وكانت بيننا زيارات. بعد سقوط مخيم تل الزعتر، حدث أنني كنت في دارهم. رأيت الدموع وحالة الغضب على وجوههم، خاصة الأخوة الشباب. فنشأت عندي حشريّة لمتابعت أخبار المخيم الذي لم أسمع به من قبل. ومن الصور التي تابعتها في صحيفة «النهار» عن الناجين والجرحى الذين نقلهم الصليب الأحمر الى معبر المتحف، شعرتُ كمراهق أن أمراً فظيعاً ووحشياً حصل في المخيم.

وحتى  قبلتي الأولى ـ مع حواء الأولى ـ كانت فلسطينية. يا لجنون الحرب!

ضرب الموساد الإسرائيلي ضربته الثانية في شارعنا سنة 1979 عندما اغتال المناضل والقائد الفلسطيني علي حسن سلامة (أبو حسن) رداً على مشاركته في التخطيط لعملية ميونخ الشهيرة، حسب الرواية الإسرائيليّة. ففجّرت عميلة الموساد – التي ادّعت أنها رسامة أجنبية وسكنت في بناية كاشفة في شارع الصنوبرة – سيارة الفولزفاكن البيضاء المفخخة والمركونة قبالة مدخل بنايتنا. استشهد سلامة ومعه مرافقوه وعدد من المارة وهو في طريقه الى منزله، حيث كانت زوجته جورجينا رزق في انتظاره. اُصيب شارعنا بما يشبه الزلزال ولم يبقَ باب شقة في بنايتنا إلا وخُلع من مكانه من شدة الانفجار.

أصبحت فلسطين ورموزها جزءاً من وعيي الخاص والعام. فلسطين بكل رموزها: الكوفيّة، الأغاني الثورية، أبو عمار، وجورج حبش، وأغاني مرسيل خليفة وأغنية «أيار يخبر أيلول، والليل عنا ما يطول، فدائيي وحاملين سلاح، نرمي سلاحنا مش معقول.. مش معقول». ثم وقع الاجتياح الإسرائيلي سنة 1982 وكان التحول الكبير والمفصلي. تطوّعت في الدفاع المدني أنا وشلة من الأصدقاء. فتح الأستاذ قيصر حداد (وهو فلسطيني وشقيق وديع حداد القائد المعروف) أبواب مدرسته «الروضة» التي تحوّلت الى مقر لجهازنا. خلال الاجتياح غامرنا كثيراً؛ وعملنا في كافة مهام الإسعاف والإغاثة. شهدنا القصف بالطيران وبالبوارج والمدفعية. صرت مقتنعاً أن الإسرائيلي في حروبه لا يميز بين عسكري أو مدني، ولا بين مسلم أو مسيحي، وأن نقطة دم جندي تساوي عندهم ألف لبناني! كدنا نقتل مراراً؛ وعشنا الاجتياح كمغامرة مراهقين. نلعب مع الخطر لعبة أهل إسبانيا مع الثور الهائج.

بعد مجزرة صبرا وشاتيلا؛ كانت الصدمة كبيرة والجلل عظيم. شممتُ رأئحة الموت والجثث المتعفنة والمتحللة لأول مرة. بصعوبة عملنا مع غيرنا من المتطوّعين على إجلاء جثث الكبار من نساء ورجال وأطفال وشباب. حتى اليوم لا أنسى تلك المشاهد ولا تلك الوحشيّة التي قُتل بها أهل صبرا وشاتيلا بالسلاح الأبيض والرصاص والبلطات. والجيش الإسرائيلي كان مشاركاً في قصف ومحاصرة المخيم وهو مَن أمّن المعدات والغطاء العسكري والجرافات لطمر الجثث في حفر عميقة. يا لعار الإنسانية من مجزرة صبرا وشاتيلا! تسببت لي ولغيري بأزمة وجودية واختلفت مع «الله» لفترة طويلة. ضحايا المجزرة العزل ماتوا مرات ومرات قبل أن يقتلوا بدم بارد لا يعرف الرحمة. كانوا عزّلاً أمام آلة متوحشة هدفها القتل والمزيد من القنل.

في الجامعة اللبنانية سنة 1983 كانت لي صداقات مع أصدقاء فلسطينيين كثر. ووقعت «حرب المخيمات»!! فصرت أسأل نفسي: «لماذا هذه الحرب؟ وما هي أهدافها؟». هالني ما أصاب الشعب الفلسطيني ووجدت فيها تبريراً للإسرائيلي لما اقترفه في صبرا وشاتيلا. لم أفهم خلفية تلك الحرب التي لم يخرج منها طرف رابح. فقط «إسرائيل» غسلت بها يديها الوسختين أمام الرأي العام الأميركي والأوروبي. وكما كانت قبلتي الأولى فلسطينية، كذلك كان حبي الجامعي والخطير الأول! قدر مكتوب.

سنة 2009، سافرت الى الصين ممثلاً لبنان في «مؤتمر تشنغهاي الشعري العالمي» موفداً من وزارة الثقافة بفضل جهود الشاعر الصديق نعيم تلحوق. مشوار الصين متعب؛ 12 ساعة طيران. ثم رحلة داخلية إضافية. هناك رأيت لأول مرة العلم الإسرائيلي بنجمته الزرقاء يرفرف أمام الفنادق! استفزني المشهد كثيراً. لكن الأصعب كانت مشاركة وفد إسرائيلي في المؤتمر. خلال جلسات الافتتاح تحدّثت «الشاعرة» الإسرائيلية بأسلوب «الضحية». صارت النار تغلي في عروقي. وهي حاولت ومن معها أن تشاركنا طاولة العشاء بحجة أنها ترغب بتجربة الطعام «الحلال»! رفضت رفضاً قاطعاً.

وفي جلسات المؤتمر، تحدثت شاعرة فلسطينية من الداخل. فأتت كلمتها أشد وقعاً ونالت تصفيقاً حاداً. برد قلبي؛ وقلت إن هؤلاء يفهمون عقليّة المحتل ويعرفون كيف يستخدمون معه الأسلوب نفسه. وإن الخطر على الكيان الغاصب يكمن أولاً بيد فلسطينيي الداخل.

سنة 2021 نشرت روايتي عن مجزرة صبرا وشاتيلا بعنوان «أمر فظيع يحصل» (دار نلسن) وقد لاقت استحساناً، خاصة وسط الجمهور الفلسطيني المحلي. عاندتني جائحة الكورونا وتأجّل معرض بيروت للكتاب العربي.

أمي كانت تقول لي وأنا صغير «إن الفلسطينيين باعوا أرضهم لليهود» وهو ما كانت تسمعه من كبار الضيعة. وللأسف، لا يزال البعض اليوم يروّج لهذه المقولة التي تفتقد الدقة التاريخية. لقد علّمني الاجتياح الإسرائيلي سنة 1982 والمجزرة أنا ما نتابعه اليوم من قصف وقتل وتدمير واعتداءات على الشعب الفلسطيني في غزة وبقية الأراضي المحتلة ليس هو فيلم هوليوودياً. بل إن «شعب الجبارين» يسطّر اليوم صفحات بيضاء من تاريخ نضاله الطويل بالدم والأجساد العارية.

إسرائيل ـ الكيان الأكذوبة ـ في وهن وضعف اليوم؛ هي في حيرة وتردد أمام بركان حرّكت حممه بنفسها. الرايات الفلسطينية ترفرف عالياً في فلسطين اليوم وفي كل أنحاء العالم. خرجت من خزانة شقتنا. حبل الكذب مهما طال يبقى قصير.اً

ما ضاع حق وراءه مطالب.

*روائي من لبنان.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى